جمال العربية

جمال العربية

أحمد فتحي.. شاعر «الكرنك» و«فجر» و«قصة الأمس»

عرف هذا الشاعر بأسماء عدة، فهو شاعر «الكرنك» وهو شاعر «قصة الأمس» وهو شاعر «فجر».

والتسمية الأولى تشير إلى قصيدته البديعة «الكرنك» التي لحنها وتغنى بها الموسيقار محمد عبد الوهاب، فتمت بها الشقيقات الثلاث، بعد أن تغنى قبلها بقصيدتي «الجندول» و«كليوباترا» للشاعر علي محمود طه.

أما صاحب «الكرنك» فهو الشاعر أحمد فتحي، الذي تغنى الموسيقار رياض السنباطي بقصيدته «فجر»، وتغنت أم كلثوم بقصيدته «قصة الأمس» من تلحين السنباطي أيضًا.

ويبدو أن حظ الشاعر من الشهرة التي حققتها له قصائده الثلاث، كان أكبر من حظه الشعري: فنا وإبداعًا فلم تتح له شهرة علي محمود طه أو إبراهيم ناجي أو محمود حسن إسماعيل الشعرية. وظل اسمه محصورا في دائرة الغناء ومُحبّيه، لا في دائرة عشاق الشعر ودارسيه ومريديه.

ولد أحمد فتحي في إحدى القرى المصرية عام 1913، وألحق بالكتاب على عادة أبناء القرى، لحفظ القرآن وتجويده. وعندما انتقلت الأسرة إلى القاهرة حيث عمل الأب مدرسا بالأزهر، تابع الابن تعليمه الابتدائي والثانوي، حتى إذا انتقلت الأسرة إلى الإسكندرية التحق أحمد فتحي بمدرسة الفنون والصنائع. وفي الإسكندرية تفتحت موهبته الشعرية والأدبية، وبدأت قصائده العاطفية الرقيقة تسجل اهتزازات وجدانه وأشواق قلبه، يقول عن هذه المدينة التي تركت تأثيرها الساحر في كثير من المبدعين: «في الإسكندرية كان ميلادي، وعلى صدر شاطئها الجميل ترعرعت، وعن صفاء بحرها الصداح أخذت ما كان في بواكير أفكاري وأشعاري من صفاء وأنغام».

وبعد تخرجه في مدرسة الفنون والصنائع أتيحت له بعثة دراسية إلى إنجلترا لم يفد منها كثيرًا، وعاد إلى الوطن ليمارس أعمالا مختلفة، حتى انتهى به المطاف إلى مدينة الأقصر، مدينة التاريخ والآثار، حيث أبدع قصيدته «الكرنك»، في معبدها الشهير:

حُلم لاح لعين الساهرِ
وتهادى في خيالٍ عابرِ
وهفا بين سكون الخاطرِ
يصل الماضي بيُمْن الحاضرِ

***

طاف بالدنيا شعاع من خيالِ
حائرٌ يسألُ عن سرِّ الليالي
يا له من سرّها الباقي ويالي
لوعة الشادي ووهمُ الشاعرِ

***

صحت الدنيا على صُبْحٍ رطيبِ
وصغا المعبد للحن القريبِ
مرهفًا، ينسابُ من نبع الغيوبِ
ويُغاديه بفنِّ الساحرِ

***

حين ألقى الليل للنور وشاحه
وشكا الطلُّ إلى الرملِ جراحه
يا تُرى هل سمع الفجرُ نُواحهْ
بين أنداءِ النسيم العاطرِ؟

***

ها هنا الوادي وكم من مَلكِ
صارعَ الدهر بظلِّ الكرْنكِ
وادعًا يرقبُ مسرى الفلكِ
وهو يسْتحيي جلال الغابرِ

***

أين يا أطلال جندُ الغالبِ؟
أين آمون وصوتُ الراهبِ؟
وصلاة ُ الشمسِ؟ وهْمى طارَ بي
نشوة تُزْرى بِكرْمِ العاصرِ

***

أنا هيمانُ ويا طول هيامي
صور الماضي ورائي وأمامي
هيَ زهري، وغنائي، ومُدامي
وهي في حُلْمي جناحُ الطائرِ

***

ذلك الطائرُ مخضوبُ الجناحِ
يسعدُ الليل بآيات الصباحِ
ويغني في غُدوٍّ ورواحِ
بين أغصانٍ ووردٍ ناضرِ

***

في رياض نضّر الله ثراها
وسقى من كرم النيل رُباها
ومشى الفجرُ إليها، فطواها
بين أفراحِ الضياءِ الغامرِ

والمتأمل في شعر أحمد فتحي، وفي رسائله التي بعث بها إلى أصدقائه، يجده قد عاش حياته باحثًا عن الحب الذي يملأ عليه نفسه ويروي ظمأه العارم، حتى إذا ما ظن أنه وجده واستراح إلى شاطئه، تاقت نفسه إلى مغامرة جديدة ومذاق جديد، حتى أصبح من كثرة ما لقي في حياته من تجارب عاطفية مزلزلة ومعاناة روحية قاسية، نهبًا للعلل النفسية، والأمراض الجسدية، تنوشُ هيكله الذاوي وتعصف به، وتقضّ عليه مضجعه، فلا تغتمض له عين ولا تهدأ له نفس. وفي قصيدته المُغناة «قصة الأمس» تصوير لواحدة من هذه التجارب العاطفية العاصفة التي ظل تأثيرها فيه حتى رحيله في عام 1960م.

يقول أحمد فتحي:

أنا لن أعود إليك مهما
استرحَمتْ دقات قلبي
أنت الذي بدأ الملالةَ
والصدودَ، وخان حُبّي
فإذا دعوت اليوم قلبي
للتصافي .. لن يلبّي

***

كنت لي أيام كان الحبُّ لي
أمل الدنيا ودنيا أملي
حين غنيْتُك لحن الغزلِ
بين أفراح الغرامِ الأولِ

***

وكنت عيني، وعلى نورها
لاحت أزاهير الصبا والفُتون
وكنت روحي هام في سرّها
قلبي، ولم تدرك مداه الظنون

***

وعدْتني ألا يكون الهوى
ما بيْننا إلا الرضا والصفاء
وقلت لي إن عذاب النّوى
بُشرى تُوافينا بقرب اللقاء

***

ثم أَخلفْت وعودًا
طاب فيها خاطري
هل توسّمْتَ جديدًا
في غرامٍ ناضرِ؟

***

فغرامي راح..
يا طول غرامي بي إليْه
وانشغالي..
في ليالي السُّهد والوجد عليْه

***

كان عندي وليس بَعْدَك عندي
نعمة من تصوّراتي ووجدي
يا ترى ما تقول روحك بعدي
في ابتعادي وكبريائي وزهدي

***

عشْ كما تهوى، قريبًا أو بعيدا
حسْبُ أيامي جراحًا ونُواحًا ووعودا
وليالي ضياعا، وجحودا
ولقاءً ووداعًا يترك القلب وحيدا

***

يسهرُ المصباحُ والأقداحُ والذكرى معي
وعيونُ الليل يخبو نورها في أدمعي
يا لذكراك التي عاشت بها
روحي على الوهم سنينا
ذهبت من خاطري إلا صدىً
يعتادني حينًا فحينا

***

قصة الأمس أناجيها وأحلام غدي
وعيون الليل يخبو نورها في أدمعي
وأمانيٍ حسانٌ رقصت في معبدي
وجراح مشعلاتٌ نارها في مرقدي
وسحابات خيال غائمٍ كالأبدِ

لا نبتعد كثيرًا عن الفضاء الشعري لشاعر الأطلال إبراهيم ناجي أو شاعر الجندول علي محمود طه ونحن نطالع شعر أحمد فتحي، فالأفق الشعري واحد، والتيار الشعري هو تيار جماعة أبولّو التي تساقى شعراؤها صهباء العاطفة المشبوبة وهاموا في مدارات الخيال المجنح، واكتنزت قصائدهم بلوامع معجم شعري مغاير وغير مألوف يمزج بين الطبيعة والإنسان والكون، ويجعل للمفردة الشعرية ظلا وجرْسا ودلالة. من هنا جاءت سيطرة الطابع المأساويّ، القاتم والحزين، الذي اصطبغت به أشعار الشعراء الثلاثة، واعتصرت قصائدهم التي اختيرت للغناء قلوب العاشقين من بعدهم، يرون فيها مصائرهم، وتفاصيل عوالمهم الموهومة، وغرامهم المصطدم دوْمًا بجدْب الواقع وسيطرة القدر. حتى عندما يغني أحمد فتحي للفجر، والفجر انتعاش وبهجة وحياة جديدة وبشاشة، فإنه لا يكاد ينطلق في نغمة تفاؤل مبكرة، حتى تعاوده آهات الذكريات، وشقاؤه بماضيه من رؤى العمر وآيته، فالحظ لايواتي، هذا هو القرار وهذا هو المصير. يقول أحمد فتحي في ثالثة قصائده المغناة «فجر»:

كل شيء راقص البهجة حولي ها هنا
أيها الساقي بما شئت اسْقنا، ثم اسقنا
واملأ الدنيا غناءً، وبهاءً، وسَنَا
نَسِيْتنا، لم لا ننسى أغاريد المنى
علّنا أن تعرف النوم هنا أَعينُنا

***

ذهب الأمس بما راع ويومي ذهبا
يُسرع الليل فرارًا، من هتافات الربى
وجبينُ الغد يُلقى عن سماهُ الحُجُبا
باعثًا في جانب الأفق بشيرًا مُحسْنا
تسبقُ النور خطاه قبلما يبدو لنا

***

رُدّ كأسي عن فمي يا أيّها الساقي ودعني
وأفقْ من نشوة الراح ومن حُلْمِ التغني
كلُّ ما مرّ هنا وهم خيالٍ وتمنِّ
حسْبُنا وهمًا، وحُلمًا، وخيالاً، حسْبُنا
أقبل الصبحُ فهل تدري بماذا جاءنا؟

***

آه من قلبي وما يعتادهُ من ذكرياتِ
أبدًا يشقى بماضٍ من رُؤى الحبِّ وآتِ
لا أنا أسلو أمانيَّ ولا الحظُّ يُواتي
يا نديمي لاحت الشمسُ فقم وامْضِ بنا
فلعل الدهر أن يغفل عن موكبنا

وفي قصيدة عنوانها «أنت» يقول:

سألتنْي عنك أشواقي وأحلامَ سُهادي
وأماني التي تصحبني في كلِّ وادِ
وخيالاتي، وما أكثر ما تغشى فؤادي

***

أنت في عيني ضياءٌ لا ترى عيني سواهُ

كلما أشرق حيّاني شعاع من سناه
تبعث الفرحة والنشوة في رُوحي خطاه

***

أنت في سمعي نشيدٌ قُدسيُّ النغمِ
كلما طاف بآفاقي توَارى ألمي
وتناسيْت نُواحي، وجراحي، ودمي

***

أنت في قلبي معنىً سرُّه الباقي مصونُ
يملأ الدنيا ولا تدركُ مرماهُ العيونُ
لو يقولون عرفناه، فوهمٌ وظنونُ

***

أنت في عيني، وفي سمعي، وفي قلبي، مقيمُ
أبدًا أشدو بذكراكَ وأصبو وأهيمُ
هيَ في بُعدكَ ألحاني، وكأسي، والنّديم

ويصور أحمد فتحي شاعر «الكرنك» و«قصة الأمس» و«فجر» ليلةً من ليالي الشوق، في قصيدة معاتبة حين يقول:

عادني هاتفٌ من الشوقِ يسْمو
بخيالي مُفزّع الألحانِ
سكب الذكريات تملأ قلبي
بأهازيج ذاهل نشوانِ
وترامى بخاطري حيث شاءت
لوعة الروح من ظلال الأمانِ
فبدا لي سنا مُحيَاكِ فجرًا
ضاحكتْني من نْورهِ وجْنتانِ
في خميلٍ كأنّ عطرك يسري
في أزاهيره وفي الأغصانِ
صوّرت لي رحابُه أنّ حُبّي
مُستعيدٌ فيه صباهُ الفاني
ولكم يؤنسُ الفؤاد ويُرضيهِ
سراب من الرّضا والحنانِ

***

يا حياة الحياة، يا أمل الآمال،
يا حُلْمَ ساهرِ الأجفانِ
كنت أسعدتْنى وعوّدْت قلبي
نعْمَة الوصل، في ليالي التداني
فبأيّ الذنوب خلَّفْتَني اليوْمَ
أُعاني من النوى ما أُعاني
ليس عدْلاً هذا الجفاءُ الذي طالَ
وطالت بقدرْهِ أشجاني
وحرامٌ أن تجزيَ الشوْقَ بالصدِّ
وحُسْنَ الرجاءِ بالحرمانِ

لقد عاش أحمد فتحي حياته طائرًٍا مُتنقلا من فنٍّ إلى فن، ومن بلد إلى آخر، بين الإسكندرية والأقصر والفيوم والقاهرة ولندن، حيث عُين مذيعًا ومترجمًا للأخبار عام 1944م. في أثناء الحرب العالمية الثانية، كما عمل في جدة، حيث ساعده صديقه الشاعر السعودي عبد الله الفيصل على العمل مراقبًا عاما للبرامج في إذاعة جدة عام 1948م. وحين استقال من العمل بالإذاعة السعودية تحوّل إلى العمل بالمقاولات، حتى عودته إلى مصر عام 1953م، ليعمل بالصحافة كاتبًا وناقدًا ومترجمًا. لكن موهبته الشعرية ظلت هي الوجه الأساسي لتجلياته الأدبية والفنية، التي يضمها ديوانه الشعري المفتقد، الذي لم يتح له أن ينشر كاملاً حتى الآن.

يُسمعني.. حـينَ يراقصُني
كلماتٍ ليست كالكلماتْ
يأخذني من تحـتِ ذراعي
يزرعني في إحدى الغيماتْ
والمطـرُ الأسـودُ في عيني
يتساقـطُ زخاتٍ.. زخاتْ
يحملـني معـهُ.. يحملـني
لمسـاءٍ ورديِ الشُـرفـاتْ
وأنا.. كالطفلـةِ في يـدهِ
كالريشةِ تحملها النسمـات

نزار قباني

 

فاروق شوشة