قصص: بعض الأماكن، بعض الصور

قصص: بعض الأماكن، بعض الصور

أصابع مجنونة

المرأة المجنونة المشعثة كانت رائقة تلهو بمجموعة من علب البلاستيك الصغيرة الشفافة متدرجة الحجوم، راصة هذه العلب بتقاطر على سياج خفيض لحوض زهور جلست متربعة على حافته، تجعل العلب في تعاقب أفقي مرة، ومرة في تصاعد رأسي، كأنها تصف عساكر من الوهم، أو تبني عمارة في الخيال، لكنها فجأة- كما لو كانت ترى بعيون خفية في مؤخر رأسها- التفتت وانقضت على يعسوبين ملونين كانا في حالة اتصال حميم فوق زهرة من زهور المنتور الأبيض وراءها، فكأنني أرى ميدان التحرير لأول مرة.

جنون! وهل هناك جنون أكثر من تصور عشب ندي وزهور يانعة حقيقة وكائنات ملونة في اتصال حميم، على زهرة، وسط طاحونة هذا الميدان المزدحم الذي يتوسط إحدى أكثر مدن العالم ازدحامًا؟ جنون. وبلمسة جنونية صغيرة صادت أصابع المجنونة اليعسوبين المتصلين، معًا، في لحظة واحدة.

انكسر طوق الالتحام الحميم لليعسوبين بين الأصابع، العظمية المتسخة والتي توحي- هذه الأصابع- بأنها من خشب رميم- ثم راح اليعسوب وأنثاه يتأودان بعسر وتند عنهما نبضات مكتومة من حراك الأجنحة الشفافة بينما الأصابع المجنونة تحشرهما في أكبر العب، وتتابع الحشر.

في العلبة الأكبر راح اليعسوبان يدوران حول نفسيهما في خليط من المواساة والحيرة، وفي العلبة الأصغر أخذا يلوبان لصق الجدران في رغبة انفصال واضحة رغم تلامسهما، كأن كلاً منهما يبحث لذاته، ذاته وحدها، عن مخرج. وفي العلبة التالية في الصغر سكنا حتي بدا أنهما قد ماتا، لولا إشارة وانية جدًا من جناح مرتعش، وكنت أنتظر سكونهما النهائي في العلبة الأصغر.

لم يسكنا داخل أصغر العلب التي حشرتهما فيها أصابع المجنونة حشرًا، تشوه جسداهما المعلوكان معا، وراحا يغليان في حراك دائب ليخلص أحدهما بدنه من بدن الآخر، ثم، وبانقضاضة مباغتة بدا أن الذكر ياهجم أنثاه، بل راح يقطعها، يقطعها ويقطع ما تفرق منها حتى باتت ذرواً من تراب، يتطاير حوله في الفضاء الضنين، ويتطاير تحت أقدامه وقد بدا أنه يرقص. . رقصة مجنون في غبار نصفه الراحل.

نجيب محفوظ الثاني

الصدفة هي التي جعلتني أعرف بمحاولة اغتيال نجيب محفوظ بعد دقائق من وقوعها، وبرغم وجودي خارج مصر، إذ كنت أتصل بصديق لي يعمل طبيبًا في مستشفى "العجوزة" التي نُقل إليها الرجل الكبير إثر تلقيه للطعنة الغادرة، وأخبرني الصديق منفعلاً بالنبأ المروع. ووصف لي الجرح الفاغر في عنق الرجل الكبير الذي راحوا يهيئونه لجراحة معقدة. وكانت صورة ذلك العنق، التي رأيتها مرات بلا جرح، هي التي أحالتني إلى عنق مشابه تماما لشخص أعرفه في المنصورة التي بادرت أتصل بها.

لم يكن العنق وحده هو الذي يماثل عنق نجيب محفوظ في هذا الرجل الذي كنا نسميه: "نجيب محفوظ الثاني"، فملابسات الإيغال في العمر ويبوس العضلات والنظرة الباحثة في الأفق لضعف البصر والسمع يمكن أن تؤدي إلى هذا التشابه الملتبس في ملمح واحد، لكن العجيب أن تشابها مذهلاً كان يجمع بين الرجلين المولودين كليهما في نهاية العام 1911.

إضافة إلى ملامح الوجه والجسم، كانت هناك الضحكة المجلجلة برغم الإيغال في العمر، ودقة الإيقاع الحيوي في النوم المبكر والاستيقاظ المبكر، والإصابة بحساسية الربيع، ومرض السكر الذي لم يحبط إرادة الجسد أو حيوية الروح.

تشابه مذهل، لم يشذ فيه إلا أن "الثاني" لم يكن يقرأ ولا يكتب، لكنه فنان بالفطرة، ينصب اهتمامه على العناي بالزهور والطيور وإبداع مصنوعات يدوية من الخشب، دقيقة وفاتنة. وخلافا لنجيب محفوظ الذي تزوج متأخرًا، فإن نجيب محفوظ الثاني لم يتزوج قط.

بعد محاولات عديدة- مخفقة على غير العادة- استطعت أن أتصل بالمنصورة، ببيت أصدقائي الذين يعيش معهم نجيب محفوظ "الثاني"، فهو عمهم مباشرة. لم يكونوا يعرفون بما وقع لنجيب محفوظ، وسألتهم بإلحاح- استغربوه كثيرًا- عن العم، فراحوا يبحثون عنه بجدية وأنأ منتظر على الهاتف.

مضت عشر دقائق حتى أبلغوني أنهم عثروا عليه، عثروا عليه في ركن مستور في "مملكته" على سطح المنزل، بين أصص النباتات والزهور التي يرعاها، وأقفاص الطيور والأرانب التي يربيها للزينة، ومخرطة الخشب البدائية التي يبدع عليها مصنوعاته، ولذهولهم وجدوه ملتمًا على نفسه يبكي، لأول مرة يرونه يبكي، بكاء حارقًا كطفل مقهور، وعندما سألوه عن سر بكائه، أجاب وهو يتفطر من شدة البكاء:

"أمي. . افتكرت أمي"!

عربستان

في أوربا سألني سائق تاكسي عما إذا كنت أمريكيا لاتينيا أم لا؟ وفي إفريقيا سألتني صبية صغيرة عما إذا كنت من اليابان أم من الصين البعيدة؟ ورغم أنني عربي شمال إفريقي فإنني أظن أن لي جذور أسيوية، ولقد دفع الشيخ ذو النظارة الغامقة بظني في هذا الاتجاه.

جاء مع ابنه الشاب الذي سيقوم بإصلاح مرشح المياه في المطبخ، وكان هذا الابن يشبه كثيرًا أحد أشقائي. لم يكن الرجل يعمل، فقط اكتفى بتوجيه إرشادات موجزة لابنه، ووقف في الردهة هادئًا وصامتًا. وعندما تأملته ارتعشت جوانحي وتأثرت بشدة، وألححت على الرجل أن يجلس ليستريح في الصالون. ورحت أقدم له الشراب والحلوى وكأنني أريده أن يرتوي بلا حدود وأن يتخلى حتى يجري ريقة بعسل لا ينقطع، فقد كانت خطوط ملامحه وهيئته تطابق تمامًا صورة أبي. النظارة الغامقة وحدها كانت تحجب عني عينيه، ولقد أوشكت مرات أن أتمنى عليه وأرجوه أن يخلع نظارته تلك، ولو للحظة.

بعدما انتهى الشاب من إصلاح المرشح ودعني الرجل الذي أخبرني أثناء حديثه معي أنه من "عربستان"، وكنت أتمنى لو يضمني، ورفعت يدي موشكا أن أشير إلي نظارته راجيًا إياه أن يخلعها، لكنني من جديد ترددت.

أخذه المصعد هابطًا كأنه اختطف شيئًا من روحي، وأسرعت إلى الشرفة لأطل عليه، كأن هناك عند المدخل يهم بركوب سيارة نصف نقل صغيرة كانت تنتظر على الرصيف. وقبل أن يدخل كابينة السيارة فاجأني بالتفاتة وقد خلع نظارته، ثم لوح لي مبتسما، فصرخت: "يا أبي".

لقد مات أبي بعد مرض طويل، بين يدي، منذ سبعة أعوام مضت، شهق شهقة صغيرة، كطير مسالم، ورحل. ومنذ سبعة أعوام وأنا مثقل بالإحساس أنني لم أقدم له ما يستحقه، وظلت تتناوب عليّ أمنية غير معقولة، لو يعود أبي، ولو ليوم واحد، لأجثو عند قدميه معتذرًا عن كل تقصير بدر مني، ولأفعل لأجله أقصى ما يمكننا لعلني أسعده.

يا أبي. . صرخت، ولم يسمع صرختي، فقد انطلقت به السيارة وغيبته عن بصري، لكنني مكثت أراه بعين خيالي اليقيني يتجه صوب مكان بعيد، إنه عربستان التي لا أعرفها.

صينيون في مطعم غربي

صينيون في مطعم غربي باذخ في قلب بكين. لا ماندة دوارة ولا عصي للأكل، بوفيه مفتوح وكل منهم يذهب ويعود بطبق مليء والملاعق والشوك والسكاكين على المائدة. ذهبوا إلى البوفيه وعادوا فرادى لكنهم لم يبدأوا الأكل إلا معًا. معًا تأهبوا للأكل بالشوك والسكاكين بعد أن تناولوا الحساء بالملاعق دون صوت إلا صوت الارتشاف، راحوا بالشوك والسكاكين يأكلون. يأكلون بالشوك والسكاكين التي لم يألفوها فيحدثون ضجيجا لافتا. صوت الشوك والسكاكين وهي تتخبط بأطباق البورسيلين يتكاثف في زخم كأنها فرقة إيقاعية طبولها بورسيلين وعصيها من صلب وفضة. إيقاع متداخل مضوضئ انتبه إليه بانزعاج وهو يعلو ويعلو حتى يدفعني إلى الصراخ. أصرخ فيتوقف الصينيون ملتفتين إليّ بذعر ودهشة. معا يلتفتون وعلى الفور ومعًا أيضاً يتلاشون كأنهم لم يوجدوا قط. لقد فتحت عيني من هول صرختي وجُماع التفاتتهم فلم أر غير الظلمة ظلمة أول الليل في غرفة فندق "بكين" بقلب بكين.

غابة الصنوبر

أراني كما أنا، في الكويت صيفًا، حيث درجة الحرارة في الشارع تجاوزت الخمسين درجة مئوية، أستلقي في شقتي المكيفة في الطابق الثاني، على السرير الذي اخترته عاليًا ومجاورًا للنافذة المسدلة عليها ستارة سميكة رمادية وزرقاء الورود أستلقي في ضجر.

دافع غامض يقودني ليس إلى مجرد إزاحو الستارة فقط، بل إلى فتح النافذة ذات الزجاج "الفيميه" الداكن على مصراعيها، وتندعني شهقة ذهول إذ أبصر ما تُطل عليه النافذة.

جذوع وأغصان أشجار ضنوبر في غابة شمالية، أقف على حافة النافذة وأتعلق بأقرب جذع لأهبط نحو أرض الغابة. ومن مرقاي العالي أتعرف على هذه الغابة المطلة على بحيرة يرتادها البط البري عند أطراف مدينة بعيدة، في هذه الغابة استلقيت على العشب الطري يومًا، أنعم برقة الظلال ورؤية مراوح الأغصان عند الذرى الشاهقة، أصغي لصدح الطيور، وأتذوق عسل الحب في أريج الغابة.

ثمة هاتف يُسر لي: من كنت تعرفهم لم يعودوا هنا، ليس ثمة داع لهبوطك، وألاحظ أن الغابة صامتة بلا هسيس للعشب أو طقطقة للأغصان أو شدو للطيور. أرجع، وما إن أستقر قانطًا على حافة النافذة حتى تختفي الغابة، ثم أفزع على أصوات جمع من العمال الهنود والبنجلاديش والصعايدة في الشارع، يشيرون إلى نافذتي صائحين: "المجنون،، سينتحر، سينتحر".

إنهم يتصايحون من جحيم الشارع المكشوف للشمس، من هواء حرارته تجاوزت خمسين درجة مئوية، يهب لافحا وجهي فأتراجع إلى الخلف، إلى الخلف نحو هواء الغرفه المكيف. أغلق النافذة، وأشد عليها الستارة الرمادية زرقاء الورود، أستلقي على السرير العالي، أبكي- بلا صوت وبلا دموع- ضياع غابة الصنوبر.

من بطن الحجر

ردهات تفتح على ردهات وغرف تؤدي إلى غرف ودرج يفضي إلى درج. ضعت، ضعت وقصص الذين ضاعوا في متاهة قلعة جايبور كثيرة ومخيفة، أرتعب، أرتعب وأجري هنا وهناك وقلبي ينتفض مذعورًا في صدري، ألتمس المخارج، لا مخارج، إنها قلعة آخر المهراجات الراجستانيين في مدينة الملوك التي لم يعد بها ملوك، جايبور، أتسمع الأصوات فلا يبلغني إلا صوت الريح على الحجر، حجر جيري أبيض مصفر شيدت به الحيطان والقباب وعقود الدهاليز والدرج. كل شيء، كل شيء. كل شيء حجر، حجر، حجر، حجر. أعلم أن الناس هناك يدورون في جماعات مع الأدلة المحنكين لكنني لا أبصر إلا الحجر، لا ألمس إلا الحجر، يرعبني الحجر، سأموت من الإنهاك وأتيبس من العطش والجوع ولن يعثر عليّ أحد إلا صدفة فوق الحجر، حجر أبيض مصفر يزداد نصوعًا مع ازدهار شمس الظهيرة، حجر يسطع ويسخن فيدفعني نحو ظلال الردهات، الأروقة، الدرج، أتهاوى إعياء فأحبو في عتمة الظلال على الحجر، حجر جيري أبيض مصفر تتباين ملامسه على راحتي وأنا أزحف، يا لله، ثمة نعومة هنا وثمة خشونة هناك، هذي النعومة في بطن هذا التآكل المقوس الخفيف حتتها آلاف آلاف الخطوات الذين ساروا من قبل على الحجر. هذا ملمس دروب البشر في متاهة الحجر تلك، والدروب تُفضي إلى دروب، أزحف متلمسًا الحجر باحثًا عن تلك الدروب وأمضى زاحفًا، أتقدم وأصعد وأهبط وأدور وأعاود الصعود لكنني لا أتقهقر، ،آاااه، أصرخ وأكتم صرختي إذ أرى الناس والنور فأتصنع أني كبوت، وأنهض، أنهض سائرا في ركب الجماعة خلف المرشد المحنك لا أرى إلا خطو الأقدام ولا أسمع إلا حفيفها على الحجر.

 

محمد المخزنجي

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات