التوتر الذي يسبق الطمث

كثيرا ما تلم بالمرأة قبل الطمث توتات لها تأثيرات جسمية ونفسية تضايقها، فتسعى إلى الطبيب بحثا عن تفسير وعلاج لحالتها، ولكنها في الغالب لا تجد إلا عبارات مطمئنة، ووصفات علاجية قد تنجح في التخفيف من هذا التوتر، وقد لا تنجح. فهل هناك تفسير لهذا التوتر وتأثيراته؟ وما علاجه؟

يوجد الكثير من الظواهر والأعراض المرضية تحدث لدى المرأة، وتؤثر تأثيرا مباشرا وغير مباشر على حياتها، وعلى علاقاتها الأسرية والاجتماعية، والوظيفية، ولم تستطع الدراسات والبحوث الطبية أن تقف على مسبباتها.

وظاهرة "التوتر النفسي والجسماني" التي تعاني منها الغالبية العظمى من النساء، قبيل موعد الطمث، واحدة من الظواهر الغريبة التي لم يفسر حدوثها تفسيرا طبيا معقولا متفقا عليه، عدا وصف التغيرات التي تحدث في الجسم في أثناء حدوثها، وبدون أن تعد هذه التغيرات مسببات أساس لها. ولتبرير يأسهم، ذهب بعض الباحثين إلى القول بأن هذه الظاهرة لا وجود لها.

وضمن الحياة العامة والعملية قد تتسبب هذه الظاهرة في حدوث مضاعفات سيئة على العمل الوظيفي، وبخاصة في قطاع المصانع التي يشكل العنصر النسائي الغالبية فيها، إذ يتأثر إنتاجها سلبيا بسبب غياب العاملات اللواتي يعانين من هذه الظاهرة. ناهيك عما تتعرض له المريضات من حالات الهياج العصبي، وفقدان السيطرة الذي دفع بعضهن إلى محاولة الانتحار، أو إلى ارتكاب جرائم قتال. وفي دراسة ميدانية أجرتها الدكتورة مورتون في عام 1950، ونشرت في المجلة الأمريكية لأمراض النساء والولادة آنذاك، وجد أن 62% من نزيلات السجون في أمريكا بسبب العنف، قد قمن بالاعتداءات العنيفة في أثناء فترة هي من أسبوع إلى عشرة أيام، قبل الطمث.

وقد أيدتها طبيبة أخرى من بريطانيا في هذا البحث، وأضافت ملاحظة أخرى، هي أن النساء اللواتي حاولن الانتحار، لأسباب غير معروفة، بلغن سبعة أضعاف أولئك النسوة اللواتي حاولن الانتحار بعد انتهاء الحيض.

تشخيص الأعراض

ولم يستطع الأطباء آنذاك الوقوف على الأسباب المباشرة، إلا أنهم جميعا متفقون على أن هذه الظاهرة تتصف بواحدة أو أكثر من الأعراض التالية: على المستويين النفسي والعصبي: كآبة، توتر شديد، عصاب، صعوبة في التركيز أو اتخاذ أي قرار، تغيير ملحوظ في المزاج العام، تغيير في الشخصية.

وعلى المستوى الجسماني: آلام غامضة في مختلف أنحاء الجسم، تورم وانتفاخ في الثديين والبطن، زيادة في الوزن، أحيانا بقع نزف دموية تحت الجلد، تشنجات تشبه الصرع. وهكذا شغلت هذه الظاهرة الأوساط الطبية سواء في أسبابها أو طريقة علاجها، وما تزال كذلك.

وأنت سيدتي قد تتفاعلين مع مثل هذه الأعراض التي تسبق الطمث ، وقد تعانين من واحد أو من اثنين من هذه التغيرات بدرجات مختلفة، قد تكون سببا في الخلافات العائلية التي تمرين بها إن وجدت، فماذا نستطيع أن نقدم لك بهذا الخصوص، لتفهمي بعض جوانب هذه الظاهرة؟

لنحاول أن نبسط، قدر المستطاع، صفات هذه الظاهرة، وما تسببه من إزعاج على مختلف المستويات. فقبل نصف قرن تقريبا وصفها الدكتور " فرانك " على أنها ظاهرة توتر نفسي وعصبي شديد، يسبق الطمث بفترات مختلفة، وكانت الأعراض الأولى التي وصفها هي: صداع شديد، وتورم في الأطراف، مع زيادة ملحوظة في الوزن، نادرا ما تكون مصحوبة ببقع نزف دموية صغيرة تحت الجلد، أحيانا تشنجات عضلية تشبه الصرع. ثم أضاف إليها أطباء آخرون، أعراضا أخرى، كالشعور بالانتفاخ في البطن، وفي الثديين، مع تغيير ملحوظ في الرغبة الجنسية. كما أن " وندى كوبر" - إحدى سيدات المجتمع البريطاني - التي ركزت كثير على الدراسة والمشاهدات التي لها علاقة كفرد في المجتمع من مختلف جوانبها، وبخاصة الصحية منها، قد درست عن قرب بعض جوانب هذه الظاهرة، وخرجت بتصور مفاده أن هناك تغييرا يحدث في مستوى بعض الهرمونات التي قد تكون السبب، وقد يبدأ هذا التغيير منذ مرحلة النضج أو بعد ولادة الطفل الأول، ولاحظت أن التوقيت في ابتداء ظهور الأعراض ثابت باليوم نفسه من الدورة الطمثية.

لقد كانت ملاحظاتها تشير إلى انخفاض هرمون "البروجستيرون" المنطلق من المبيضين بعد عملية التبويض، في منتصف الدورة الطمثية تقريبا. وأيدتها بذلك الدكتورة " والتون " وطبيب بريطاني آخر، وأضاف اعتقادا آخر وهو: التغييرات التي تحدث في الهرمون الفارز للبن من الغدة النخامية والاختلاف في تمثيل مادة البيريدوكسين" ، وهي (فيتامين ب 6)، ولكنه أثار سؤالا مهما، هو: ما سبب انخفاض هرمون "البروجستيرون" في المبيضين؟ هل ذلك بسبب اختلال الهرمونات الأخرى من الغدة النخامية؟ وبدأ سلسلة أخرى من البحوث لتحليل الأعراض المذكورة، كل منها على حدة، وربط علاقة كل منها باختلال توازن الهرمونات.

البحث عن تفسير

هرمون "البروجستيرون" الذي يفرزه المبيضان في وقت معين من الدورة الطمثية له واجب ثانوي هو: عدم السماح بحبس سوائل كثيرة في الجسم، معارضا بذلك عمل هرمون آخر، يعمل على حبس الماء في الجسم. فإذن قد يؤدي انخفاض مستوى هرمون " البروجستيرون " إلى تغلب الهرمون الآخر المسبب لحبس الماء في الجسم، ومن ثم علاقته السببية بظاهرة التوتر هذه.

ثمة تفسير ثان لتأثير عدم توازن بعض الهرمونات على العمليات التمثيلية، الخاصة بنوع من المركبات الأمنية في المخ، مما يؤدي إلى التغييرات النفسية الحادة. وعلى هذين التفسيرين بادر هؤلاء الأطباء لعلاج حالات التوتر هذه، بإعطاء المريضة عقاقير تزيد التبول، أي إفراز السوائل الزائدة من الجسم، مضافا إليها بعض المركبات، مثل فيتامين (ب 6) التي تساعد في الحفاظ على سلامة العمليات التمثيلية في المخ، فحققوا بعض النتائج المشجعة في التخفيف من درجة الكآبة.

من ناحية ثانية، قام أحد الأطباء البريطانيين بدراسة العلاقة بين ظاهرة التوتر الشديد قبل الطمث، وحالات الإصابة بالأمراض النفسية الأخرى. وكان الغرض من تلك الدراسة وضع تصور كامل للعلاقة بين الحالتين، وبيان ما إذا كانتا مرتبطتين، إلا أن الدراسة أثبتت أن الكثير من المريضات المصابات بأمراض نفسية لم يشكون من ظاهرة التوتر التي تسبق الطمث، كما أن النساء اللواتي يعانين من ظاهرة التوتر لسن بالضرورة مصابات بأمراض نفسية. وبهذا تضع هذه الدراسة حدا للهروب من معالجة ظاهرة التوتر قبل الطمث، وتبرير حدوثها لأمراض نفسية.

وكما هي العادة في دراسة أي ظاهرة غريبة فقد بحثت علاقة الهرمونات الأخرى، سواء التي تتكون في المبيضين، أو التي تفرزها بقية الغدد الصماء، بما فيها غدة تحت المهاد، وكذلك درست علاقة بعض الفيتامينات مثل فيتامين " ب 6 "، والمركبات المختلفة التي لها دور في العمليات التمثيلية في الجسم، إلا أن تلك البحوث والدراسات لم تستقر على أي منها على أنها سبب مباشر لحدوث هذه الظاهرة، ولكن اتفق الباحثون على أن للمبيضين دورا فعالا في ذلك ؛ ففي حالات السيدات اللواتي استؤصل المبيضان منهن لم يشكون بعد ذلك من أعراض هذه الظاهرة.

ملاحظات واحتمالات

ثمة خطوة مهمة تفيد الطبيب المعالج بشكل ملموس، وهي اللجوء إلى التحليل الدقيق لكل جزء من شكوى المريضة، لأن غالبية النساء قد يعانين من تغيرات بسيطة، قبيل حدوث الطمث، ليست مرتبطة بأعراض هذه الظاهرة، فالخلط بين الحالتين قد لا يؤدي إلى تشخيص دقيق، فالأعراض البسيطة المألوفة قد لا تحدث بانتظام، بينما تحدث أعراض ظاهرة التوتر قبل الطمث، ونحن بصدد الحديث عنها بانتظام وتوقيت واحد كل مرة. والنساء لا يفرقن بين كلتا الحالتين، إلا أن الطبيب الحاذق الدقيق في تحليله، قد يستنبط أن ما تشكو منه السيدة هو هذه الحالة أو تلك، وقد يلجأ لتنظيم قائمة بالأعراض والعلاقات المميزة لكل منهما، ويعتمد على الاستبيان فيها. لقد صمم أحد الأطباء البريطانيين قرصا خاصا، يحمل على أحد وجهيه تعليمات الاستعمال، وعلى الوجه الثاني الأعراض والعلامات المميزة لشكوى المريضات، ودرجة شدتها، ويعطي هذا القرص للسيدة، ويطلب منها أن تدقق بنفسها تطابق الأعراض والعلامات المذكورة مع حالتها، وبالتالي تخرج برقم كمي يستنبط منه الطبيب أو حتى السيدة نفسها مدى شدة الحالة عندها. إلا أن محصلة النتائج لم تكن مشجعة، لأسباب عدة، منها اختلاف تفاعل السيدات مع الأغراض المذكورة، فمنهن من تعد الأعراض شديدة جدا، بينما تعدها الأخريات عادية خفيفة، وبذلك يضيع الحد الفاصل بين الطبيعي وغير الطبيعي. ملاحظة أخرى سجلها أحد الأطباء البريطانيين، وهي أن 40% من النساء المتزوجات اللواتي يعانين من هذه الظاهرة قد يصبن بنوع من الاكتئاب الشديد، بعد ولادة أي طفل، بينما وجد هذا الطبيب أن 10% فقط من النساء اللواتي لم يشكون من هذه الظاهرة قد يحدث عندهن حالات الاكتئاب هذه. وطبيعي أن تختلف النساء في هذا، حسب معايير أخرى، كالبيئة والمجتمع مثلا أو الوضع النفسي الخاص، أو الحالة العائلية، أو حتى البناء الجسماني في بعض الأحيان. ثمة دراسة أخرى ذكرت أن حوالي 70% من البنات الشابات يعانين من هذه الظاهرة، لأن أمهاتهن بالأصل مصابات بها. وبالمقارنة فإن حوالي 30% من البنات المصابات لا تشكو أمهاتهن منها.

البحث عن علاج

إذن يعتمد العلاج على دقة التحليل لهذه الأعراض، والخروج بنتيجة مؤكدة لتشخيص الظاهرة، ومع ذلك فليس العلاج أسسا وقواعد ثابتة، بل يعتمد اعتمادا كليا على شدة أي عرض من هذه الأعراض.

بعض الأطباء ينصح باستعمال مركبات هرمون " البروجستيرون "، استنادا على أحد تفسيرات أسباب الظاهرة العائد إلى نقص هذا الهرمون، ولكن الدراسات المقارنة لم تثبت فعالية هذا النوع من العلاج. وقد يكون نوع معين منه أكثر فعالية من الأنواع الأخرى. فريق آخر من الأطباء اعتمد طريقة التأثير على إفراز هرمونات المبيضين، استنادا على التفسير القائل بأن التبويض يمهد لحدوث الظاهرة، فعالجوها بإعطاء المريضة حبوبا مانعة للتبويض والحمل، فنجحوا إلى حد ما، إلا أنهم واجهوا مشكلة أخرى، هي أن حبوب منع التبويض والحمل قد تسبب أعراضا ومضاعفات جانبية أخرى، تخلط أوراق الأطباء المعالجين.

بعضهم أضاف عقار فيتامين (ب 6) " مركب البيريدوكسين " مع الحبوب، فحقق بعض التحسن، ولم تتأكد فعالية هذا الفيتامين في هذه الظاهرة. أما الفريق الآخر من الأطباء فقد جرب إعطاء المريضات بعض أنواع مدرات البول، مستندين على تفسير حبس الماء في أنسجة الجسم على أنه سبب لهذه الظاهرة، فتحقق لهم بعض النجاح أيضا، ولكن ليس بشكل ملموس. وبالطريقة نفسها كانت النتائج غير واضحة وغير مشجعة عند استعمال العقاقير الأخرى التي منها ما يخدر المريضة مؤقتا، أو يعالج حالات الاكتئاب فقط. وعلى الرغم من كل المحاولات المبذولة فما تزال ظاهرة التوتر النفسي والجسماني الذي يسبق الطمث مجهولة الأسباب حتى الآن، وأن كل ما قيل عنها مجرد وصف وتوقعات. لا أكثر، كما أن الأطباء الباحثين فيها لم يتفقوا على رأي واحد حول أسبابها، ومن ثم كان الاختلاف في طريقة علاجها الذي أصبح مجرد اجتهادات تمليها حالة السيدة المريضة ومدى ما تعانيه. وليس صحيحا ما يدعيه بعض الأطباء من أن الحالة غير موجودة أصلا، بل إنها موجودة فعلا في النساء اللواتي وصلن السن الطمثي ؛ أي أنها غير موجودة في سن الصبا، أو في أثناء الحمل ولا حتى في سن اليأس، مما يؤكد صلتها بالدورة الهرمونية المشتركة بين كدة تحت المهاد "، مرورا بالغدة النخامية، وانتهاء بالمبيضين، وعلى هذا الأساس توجب أن يكون العلاج مرتبطا ارتباطا دقيقا بالأعراض والعلامات المرضية. وقد تحقق بعض النجاح في عقاقير منع التبويض والحمل، وبعضه في العقاقير المدرة الحفيفة التي تعطى المريضة بعد منتصف الدورة الطمثية. وما تزال الدراسات والبحوث قائمة للوقوف على كنه هذه الظاهرة الغامضة الأسباب.