الجرهمي التائه فاروق خورشيد

لم تأخذ الأساطير العربية حظها من الدراسة. لقد أهملها العلماء طويلاً بحجة أنها من آثار الجاهلية الأولى. ولكن هذا المقال يلقي الضوء على ما فيها من تفاصيل إنسانية تكشف عن البذور الأولى للرؤية الشعبية للشعب العربي.

شهدت الجزيرة العربية شعوبا كثيرة، عاشت حياتها فوق أرض الجزيرة، وكونت أحداث هذه الحياة ذخيرة ضخمة من التاريخ الشعبي المتوارث والمنقول شفاها على ألسنة الرواة الحفظة له، والذين تداولوه وتناقلوه، حتى تلقفه منهم المفسرون وكتاب التاريخ، وأصحاب كتب الأدب والشعر .. من كل هذه المصادر عرفنا أمر هذه الشعوب البائدة في الجزيرة العربية. وتواريخ هذه الشعوب التي جاءتنا من مصادر شعبية، في أغلب الأحيان- مليئة بالأحداث الدرامية الثرية بالتعبير عن العواطف البشرية، وصراعاتها المستمرة، إما لحفظ الاستقرار داخل المجتمع نفسه، وإما لتحقيق التوازن بين كل مجتمع على حدة وبين المجتمعات الأخرى المجاورة له، و إما بين الإنسان في هذه المجتمعات، وبين القوى القاهرة التي تتحكم في وجوده، وفي مصيره، والتي لم يكن الإنسان قد فهمها بعد الفهم الكافي. نسجل صراعاته معها، تلك الصراعات التي كانت تنتهي به دائما إلى نهاية تراجيدية فاجعة.. مما يقرب إلينا كثيرا حقيقة وجود المادة الصالحة لبناء درامي متكامل لم يكن ينقصه إلا خشبة المسرح، ليدخل العرب عالم الإبداع المسرحي كغيرهم من الشعوب.

ملوك مكة

من تلك الشعوب البائدة التي جاءتنا أخبارها عن كل هذه المصادر الجراهمة.. وأهمية الجراهمة أنهم كانوا ملوك مكة، وأنهم تولوا الملك على عديد غيرهم من الشعوب البائدة، فهم كانوا ملوك مكة تبعتهم عملاق وطسم وجديس ورائش وقطور.. وكثر في عهدهم التعمير في مكة وكثر البناء، وكثر بالتالي الحجيج.. وغزوا- حين عز ملكهم ورسخ- أرض الحبشة واليمن إلى أن تولى ملكهم الحارث بن مضاض الجرهمي.

الجراهمة إذن ملوك مكة قبل قريش.. وهم سدنة الكعبة قبلهم، ومن هنا يمثل تاريخهم شيئا مهما ورئيسيا في حياة الجزيرة العربية قبل الإسلام.. كما يمثل نقطة التقاء مهمة بين التاريخ الأسطوري للجزيرة العربية، والتاريخ المسجل الذي أثبته رجال التاريخ بعد الإسلام، ولعل نقطة الالتقاء هذه هي التي غدت محور التفات المفسرين ورجال الأدب ورجال التاريخ بعد هذا تتبلور في شخصية عبيد بن شريه الجرهمي- سمير الخليفة معاوية بن أبي سفيان بعد عهد الخلفاء الراشدين مباشرة - فالخليفة يستدعيه من اليمن ليقص عليه قصص ملوك اليمن، وأحداث الأمم البائدة، ويسجل كتاب أخبار ملوك اليمن هذه الأسمار كلها.. وهي التي أمر الخليفة أن تدون وتحفظ في خزائنه.

ولا يعرف أحد أين ذهبت خزائن الكتب هذه التي كان معاوية يسجل فيها أسماره، وما قضى ليله في سماعه من حكايات العرب، وحكايات الشعوب البائدة، فكتب الأدب تسجل أنه كان يقضي ثلث ليله في سماع الأسمار وتدوينها، ولكن كتب التاريخ- رغم أنها تدون هذه الحقيقة- لا تذكرها لنا. أين ذهبت كتب الأسمار هذه التي دونها كتاب معاوية، ولولا ابن هشام والمجهود الذي قام به في إعادة صياغة الكتاب، ما حفظ لنا من أسمار وحكايات عبيد بن شريه الجرهمي ما يتداول أو يتناقل من هذه الشعبيات التي أستفاد منها كتاب السير الشعبية والحكايات الشعبية المختلفة..

وأبرز الشخصيات الجرهمية هي شخصية آخر ملوك الجراهمة الحارث بن مضاض الجرهمي ملك مكة، والجرهمي التائه ثلاثمائة عام في الجزيرة العربية.. ويروي وهب بن منبه في كتابه التيجان أخبار الحارث على لسان الباهي بن مضر.. ويقول في صفحة ( 180) من التيجان.. نقلا عن علي بن أبي طالب كرم الله وجهه (إنه حدث يوما عن غربة الحارث بن مضاض الجرهمي قال: أخبرني عبدمناف عن أبيه عبد المطلب أنه قال: أدركنا الحكماء والمعمرين وأهل الآثار بالعلم الأول من أهل تهامة يذكرون غربة الحارث بن مضاض المتوج، فكل قد رفع الحديث إلى إلياس بن مضر..).. وإلياس يتحدث نقلاً عن عمه إياد بن نزار بن معد إذ سأله عن أصل ماله فحكى له حكاية لقائه بالحارث الجرهمي، وما انتهى به هذا اللقاء من ثراء فاحش، أثار أسئلة أهله، وأثار أسئلة الناس كلها الذين كانوا يعرفون عنه أنه لم يكن يملك من حطام الحياة إلا عشرة أبعرة يكريهم للحجيج، ويتقوت من هذا الكراء، وحين سألوه حكى عن لقائه الأخير بالحارث الجرهمي التائه، وهو يعود بعد التيه العظيم الذي استمر ثلاثمائة عام.. ثم عاد لا يدري أحد من أين، وإنما يدرى إياد بن نزار أنه قاده إلى قبره، ومستقره الأخير، وأن الثمن الذي تقاضاه لهذه الرحلة كان الثراء الفاحش الذي أثار أسئلة أهله وأسئلة الناس أجمعين.

وحكاية إياد بن نزار التي يحكيها عن الحارث الجرهمي ولقائه به تبدأ بصحبته له على إبله العشرة، من المدينة حيث التقى به، إلى مكة حيث كانت وجهته، (يحيد ) بعيرا، فيحمله على بعير آخر، حتى ( تحيد) الأبعرة كلها، من عبء حمله، ونقل جثته.. فما يصل إلى مكة إلا وقد (حادت) كل الأبعرة العشرة.. ولا يدري أحد ماذا يقصد وهب بكلمة (حادت) هذه، حتى محقق النص وقف عندها حائرا، ولعلها تعني، أنه عظل، أو عجز عن حمل الثقل الكبير الذي يحمله، فإياد يصف الحارث الجرهمي بقوله في ص 181 من التيجان: (شيخ كالنخلة السحوق)، ولحيته تناطح ركبته، فراعني ما رأيت من عظم جسمه.. فلما دنا مني، قلت: يا شيخ عندي حاجتك. قال: ادن مني يا بني.. فدنوت منه، فوضع يده على منكبي، فكأني أحس يده على عاتقي كالجبل..) .. هكذا عاد الحارث إذن من غربته الطويلة، شيخا ملتحيا ضخم الجثة أعمى يبحث عمن ينقله إلى نهايته، إذ يقول إياد عن كيفية لقائه به، إنه كان في المدينة يبحث عمن يكري إبله فلم يجد أحداً، وكاد اليوم يمضى دون أن يجد بغيته إلى أن سمع صوتا كالرعد ينادي ويقول: أيها الناس من يحملني إلى البلد الحرام وله وقر جمله درا، وياقوتا، وعقيانا. فتتبع الصوت حتى وجد هذا الشيخ الذي يعد بالدر والياقوت والعقيان، فيحمله على إبله حتى مكة.. ولا يعرف إياد شخصية هذا الشيخ الضخم الجثة الذي ( تحيد) الأبعرة تحته واحداً إثر الآخر، حتى يصل به إلى جبل المطابخ على حدود مكة، فيسأله الشيخ إن كان إلى جوارهما من يسمع حديثهما، فلما يتأكد أنه وحدهما يسأله إن كان يعرف من هو، فلما يجيبه بالسلب، يقول له :- أتدري من أنا..؟. أنا الحارث بن مضاض بن عبد المسيح بن نفيلة بن عبد المدان ابن حشرم بن عبد ياليل بن جرهم بن قحطان بن هود النبي، كنت ملك مكة وماولاها..

هذا إذن هو نسب الحارث بن مضاض الجرهمي ملك مكة الذي تاه حيث لا يعرف أحد ثلاثمائة عام، وعاد في هذا العام ليحمله إياد بن نزار مع الحجيج إلى مكة لينتهي به المطاف إلى قبره، وراحة الجسد المعنى، والروح المضناة، بعد عناء هذا التيه العظيم..

بداية التيه

والحكاية يوردها وهب منقولة عن علي بن أبي طالب كرم الله وجهه نقلا عن عبد مناف عن أبيه عبدالمطلب.. الذي يرويها بدوره عن (الحكماء والمعمرين وأهل الآثار بالعلم الأول من أهل تهامة).. فهي حكاية متناقلة في المأثور الشعبي العربي القديم، يتداولونها جيلا بعد جيل.

وعلى الرغم من شعبية القصة الواضحة، إلا أن إثبات سندها، وذكر اسم علي بن أبي طالب كرم الله وجهه في هذا السند، ورفع الحديث إلى عبد المطلب بن هاشم، قد أدخل هذه القصة الشعبية في عداد الأخبار التاريخية التي تروى في كتب التاريخ القديم، لا على اعتبارها حكاية شعبية، وإنما على اعتبار أنها خبر تاريخي صادق، لا يقف أحد عنده ليناقش مدى صحته، أو مدى صدقه التاريخي. وتصبح حكاية التيه ثلاثمائة عام مقبولة عند المؤرخين.

والحكاية تروى بأكثر من طريقة حتى عند مؤرخ واحد كوهب بن منبه، فهو يرويها مرتين، مرة عند الحديث عن تابوت داود بن سليمان حين هزم داود جالوت، في تفسير لقوله تعالى وقتل داود جالوت من سورة البقرة، الآية 251 وما قبلها، وهذه الآيات تقص قصة تابوت بني إسرائيل في قوله تعالى الآية 248 من السورة نفسها: وقال لهم نبيهم إن آية ملكه أن يأتيكم التابوت فيه سكينة من ربكم وبقية مما ترك آل موسى وآل هرون تحمله الملائكة إن في ذلك لآية لكم إن كنتم مؤمنين.. فحكاية وهب تبدأ بقصة جالوت ملك كنعان الذي قام ملكه بالشام ونصره بنو حام بن نوح، كما نصره القبط بن كنعان من أرض بابليون.. واتسع ملكه وقوي أمره.. فنفس عليه بنو إسرائيل أمره، وكان عليهم طالوت ملكا، وكان نبيهم في ذلك الحين داود عليه السلام، فأمرهم داود بالجهاد وقتال جالوت.. ولكن بني إسرائيل تقاعسوا في القتال، بل ورفضوا طاعة طالوت الملك. يقول تعالى في أمر نبي بني إسرائيل وملكهم طالوت، الآية 247 من السورة نفسها: وقال لهم نبيهم إن الله قد بعث لكم طالوت ملكا قالوا أنى يكون له الملك علينا ونحن أحق بالملك منه ولم يؤت سعة من المال قال إن الله اصطفاه عليكم وزاده بسطة في العلم والجسم والله يؤتي ملكه من يشاء والله واسع عليم..

ويحكي باقي القصة التي نقلها عنه المفسرون فيقول إن بني إسرائيل خافوا قوة جالوت وجيوشه فثبت النبي داود قلوبهم، وأمرهم بالسير مع طالوت، وأمره النبي داود أن يحمل التابوت الذي فيه السكينة فسار بين يديه، وقال له داود: إن الله أنزل فيه السكينة وأسكنها قلوبكم، وزلزل أكباد بني ماريع وقذف فيها الرعب. فجعل طالوت التابوت بين يديه كما تسير العرب بالرايات، وكما تسير العجم بالفيلة، فحمل التابوت على (الغنائم).. وحين التقى الجمعان ( قتل داود جالوت) ويقول تعالى في الآية 251 من سورة البقرة: فهزموهم بإذن الله وقتل داود جالوت واتاه الله الملك والحكمة وعلمه مما يشاء ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ولكن الله ذو فضل على العالمين .

حكاية التابوت

فالحكاية الأولى التي يوردها وهب بن منبه إنما تنصب على ذكر الخلفية التاريخية لهذه الآيات القرآنية التي تذكر قتل داود لجالوت. وتتقدم لتحكي حكاية تابوت السكينة، والذي يحكيها هنا ليس وهب بن منبه وإنما أبو محمد بن هشام الذي أعاد صياغة الكتاب وقدمه لنا. فالحكاية تنتقل هنا من وهب إلى ابن هشام الذي تعود أن يتدخل في الكتب التي قدمها ومنها سيرة ابن إسحق ليستكمل ما يحس أنه ينقص النص الأصلي لجلاء نقطة مهمة أغفلها صاحب الكتاب الذي يقدم لنا نصه المعدل. ولذلك ففي صفحة 179 من التيجان يقول الكتاب: (قال أبومحمد كان بنو إسرائيل بعد داود وسليمان يزحفون بذلك التابوت وذلك أنه لما حمي الوطيس واستحر الوغى ألقى بنو إسرائيل القنا من أيديهم التي يحملون بها التابوت فسقطت، وحملت التابوت الملائكة فوق، رأس داود صلى الله عليه وسلم، حتى هزم الجبارين وقومهم).. وفي هذا تفسير لقوله تعالى فهزموهم بإذن الله .. وهذه القصة متداولة عند المفسرين عامة.. ولا ذكر فيها لسبب تيه الحارث بن مضاض. فهي لا دخل لها بهذه الآيات.. إلا أن ابن هشام يكمل الحكاية من مصادره الشعبية أو التاريخية- فهو لا يذكر لما يحكيه مصدراً- إذ يقول: (قال أبو محمد: لم يزل بنو إسرائيل يزحفون بالتابوت حتى كان في زمن الحارث بن مضاض الجرهمي). فالعلاقة بين قصة داود وجالوت وبين حكاية الحارث الجرهمي، هي ذكر تابوت السكينة. فالتابوت هو سبب تيه الحارث الجرهمي، ولذلك يستطرد ابن هشام في قصة وهب بن منبه ليصل بنا إلى زمن الحارث بن مضاض الجرهمي بعد حكاية داود وجالوت بزمن طويل.. - ويقول ابن هشام (فبدل بنو إسرائيل بن داود وسليمان صلى الله عليهما، وانتحلوا على الزبور كتبا انتحلوها)... وبهذا يفقد تابوت السكينة معجزته وإن لم يفقد قداسته، فما زال يحوي الزبور.. ويصل بنا إلى المعركة بين مكة وملكها يومئذ الحارث بن مضاض، وبين بني إسرائيل ومعهم الروم من أرض الشام، وحين تدور المعركة يهزم الحارث الجيش المهاجم، فيرمي بنو إسرائيل بالتابوت كما تعودوا، ولكن الملائكة لا تحمله كما تعودوا- لما بدلوا فيه من صحف- فتأخذه جرهم وعملاق وترميان به في مزبلة من مزابل مكة.. فنهاههم عن ذلك الحارث بن مضاض.. فأخذهم الوباء.. فاستخرج الحارث التابوت ليلا وعهد به إلى هميسع بن نبت بن قيدار بن إسماعيل، ويقول ابن هشام (وكان عنده يتوارثونه وارث عن وارث إلى زمان عيسى بن مريم عليه السلام، فإنه أخذه من كعب بن نوى بن غالب..).

حتى هنا ونحن في قصة التابوت منذ بدايته في عهد داود إلى نهايته بأخذ عيسى عليه السلام له. والقصة يتداولها المفسرون وخاصة في جزئها الأول المرتبط بداود وجالوت.. وبعضهم ينقل عن التيجان حكاية التابوت ومصيره.. إلا أن ابن هشام يستمر في الحكاية ربما بتأثير الإسرائيليات التي غلبت على أخبار وهب بن منبه، وربما لتثبيت معنى أن قداسة الزبور في التابوت كانت تحميه من الإهانة، وكانت تهدد بعقاب من يتجرأ على المساس به. فقد حق الهلاك على جرهم وعملاق..

ويقول التيجان في صفحة 180: (فلما هلكت جرهم وعملاق غما فنوا جميعا، ولم يبق من عملاق إلا عشرون رجلا فكانوا مؤمنين على دعوة إسماعيل مع هميسع.. وثمانية رجال من جرهم مع الحارث بن مضاض الجرهمي.. فلما رأى الحارث قومه هلكوا ترك ابنه عمرو بن الحارث بن مضاض الجرهمي عند هميسع، وخرج هاربا يجول في الأرض هما وغما ووحشة لما نزل بقومه.. وتغرب الحارث بن مضاض ثلاثمائة عام)..

هذه هي حكاية وهب الأولى لتغرب الحارث الجرهمي وتيهه ثلاثمائة عام.. وهي في الأساس واحدة من القصص التي احتاجها المفسرون لفهم الإحالات القرآنية إلى التاريخ العربي القديم، وخاصة تاريخ الشعوب البائدة من الجزيرة.. فهي هنا تفسر السر في أن جرهم وعملاق كانا من الشعوب البائدة، وهي في الوقت نفسه تلقي الضوء على ما جاء بآيات سورة المائدة التي سبق ذكرها من صراع بين حمير برئاسة جالوت، وبني إسرائيل برئاسة طالوت ونبوة داود عليه السلام، ونصر الله لداود وقومه بالتابوت المسمى بتابوت السكينة.. وإن اهتم المفسرون بقصة وهب في جزئها الأول، فهم لم يهتموا كثيرا بإضافة ابن هشام في الجزء الثاني من القصة.

إلا أن وهب بن منبه يعود ليقدم حكاية أخرى تتركز كلها حول تيه الحارث الجرهمي، وعودته الغامضة إلى مكة راكنا أبعرة إياد بن نزار التي (حادت) واحدة إثر أخرى حتى إذا ما وصل مكة كانت إبل إياد كلها قد تلفت. وهي حكاية تهم الدارس الشعبي للموروث الشعبي العربي القديم، وتثير انتباهه، لأنها تمثل حلقة مفقودة في التناقل للموروث الشعبي العربي القديم السابق للإسلام.. وتكاد تكون واحدة من الحكايات القلائل التي وردت كاملة لتكشف عن طبيعة الحكي الشعبي العربي القديم.. وهي تتفق مع الحكاية الأول في المحاور الرئيسية التي تقوم عليها القصة. فهناك معركة بين الجراهمة والعماليق من ناحية، وبني إسرائيل من ناحية أخرى. وينهزم بنو إسرائيل، ويرمون بالتابوت، فيقع التابوت فاقدا سحره الأسطوري، ويرمى في مزابل مكة، ويستخرجه الحارث الجرهمي، ويصاب العماليق والجراهمة بالغم الذي يبيدهم، وبنو الحارث ثلاثمائة عام.

إلا أن هناك خلافا بين الحكايتين يتمثل في إغفال الجزء الأول من الحكاية الأولى تماماً في الحكاية الثانية، والاقتصار على معركة الجراهمة مع بنى إسرائيل في عهد الحارث بن مضاض، كما يتمثل في أن ملك جرهم كان عمرو بن مضاض الأخ الأكبر للحارث الجرهمي، وأن مضاضا الذي تذكر الحكاية الأولى أنه ابن الحارث، كان ابن أخيه الملك عمرو. ويلعب مضاض بن عمرو في هذه الحكاية دوراً دراميا رئيسيا ومهما.. فإن كان الحارث هو الروح الهائمة في هذه القصة الذي يتحمل عذاب التيه لأمر لا يد له فيه، فإن مضاض بن عمرو يمثل حجر الاوية في الحكاية كلها من بدايتها بلى نهايتها.. والحكاية تبدأ قبل ولادة مضاض بن عمرو، بل وقبل أن يتعرف أبوه علا أمه بزمن قصير.. لتكون ولادة عمرو بن مضاض نموذجا مصغراً للتقليد الشعبي الأدبي في تأليف ولادة البطل في السير الشعبية العربية على وجه الخصوص، وفي الأدب الشعبي العربي بوجه عام. فالبطل هنا يولد في ظروف شافة وغريبة، تجعل من حدث الوكدة نفسها إرهاصا بما ستحمله حياة البطل من ظروف تراجيدية، تميزه عن غيره من الناس منذ لحظة الولادة نفسها.. والقصة من بدايتها يحكيها الحارث الجرهمي التائه العائد إلى مكة بعد رحلة التيه الطويلة، وهو يمهد لها بحكاية الظروف التي أدت إليها.. والظروف هي نفسها المعركة بين الجراهمة والعماليق من ناحية، وبني إسرائيل من ناحية أخرى. ولكنها هنا حكاية جديدة تماما.. يقول الحارث وهو يحكي لإياد بن نزار: (كنا أهل تيجان، نعلق التاج يوما على رءوسنا، ويوما على الرتاج بالبيت العتيق.. وإنه أتى رجل من بني إهائيل بدر وياقوت تاجئا بلى مكة، وأشترى الملك أخي عمرو، ما أتى به من الدر والياقوت، ونقض الملك التاج، زاد فيه العقيان والدر والياقوت وجعله كالمجن) إلا أن التاجر الإسرائيلي أخفى أحسن ما كان عنده من جواهر، وعرضها على بعض التجار، فعلم الملك، أرسل يسأله لم فعل ذلك، ولم يجبه الإهائيلي إلا بأنه حر في ماله، فصادر الملك ما كان معه وضمه بلى التاج.. ويقول وهب: (وإن الإسرائيلي رصد الذي يحمل التاج !لى البيت يوما ما ليعلقه، فعمد إليه فقتله، وأخذ التاج، !ركب نجيبا، !رفع رأسه في أول الليل، وأصبح الناس فلم يدروا من ذهب بالتاج، وأشتبه عليهم الأمر، حتى أتى الخبر اليقين من بيت المقدس).. فلما تأكد الملك أرسل بإى فاران ملك بني إسرائيل يطلب رد التاج لأنه ملك البيت العتيق، يعلق عليه، وكان الرد غريبا ولزجا، وكان الحوار بين الملكين طريفا.. قال فاران ملك بني إسرائيل:

- إني أعلقه على بيت المقدس.

قال عمرو ملك جرهم:

- إن الله هو الغني، فهل تسلب بيتنا لبيت؟

قال فارلان:

- نحن أهل كتاب، أعلم بالله منك.

قال عمرو بن مضاض:

- أعلم الناس بالتيه من أطاعه ولم يعصه، ولم أر بيتا يسلب بيتا، ولكن ملكا يسلب ملكا..

وكان لابد لهذا الحور أن ينتهي بمعركة ضارية دارت حول مكة وأرباضها، وانتهت بهزيمة بني إسرائيل وتعقب عمرو بن مضاض المهزومين إلى بيت المقدس فاحتلها، واسترد تاج الملك ليعلقه على رتاج الكعبة..

أهل مكة والضمير الشعبي

في هذه الحكاية الثانية لا ذكر لتابوت السكينة، ولا الملائكة الذين يحملونه فوق رءوس بني إسرائيل فيهزمون عدوهم.. أعتقد أن القصة هنا تحررت من الكثير من الإسرائيليات التي شابت الحكاية الأولى.. ففي الحور الذي أوردناه يتضح أن الضمير الشعبي يرى أن أهل مكة، وهم على (مذهب إسرائيل) ليسوا أقل في معرفة الله من بني إسرائيل، وأن مكة، بيتهم الحرام لا يقل عن بيت المقدس الذي يقدسه بنو إسرائيل.. كما أن وهب أو لعله ابن هشام يورد المعركة بين الجيشين في وصف قصصي يشبه وصف المعارك بين الفرسان في السير الشعبية، وحكايات الفروسية والبطولة. حيث يتفوق فارس بحكم بطولته ومهارته وشجاعته على فارس آخر أقل منه في كل هذا. بل لعلي أتجاوز التخلص من تأثير الإسرائيليات بلى القول بأن الحكاية تأخذ موقفا معاديًا لبني إسرائيل، بحيث تتشابه في هذا مع كثير من الحكايات الشعبية بعامة، وألف ليلة على وجه الخصوص، إلا أن هناك سيرة شعبية بذاتها، هي سيرة سيف بن ذي يزن، ففي بداية السيرة نجد الملك في يزن الحميري، يخوض معركة على أرض كنعان مع مغتصبيها من بني إسرائيل، تنتهي بانتصاره عليهم، وأسر قوادهم، وتتعرض له واحدة. من جميلات بني إسرائيل وهي قمرية لتفتنه بجمالها، ويطلق سراح الأسرى إكراما لها، ويتزوجها.. وتغدر به قمرية إذ تدس له حسكة مسمومة في فراشه بعد أن قضت في فراشه مدة حتى اطمأن إليها وأمن شرها، ولم يعد يأخذ حذره منها. وعندما يموت مسموما تحاول الفرار، إلا أن وزير الملك ذي يزن يلحق بها ويعيدها لتلقى جزاءها، وهنا تعلن أنها قد حملت من الملك، وأنها تحمل ابنه منه، فيمهلها مدة الحمل، ويتوج ابنها ملكا وهو في بطنها، فإذا ما وضعته عفا عنها لترضعه، وتبدأ قمرية في محاولة إهلاك ابنها في سلسلة من الحوادث تذكرها سيرة سيف بن ذي يزن في جزئها الأول بالتفصيل كمقدمة خيالية وشعبية لمولد بطلها سيف. هذه الحكاية نفسها بكل جزئياتها تتكرر هنا، فعمرو بن مضاض بعد أن ينتصر على فاران وجيشه من بني إسرائيل يرسلون إليه امرأة منهم اسمها (برة) بنت شمعون فتفتنه بجمالها، وتدس له حسكة، ويموت مسموما، ويقبض الحارث عليها، فتخبره بقصه حملها، ثم تلد مضاض بن عمرو بن مضاض الجرهمي. ولست أشك في أن سيرة سيف بن ذي يزن قد تأثرت بهذا الجزء من الحكاية، إن لم تكن قد نقلته نقلا، فيما تنقل السير الشعبية من الحكايات الشعبية العربية القديمة المتداولة، مدخلة إياها في نسيجها الروائي الكبير..

ويتولى الحارث الملك وينتقم من بني إسرائيل بعد موت أخيه، فتجيء هنا حكاية تابوت السكينة كأنما لتأكيد حكاية بني إسرائيل على جرهم وعملاق، إذ أوقعوهم في الزراية بالتابوت دون قصد.

حكاية التاجر اليهودي الغشاش، ثم بعد ذلك القاتل والسارق، وحكاية الملك الإسرائيلي الغاصب والمدلس، ثم حكاية برة بنت شمعون القاتلة والزوجة المخاتلة، وأخيراً حكاية تزوير بني إسرائيل للمزامير مما دنسها وأفقد تابوت السكينة قداسته، فسيسقط في يد جيش الجراهمة فينهبونه ويتعرضون للنقمة التي لا مبرر لها. إذ لم يكونوا يعرفون قيمته الدينية.. كل هذه العوامل تشير إلى موقف واضح في هذه الحكاية الثانية التي يوردها التيجان لقصة الحارث الجرهمي من بني إسرائيل، ومن الإسرائيليات المدسوسة لا الحكايات الشعبية العربية القديمة.. ومأساة الحارث وتيهه لا ترد بعد المعركة التي خاضها انتقاما لأخيه الملك، وإنما هي تأتي بعد المأساة التي دمرت حياة مضاض بن عمرو ابن أخيه الذي أحبه كل الحب، ورعاه كل الرعاية..

مأساة نادرة

ومأساة مضاض قصة نادرة في الأدب العربي القديم كله، وفي الأدب الشعبي العربي بخاصة.. بل لعلها وقفة روائية مميزة في الأدب العالمي كله.. مضاض ابن الملك الراحل أحب ميا ابنة مهليل بن عامر من أشراف جرهم. وأسعد هذا الحب أباها، كما أسعد عمه الملك الحارث الجرهمي. واتفقا على إتمام زواجهما، إلا أن شهر رجب حل بالقوم، وهو شهر من الأشهر الحرم (وكنا لانحدث فيه حدثا غير العمرة والطواف حتى ينسلخ). وهكذا تأجل الحديث عن الزواج إلى انصراف شهر رجب. ثم إن (مضاضا اعتمر وطاف، وبلغ ذلك ميا، فأقبلت تعتمر وتطوف متنكرة، غيرة على مضاض أن يتعرض له متعرض)، ويحكي الحارث أن قبيس بن سراح الجرهمي من رهط حقير في جرهم كان يهوى ميا، وشاهدها تعتمر وتطوف، فمضى يطوف وراءها ليملأ نظره منها. ويدخل الحارث شخصية جديدة بلى قصته وهي رقية بنت البهلول الجرهمي كانت تطوف لا هذا اليوم القائظ، فعطشت حتى خافت على نفسها من الموت، واستحت أن تقف لتشرب من سقلة البيت، فلما أبصرت مضاضا نادت به ليسقيها جرعة ماء، فناولها الماء فرأته مي، فاشتعل قلبها غيرة، فسقطت مغشيا عليها وهي ترعد ولا تدري ما هي فيه، ولما أفاقت ولت إلى منزلها واشتكت لأبيها قائلة (إن مضاض بن عمي وعا قلبي فأجابه، فلما أجابه قذف الهوى خلف النوى) وبهذه العبارة الشعرية يلخص الحارث الجرهمى موقف مضاض النفسي مما حدث، ثم يزيد عليه قولها لأبيها (ورأيت أنه يدل حسبا بحسب، وخطرا بخطر، ولم يبلغ والله خطر البهلول مهليل ابن عامر.. ولارقية بنت البهلول، ميا بنت مهليل بن عامر) ويغضب أبوها هنا، فالمسألة خرجت من قلب تبدل، إلى مفاضلة بين الأصول والأنساب. ولهذا خطره عند العرب الفخور بنسبه.. ويزيد المسألة تشابكا أن قبيس ابن سراج أتى ميا فأشعل غيرتها إذ حكى أنه سمع أثناء الطواف شعرا تقوله رقية لمضاض، وشعرا يقوله مضاض لرقية أثناء كان يسقيها الماء. ويقول الحارث الجرهمي (فالتمستها حمية قول قبيس، وجعلت تقبل بين خيام الحي مرة وتدبر أخرى، وهي لا تعلم ما ير فيه. ثم قالت لأبيها: نذرت لثه نذرا يا أبه لترحلن غدا إلى امج ذات الضال وأنزل مع جسر بن قين.

ويوافقها أبوها، وترحل مي إلى حي أخوالها جسر بن قين. وعلم مضاض بأمر ارتحال مي، وما نقله لها قبيس، فخرج يطلب قبيسا، فهرب قبيس، ولم يعرف أحد أين هرب.. ولحق مضاض بالحي وهم يرتحلون وحاول أن يثني ميا عن عزمها على هجره.. ويورد الحارث الجرهمي الشعر الذي دار بينهما، فإذا هو من أرق ما جاءنا عن الشعر الحواري قبل الإسلام. ولكن ميا أصرت على موقفها وارتحلت إلى أرض أخوالها. وسار ومعه رفيقان له يتعقب الركب الراحل ويلتقي بها مرة أخرى عندما وقف الركب ليستريح بموضع اسمه الحار. فقال لها:

علام قبست النار أم غالب

بنار قبيس حين هاجتك ناره

على كبد حرى وأنت عليمة

بغيب رفيق لا يبين ضماره

سألتك بالرحمن لاتجمعي هوى

عليه وهجرانا، وحبك جاره

فتجهمت وولت غضبى وهي تقول:

أبي حسبي من أن يهان وإن يكن

وقد قدحت فيه العداة ذليلا

فلما تساوى الحب والأمر مقبل

عدلت ولم تظهر إليّ جميلاً

رأيت مكاني حين وليت معرضا

إلى حسب البهلول كان قليلاً

ومضت عنه، فقال لصاحبه: والله لا أشرب بعدها ماء أبدا، وأستعطفه صاحباه ولكنه أبى، ومضى يجول حتى غلب عليه العطش ومات..

ويقول الحارث قاطعا قصته التي يحكيها لإياد بن نزار: وكنت أحارب بني إسرائيل عند طور سيناء، فلما رجعت من غزواتي، نعي إلى، وأصبته ميتا، فدفعته في هذه الصخرة التي تسمى موطن الموت..

ثم يستأنف القصة قائلاً: أما مي فقد لقيت رقية بنت البهلول، التي سألتها عن شأنها مع مضاض، فحكت لها ما حدث فقالت لها: (ظلمتيه يامي، بالله ما كان بيني وبينه قط سبب ولا كلمته غير استسقائي منه الماء.. ندمت مي على ما كان منها في أمر مضاض وقد تأكدت من براءته: (فبينما هي تسأل عنه وتلتمس من لقيه إذ نعي إليها، فتوارت عن الحي) وبحثت عنها ابنة عمها سلمى فوجدتها ساكتة تنظر يمينا وشمالا كأنها جنت، وقد أصابتها قسوة منعت الدموع من عينيها. وآلت على نفسها أن لا تشرب ماء، حتى غشيها الموت، فأوصت سلمى أن يدفنوها إلى جوار مضاض.

وإلى هنا وتنتهي هذه المأساة التي حكاها الحارث الجرهمي لى لأياد بن نزار وهم وقوف على جبال مكة. قبل أن يتجه إلى قبره لينهي مأساة تيه استمر ثلاثمائة عام.

ولعل وهب بن منبه أراد أن ينفى أن يكون سبب غربة الحارث ما جاء في الحكاية الأولى من قصته رمي تابوت السكينة في مزابل، لعله أراد أن يجعل من هذه المأساة الفاجعة سببا إنسانيا واضحا فيما أصاب الحارث بن مرة جعلته يترك ملكه، ويخرج هائما على وجهه ليتغرب ثلثمائة عام، فإذا ما عاد بعد التيه كانت هذه القصة الدرامية على لسانه يحكيها لقائد جماله إلى قبره، إياد بن نزار.

التيه.. للمرة الثانية

وهذه الحكاية الثانية لتغرب الحارث أقرب إلى القصة المتكاملة منها إلى السرد الذي عرفناه في الحكايات المجددة في كتاب التيجان كله. فالكاتب هنا يستخدم التصوير الفني إلى جوار السرد المحبوك، كما أنه يلجأ إلى لغة الحوار من أول القصة التي تبدأ بحكاية إياد وموت أبيه وتوزيع ما يملك على أولاده فيكون من نصيب إياد هذه الإبل التي يكربها للحجيج، ثم يلتقي بالحارث ويحمله إلى مكة، وعند مشارف المدينة يبدأ الحوار بينهما، في تجسيد لما يمكن لنا أن نسميه حكاية المكان الخرافية. فهو يذكر أسماء الجبال المحيطة بمكة أثناء مرورهما بها، ويحكي لإياد قصة تسمية كل جبل، وهذه الحكايات ترتبط بمعركة جرهم مع بني إسرائيل.. ولهذا تأتي حكاية هذه المعركة، وحكاية تابوت السكينة، وفناء جرهم الأسطوري، ثم تأتي قصة مضاض ومي عندما يسمى مكان لقائهما، ومكان مدفنهما، ثم تلت هذا حكاية ثروة الجرهمي أو الكنز الذي عثر عليه إياد في المقبرة التي ساقه إليها الحارث لتكون مقره الأخير، وهنا ندخل أيضا في حكايات المكان الخرافية، وحكايات الكنوز المطلسمة التي تحرسها، والحكايات الخرافية عن المقابر القديمة.. فهما يدخلان في مغارة بعد أن يرفع الحارث بقوته العظيمة صخرة ضخمة تسد مدخلها، ويسيران في سرداب والحيات تصفر حولهما، والخفافيش تطير فوقهما، وحين يصلان إلى حجرة صخرية واسعة يخرج عليهما تنين (أسود أحمر العينين يجر عرفه، ودار وسط الدار فصار كالجبل العظيم).. وخطف بصر إياد جبل وسط الحجرة من الدر والياقوت والعقيان، ويمسك الحارث بيده حتى لا يخطفه التنين، ويقول له:

- خذ وقر جملك من هذا الجبل، ليس غير، وإلا غلّك التنين.

ويخرج قارورة يشرب ماءها ثم يتجه إلى ناحية بالحجرة فإذا بها أربعة أسرة.. ثلاثة منها عليها ثلاثة رجال، ويعرفه الحارث بهم، فواحد لمضاض أبي الحارث، والثاني لأبيه جد الحارث والثالث لجده الأكبر.. ويرقد الحارث على السرير الخالي، ويرثي نفسه بشعر يتحدث فيه عن الفناء المحكوم به على الإنسان مهما طال أجله، ثم يموت.. ويحمل إياد ابن نزار ناقته وسقها من الدر والياقوت والعقيان، ويتأمل في الموتى، فيجد فوق كل سرير ورقة تحمل أبياتا من الشعر تكرر نفس ما قاله الحارث من معان عن الموت والفناء قبل أن يشرب ما في القارورة ويموت، ويخرج سالما بكنزه من القبو المطلسم بالحيات والتنين. فإذا ما خرج من الكهف لم يعد يستطيع أن يعود إليه، إذ فقد كل ما يرشده إليه، ولم يعد يعرف له موضعا. رغم إغراء الثروة الضخمة التي تركها وراءه فيه.. وتطوى صفحة الجرهمي التائه، وتبدأ حكاية يحكيها إياد بن نزار كلما سئل عن مصدر ثروته، وتظل الحكاية تتناقل عن الجرهمي التائه الذي تغرب ثلاثمائة عام، وعاد إلى مكة بعد غربته الطويلة ليدفن في هذا الكهف المطلسم الذي دفن فيه آباؤه وأجداده من قبل، وكانوا ملوكا قبله على الجراهمة، غزوا وأثروا وتملكوا، ثم انتهوا النهاية نفسها داخل هذا الكهف المجهول في جبل من جبال مكة.

هذه الحكاية الثانية التي يوردها وهب بن منبه في التيجان لا تشير إلى عنصر الفجيعة الأسطوري، إلا إشارة المضطر لذكرها، لأنها وردت في سياق الحكاية الأولى كحقيقة من حقائق التاريخ المتناقل عند العرب عن أحداث ما قبل الإسلام، مما يدل على وعي ابن هشام ناقل الكتاب وراويه الجديد بمصدرها الإسرائيلي، وأنها لاشك من المدسوسات الإسرائيلية على أصحاب التفاسير قدمت إليهم في تضاعيف الحديث عن الأمم البائدة، والأسباب التي أدت إلى إبادتهم. بينما هي- أعنى هذه الحكاية الثانية- تحفل بزخم إنساني بالغ العمق، وبالغ الشاعرية، في وقت واحد- كما تحفل بهجوم روائي فني على بني إسرائيل وأساليبهم كأفراد وكنساء وكملوك في وقت واحد، وتثبت عداءهم الدائم لمكة وأهل مكة، سواء كانوا من الجراهمة الذين بادوا أو لغير الجراهمة ممن تلاهم في الحياة على أرض مكة- وفكرة إبادة شعب كامل نفسها، فكرة مأساوية فاجعة قد يقبلها الضمير الديني، لأن شعبا كفر الله وبالرسول وبالرسل الذين أرسلوا لهدايته، فحقت نقمة هؤلاء الرسل، واستدعوا نقمة الله، فابتلاهم الله بالفناء على شكل الطوفان أو الريح أو الوباء أو الغم.

ولكن هذه الحكاية لا تحمل كل هذه المبررات الدينية لإفناء شعب، فليس هناك رسول يئس من دعوة الشعب للهداية، ولا لعنة استنزلها على من كفر برسالته، إنما هي حرب بين شعب وشعب، يباد فيها المنتصر لأنه سخر من مقدسات المهزوم، رغم أن السخرية غير مقصودة على الإطلاق كما هو واضح في سياق الحكاية الأولى، ومبرر تماما بسرقة التاج المرتبط بالبيت العتيق كما هو في الحكاية الثانية.. ومن هنا تقدمت هذه الحكاية الثانية لتقدم المبرر الإنساني للتيه الذي عاش فيه الحارث الجرهمي التائه، ولتقدم مع هذه الحكاية، مجموعة متداخلة من الحكايات المتوالدة على طريقة ألف ليلة وليلة في التأليف. والمتشابكة على طريقة السيرة الشعبية العربية في الصياغة الفنية. والمرتبطة بالمأثور الشعبي العربي، على طريقه حكايات الخرافة، المستمدة من أساطير المكان، أو مغامرات البطولة، أو حكايات العشق.. ولهذا فلسنا نشتط كثيراً إذا اعتبرنا هذه الحكاية نموذجا لما كانت عليه الحكاية الشعبية العربية المرتبطة بالعبادات القديمة من ناحية، والموروث التاريخي الشعبي من ناحية أخرى، فهي حكاية مرتبطة بالأسطورة التفسيرية وهي تفسر إبادة جرهم وغربة الحارث، وهي حكاية مرتبطة بالأسطورة التعليلية إذ هي تعلل لأسماء جبال مكة وأرباضها، وهي حكاية مرتبطة بالأسطورة التاريخية لما تحفل به من أحداث قديمة حفرت وجودها في العقلية الشعبية العربية والوجدان الشعبي العربي أيضا. كما أنها حكاية تؤكد وجود القصة العربية المتكاملة ذات النسق الفني الخاص بها، واللغة الشعرية الرائعة التي تصاغ بها، والاستعانة بالتصوير والحوار، والتداعيات إلى جوار السرد التقليدي. وهي أيضا تؤكد وجود البدايات الأولى للدراما في الفن العربي القولي.

وما أشد الشبه في حكاية مضاض ومي، بالأصول الأولى التي استقى منها شكسبير روميو وجولييت- ودور القدر هنا واضح، حلول الشهر الحرام، وطبيعة العطش والحر التي تسود البيئة، وعوامل التباهي والفخر بالنسب، ثم عوامل الغيرة والحسد، ترسم كلها النهاية الفاجعة لمضاض ومي، وترسم سر الغربة التي حكمت على الحارث الجرهمي بالتيه ثلاثمائة عام بعيدا عن بلده، يقضيها حيث لا يعلم أحد، روحا تائها في الجزيرة تنشد العزاء حيث لاعزاء.. وتقودها أقدامها، إلى المثوى الحتمي الذي لا مفر منه، سرير في قبر إلى جوار أسرة تحوي رفات الآباء والأجداد.