اللغة حياة

اللغة حياة

تعرّفه أم تعرّف إليه؟

ما زلت أستعمل عبارة: تعرّفَ إليه، حتى نبّهني زميل سوريّ على وجوب القول: تعرّفه؛ وساق الشواهد على صحّة رأيه، فطفقت منذ ذلك الحين لا أقول إلاّ قوله. ومنذ أسابيع عاد زميل لي يستثير المسألة، ويسألني مراجعة المصادر من جديد قبل أن يقرّر الأخذ بهذه الصيغة أو تلك؛ وناولته معجم «لسان العرب»، وأنا مطمئن إلى أنّ ابن منظور لن يخذلني، وإذا بصديقي يصيح مبتهجا مثل أرخميدس: «هاهنا نصٌّ فيه تعرَّفَ إليه»، وقرأ لي حديثا نبويّا شريفا أورده «اللسان»، وهو : «تَعرَّفْ إلى الله في الرخاء يعرفْك في الشدّة» وهو الشاهد عينه الذي أوردته بعض كتب الأخطاء الشائعة؛ ثم بدا كالظافر المباهي بمعرفته اللغويّة، معلنا أنّه حقا يستشيرني في أمور اللغة، لكنّ ذلك لا يعني دنوّ كعبه فيها. ولم يكن ذلك ليزعجني، لأنّني أميل إلى التيسير، وأطلب أدنى دليل جِديّ لتحقيقه؛ وصديقي يعرف ذلك. ولم أشأ أن أشكّ في قيمة الشاهد الحديثيّ، على طريقة بعض المتشدّدين، فليس من العلم في شيء إكراه الأدلّة للبرهان على صحّة الرأي، ولاسيّما أنّني ممّن يستشهدون بالحديث الشريف، على تحفّظي من لغة رواته، وشعوري القويّ أنّ بعض ما رووه يجافي الفصاحة النبويّة، وفيه قدر من العُجمة غير مستساغ؛ لكنّني في الوقت نفسه أتنخّل وأقارن، حتى أنتهي إلى ما تطمئنّ إليه النفس، ويرضاه العقل من لفظ الحديث.

وليس ذلك الحديث الشريف يتيما لا أخ له، بل قد ورد حديث آخر يقول :«إِذَا تَعَرَّفَ إِلَيْنَا عَرَفْنَاهُ، فَيَكْشِفُ لَهُمْ عَنْ سَاقِهِ فَيَقَعُونَ سُجُودا»؛ وفي رواية أخرى: «إذا اعترف لنا عرفناه»؛ وفسّروا العبارة بـ: إذا وصف نفسه لنا عرفناه. ومن شأن هذا أن يوضح الفرق بين تعدّي «تعرّف» بنفسه، وتعدّيه بإلى؛ فمعنى تعرّف إلى الله هو عرّف نفسه لله؛ ومعنى تعرّف إلينا: وصف نفسه أو عرّفها لنا، وليس معناهما طَلَبَ معرفة الله أو معرفتنا؛ وذاك ما كاد ابن منظور يوضحه في تأويله للحديث الأوّل، إذ قال: «أي اجعلْه يعرفك بطاعته والعمل في ما أولاك من نعمه، فإنّه يجازيك عند الشدّة والحاجة إليه في الدنيا والآخرة»، وقد يفسّر هذا الحديثَ حديثٌ آخر يقول : «مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَسْتَجِيبَ الله لَهُ عِنْدَ الشَّدَائِدِ وَالْكَرْبِ فَلْيُكْثِرِ الدُّعَاءَ فِي الرَّخَاءِ» لكأنّ الدعاء طريق إلى تعريف المؤمن نفسه لله تعالى.

ففي «تعرَّفَ» هنا نوع من التضمين أو الحمل على المعنى، إذ أُشربت الكلمة معنى التوجّه، ليصبح معنى العبارتين هو: توجّهْ إلى الله ليعرفك في الرخاء، إلخ. وإذا توجّه إلينا مُظهرا حقيقته عرفناه؛ فذلك المعنى هو، إذن، غير المعنى الشائع اليوم، أي: عرَف الشيءَ، أو طلب معرفته، أو عرف شخصا لم يكن يعرفه من قبل، أو عرف اسمه؛ بل هو يشبه العبارة الحديثة: قدّم نفسه له أو إليه. وقريب من هذا ما ورد في كتاب «الأغاني» في خبر كُثيِّر عَزّة وغاضِرة مولاة الأمير الأمويّ بِشر بن مروان، وفيه :«فتعرّفتْ إليه، فإذا هي غاضِرة، أمّ ولدٍ لبِشر بن مروان»؛ أي فعرّفت نفسها لكُثيّر، فإذا هي، إلخ. أو بالتعبير الحديث: فقدّمت نفسها إليه. وفي أخبار مَعْبَد في كتاب «الأغاني» نفسه، عبارة ملتبسة جُعلت على لسان ذلك المغنّي الأمويّ هي :«فلأَسمعنّ من المغنّين بها، ولأُغنينّهم، ولأَتعرّفنّ إليهم»، والراجح أنّ معناها هنا هو نفس المعنى المشار إليه وهو: لأعرِّفنّ نفسي لهم. ويبقى أنّ الأصل في «تعرّفَ» أن يتعدى بغير واسطة، وأن يكون معناه: عرَفَ الشيءَ أو سعى إلى معرفته وتبيُّنِه؛ وعليه شواهد كثيرة، منها قول الشاعر الجاهليّ زياد بن واصِل السُلَميّ :«فلمّا تَعَرَّفْنَ أَصواتَنا، الخ». وقد رواه سيبويه بعبارة: «فلما تبينَّ أصواتَنا»؛ وقول الشاعر الأمويّ ذي الرُمّة: «تعرّفتَ دارا أو توهَّمْتَ مَنْزِلا»؛ وقول الشاعر الأمويّ مُزاحم العُقَيليّ: «وقالوا تَعرَّفْها المَنازِلَ مِنْ مِنى?»، وكذلك حديث بعض الصحابة: «فأَتعرّفُه بعدُ في يدي» أي أعرفه من إحساسي به في يدي؛ وقول الصحابيّ عبد الله بن عبّاس يخاطب معاوية بن أبي سفيان في شأن الحسن بن عليّ: «مولدُه أشهر من أن تتعرّف سِنَّه»؛ وقول الجاحظ في بعض رسائله: «وتَتَعرَّف معانيَ أبوابها»، وقول ابن خلدون في مقدمته: «والكُهّان إنّما يتعرّفون أخبارَ السماء من الشياطين»؛ وشواهد كثيرة أخرى يستحيل إحصاؤها.

وهناك صيغة أخيرة عرضت في كتاب «الأغاني» (أخبار عبادل) وهي صيغة «تعرّف به» وذلك في ما نُسب إلى الشاعر الأمويّ نُصَيْب، إذ أبصر نسوة يستمعن ابنَ سُريج يغنّي بشعره، أي بشعر نُصيب نفسه، وسمعهنّ يتمنّين رؤيته، فقال: «فحركّتُ بعيري لأَتعرّف بهنّ وأُنشدهنّ. وهذا يعني أنّه قصد إلى أن يعرفهنّ ويعرفنه؛ ولعلّه الاستعمال الصحيح المقابل للاستعمال الحديث المغلوط: تعرّف إليه.

لكنّ الباء قد تأتي للاستعانة، والمثال على ذلك عبارات وردت في «اللسان» هي :«الأسماء المتعرِّفة بالإضافة» و «إنّما تَعرَّفَ الحارثُ ونحوه من الأوصاف الغالبة بالوضع دون اللام»؛ يعني أنّ اسم «حارث» مَعرِفة بالوضع قبل أن تدخل عليه اللام، و«أمّا ابن مَخاضٍ وابن لَبون فنكرتان يتعرّفان بالألف واللام تعريف جنس»؛ يعني إذا قيل: ابن المخاض وابن اللبون؛ وكذلك مثل قول ابن خلدون: «وهذا مُعوز لما فيه من معرفة حسبانات الكواكب في سيرها لتُتعرّف به أوضاعُها».

وكلّ ذلك يدلّ على مقدار التخبّط الذي عاناه بعض المؤلِّفين المعاصرين في الأخطاء الشائعة، كما يدلّ على قلّة شواهدهم، واستعانتهم بعبارات لا يتحقّقون من معانيها؛ لكنّ المشكلة هي أنّ الخطأ الشائع أصبح مفهوما من الكافّة، على حين أنّ بعض الصحيح يحتاج إلى البحث والتمحيص لأنّه مجهول ويخفى حتّى على الاختصاصيّين أحيانا؛ واللغة وسيلة تفاهم قبل كلّ شيء، ولذلك يفضّل فيها الخطأ المتداول على الصحيح المتروك.

ولحالة «تعرّف» حلّ يجمع بين الصواب والاستعمال المفهوم، وهو أن نقول: تعرّف الإنسانُ الشيءَ، بمعنى عرفه أو طلب معرفته؛ وعرّفُ الإنسانُ نفسَه، بمعنى ذكر اسمه أو صفته؛ وعرّف الإنسانُ الشيءَ، أي بيّن ماهيته أو صفته؛ وتعرّف الإنسانُ بالشخص، أي عقد تعارفا معه؛ وتعرّف الشيءُ بالشيءِ أي عُرِف بواسطته؛ وتعارف الشخصان أو الأشخاص: عرّف كلُّ أحد منهم نفسه للآخر، أو عرّف كلّ منهم الآخرَ أو الآخرين. أما تعرّف إليه أو عليه، فيحسن تركهما لجهل الأكثرين الاستعمالَ الصحيح للأول، ولخطأ الثاني.

 

مصطفى الجوزو