تستغرق الرحلة المباشرة بالطائرة من مدينة دبي إلى العاصمة الكورية
ثماني ساعاتٍ ذهابًا، وعشر ساعاتٍ إيابًا! في المطار الإماراتي يتجمع القادمون من
دول العالم، ليحلقوا معنا حتى مطار إنتشون الدولي، قرب العاصمة الكورية الجنوبية
سيئول. نحملُ نحن المسافرين العرب إلى بلاد الهان؛ اسم النهر الذي يشق العاصمة،
دعوة لنكون شهودًا على حدث استثنائي: افتتاح المركز الكوري للثقافة العربية
والإسلامية.
ساعات طوال في الجو نحاول أن نلحق النهار في الشرق، فهناك تشرق الشمس
قبلنا، وهناك يستيقظ الناسُ قبلنا، وهناك ينطلقون إلى العمل قبلنا، بنحو ست ساعات،
تزيدُ ساعة أو تقل أخرى حسب وجهة القادمين، ولكننا جميعًا سنكتشفُ بعد وصولنا أن
الفارق ليس مجرد بضع ساعات، ولكن الفارق سنوات من التخطيط، وأجيال من الأحلام.
بواكير التواصل
حين جاءت القوات التركية التي كانت ضمن قوات حفظ السلام التابعة للأمم
المتحدة إلى كوريا بعد الحرب الكورية الشمالية - الجنوبية التي استمرت من 1950 إلى
1953، وسمح لهم بممارسة شعائر الإسلام وطقوسه وخاصة في شهر رمضان. كان ذلك في عام
1956، حين أقامت الفرقة التركية مسجدًا صغيرًا ارتفع فيه صوت الأذان مكبِّرًا يدعو
إلى الصلاة. وقد أعجب بسلوك الجنود، وصلاتهم، وسماحتهم الكوريون، وخاصة السماحة
التي تؤسس للعلاقات الإنسانية في كوريا، فدخلوا الإسلام، وبدأت تتكون لهم جماعة لها
مركزها، ومقارها، ويتخصص أبناؤها في علوم الإسلام واللغة العربية، ثم تأسس اتحاد
المسلمين الكوريين في 1967، وشيد المسجد المركزي في سيئول سنة 1976، وأقيمت أول
شعائر رسمية للدين الإسلامي في شهر سبتمبر 1995، ثم انتخب أول إمام كوري بعد ذلك
مباشرة. هذا هو التاريخ الجديد لدخول الإسلام. لكن دخول الدين الإسلامي للمرة
الأولى إلى شبه الجزيرة الكورية يرجعه الباحثون إلى فترة مملكة شيلا الموحدة (668 -
945 ميلادي).
تشير أدبيات الرحلة العربية إلى خبرة الملاحين المسلمين ومعرفتهم
ببحار الشرق الأقصى. حتى أن هؤلاء البحارة أسسوا في بواكير القرن الثامن الميلادي
مستعمرات تابعة لهم أطلقوا عليها اسم (فان فانج)! وكان أهل الفضيلة في (فان فانج)
يطلق عليهم لقب القاضي والشيخ، ويختارون ويعينون من قبل السلطات الصينية لإدارة تلك
المستعمرات وفقا للشريعة والعادات الإسلامية.
في منتصف القرن التاسع الميلادي سجل سليمان التاجر أحد الرحالة
والتجار العرب وجود أكثر من مائة ألف مسلم على السواحل الشرقية الجنوبية من الصين،
في الوقت الذي كانت أواصر العلاقات فيه بين أسرة تانج في الصين ومملكة شيلا في
كوريا قوية بما يسمح بالسفر من وإلى البلدين.
بأقدم وثيقة تذكر للمرة الأولى كوريا وتشير إلى مستوطنات المسلمين في
شبه الجزيرة الكورية، وقرأتُها في كتاب المسالك والممالك، الذي ألفه أبو القاسم
عبيد الله بن أحمد بن خرداذبه، سنة 232 هجرية (846 م) ووصفه بأنه كتاب فيه صفة
الأرض وبنية الخلق عليها وقبلة أهل كل بلد والممالك والمسالك إلى نواحي الساكن فيه،
حيث يقول: «وفي آخر الصين بإزاء قانصو جبال كثيرة وملوك كثيرة وهي بلاد الشيلا فيها
الذهب الكثير ومن دخلها من المسلمين استوطنها لطيبها ولا يعلم ما بعدها».
كان حضور الفصول الأربعة للطقس دافعًا كبيرا للإقامة في شيلا، ويذكرُ
رحالة آخرون أن من يأتي شيلا لا يتركها لاعتدال جوِّها. ومن الطريف كما يذكر
الجغرافي الأشهر محمد بن محمد بن عبد الله بن إدريس المعروف بالإدريسي إن شيلا كانت
مصدرًا للذهب، حتى أن الكلاب والحمير تضع في أعناقها قلائد من الذهب، ويرتدي ناسها
ملابس حاكوها بخيوط الذهب. وهو ما جعل من شيلا بمنزلة يوتوبيا في عيون وخيال
القادمين الراكبين أعالي البحار، بل إن بعض الرحالة تمادى فجعل من شيلا قارة أطلنطس
الغارقة (جزيرة الخلود والثروة)! ووصل زكريا بن محمد بن محمود القزويني (1203 -
1283م)، صاحب آثار البلاد وأخبار العباد، إلى القول إن سكانها لا يعانون سقمًا،
لطيب هوائها، ونظافة مائها، وخصوبة أرضها. فيبدو أهلها أصحاء، ولا يمرضون إلا فيما
ندر، ولا يعانون من وجود الذباب أو الحشرات المؤذية، وها هو محمد بن زكريا الرازي
(865 - 925 م) يكرر أن من يذهب إلى شيلا لا يعود منها، لما في جوِّها من نقاء، وما
في حياتها من رغد، وذهب، والله أعلم!
بدأ التواصل بين مملكة شيلا والمسلمين عبر عدة قنوات. فهناك قناة سمحت
بها التجارة بين المسلمين الذين تنقلوا بحرية ومقدرة بين موانئ الجزيرة العربية
والهند وجزر الملايو والصين، وأقرانهم الكوريين الذين كانت لهم نفس الحرية والمقدرة
على التنقل بين موانئ الصين وكوريا واليابان. وشقت قناة أخرى سياسية في شانج آن،
عاصمة تاج في الصين، قرَّبت ووصلت بين مبعوثي الدبلوماسية والتجارة الكورية
والمستوطنين المسلمين هناك. وقناة ثالثة، أخذت شقا ثقافيا، وتمت في الصين أيضا، بين
المسلمين وطلاب كوريين جاءوا لدراسة أقاليم الثقافة في الصين. أما الصلات الدينية
فيحكيها الرهبان البوذيون الكوريون، الذين كثيرًا ما سافروا للصين في مناطقها
الشمالية الغربية (منطقة تركستان الآن)، وكتبوا في مدونات رحلاتهم عن لقاءاتهم مع
المسلمين، وأحوال دينهم.
العودة إلى شيلا
اليوم لا يعود العربُ والمسلمون إلى كوريا وحسب، بل يعودون إلى حيث
قامت مملكة شيلا بالتحديد، وفي مدينة إنتشون التي تقع على خط الطول 37 شمالا، وخط
العرض 126 شرقا، والتي تعدّ مقدراتها لتكون بوابة آسيوية ضخمة، برًّا وبحرًا
وجوًّا!
تاريخ إنتشون يعود إلى عهد أسرة قو كوريو (18 قبل الميلاد 28 ميلادي)،
حين جاءها أمير سليل تلك الأسرة الحاكمة ليقيم عند أقدام جبل مونهاك في ميتش هول،
الاسم القديم لإنتشون. تمضي القرون، ويفتتح بالمدينة سنة 1883 ميلادية ميناء
جايمولبو للتجارة مع جيرانها. أما في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي فقد كان دور
إنتشون في تحديث وعصرنة كوريا بالغ الأثر، وها هي اليوم تعيد بناء نفسها في طفرة
جديدة، بمطار راق (افتتح في 2001 ويكمل توسعاته نهاية هذا العام 2008 ليربط المطار
بين 127 مدينة)، ومنطقة حرة تجمع مناطق ثلاثا معًا: سونج دو، ويونجي جيونج، وشيونج
نا، وميناء عملاق هو الأكبر سعة في آسيا (يسمح في وقت واحد باستقبال 75 ناقلة حمولة
كل منها خمسون ألف طن)، وجسر يشبه تنينا مسالمًا لا تُرى نهايته، يربط إنتشون
الجزيرة بجسد كوريا كله/ بطول 12 كيلومترا و34 مترًا، وحين يكتمل في أكتوبر 2009
سيعد إحدى عجائب الإنشاءات العشر في العالم، وهو يكمل استعدادات المنطقة التي تقع
شمال شرق آسيا لتسيطر على التجارة العالمية برمتها.
لقد ذكرتُ هذه البيانات كلها لأصوِّر أين يقع المركز الكوري للثقافة
العربية والإسلامية، وأين سيمر شارع العرب. ففي خضم هذه الصورة الماردة للمنشآت
العملاقة، والبنى التحتية المذهلة، يجري العمل على تثقيف الحجارة وحضرنة الحديد
وتمدين الأسمنت، بعد أن أدرك الكوريون أنه لا يكفي وحسب أن ينشئوا جسرًا أو يشيدوا
منطقة حرة أو يخططوا ميناء أو يقيموا مطارًا أو يعلوا أبراجًا عملاقة (سيكون في
إنتشون أطول برجين توأم في كوريا بارتفاع 640 مترا يضمان 151 طابقا في كل منهما)،
بل يجب أن تسكن هذه الفضاءات أرواح حية، وأن تتحرك فيها قلوب تنبض، وأن تغني في
شوارعها ألسنة العالم، وأن تفدُ إليها نوارسُ القوميات، موسمًا بعد آخر، وأسرابًا
بعد أخرى، ومن هنا بدأ التفكير من قبل مؤسسات دولية كالأمم المتحدة في أن تسكن بعض
منظماتها هذه الولاية.. المدينة.. الجزيرة.. اليوتوبيا.. الجديدة.
هنا التقت أحلام رجلين، الأول هو حاكم إنتشون، والثاني هو رئيس جمعية
كوريا والشرق الأوسط، ليبدآ معًا في رسم خريطة لحلم مشترك، وكان للعرب والمسلمين
الحضور الأبرز في هذا المشروع الجديد. وشهدت (العربي)، مع أقطاب الثقافة في الوطن
العربي والعالم الإسلامي، ميلاد الحلم على أرض الواقع، مثلما شاركت في التخطيط
لاستكمال باقي أركانه، في الأمس القريب وللغد البعيد معًا.
إلى المركز الكوري
في إطار سنوات من التخطيط، وأجيال من الأحلام، خصص حاكم إنتشون آن
سانج سو مساحة تربو على 12 ألف متر مربع للمركز الكوري للثقافة العربية والإسلامية،
منها ألفان و116 مترًا، مساحة أرضية للبناء الذي سيرتفع نحو 21 مترًا، ويكتمل في
العام 2012م، إلى ثلاثة طوابق علوية، وطابق واحد تحت الأرض، وسيحمل الرقم 595،
كيونج سو دونغ سو كو، بمدينة إنتشون.
لكن السيد آن سانج سو لم ينتظر العام 2012 ليفتتح المركز، إذ إنه خصص
مساحة تبلغ 1600 متر مربع في الدور الثالث من بناية داي هونغ بمدينة إنتشون لتحتضن
المركز الكوري للثقافة العربية والإسلامية خلال هذه السنوات، وذهبت دعوات العمدة،
والدكتور هان دوك كيو رئيس المركز ورئيس جمعية كوريا والشرق الأوسط، إلى أقطاب
الثقافة في الأراضي العربية والإسلامية، لحضور افتتاح هذا المركز المؤقت. كان توقع
المضيفين أن المركز الوليد سيجد صدى يناسبه، لكن احتفاء العرب والمسلمين له، جعل
الأطراف جميعًا تفخر بما أنجزته.
شهد الافتتاح الكبير للمركز المؤقت حضور هيئات ديبلوماسية وثقافية
عربية رفيعة المستوى. وحضر سفراء ووزراء من مصر ودولة الكويت والمملكة العربية
السعودية والإمارات العربية المتحدة ودولة قطر وجمهورية العراق والجمهورية اليمنية
وجمهورية السودان فضلا عن ممثلي الجامعة العربية ورؤساء مراكز ومؤسسات ثقافية
واتحادات كتاب العرب، وممثلين للثقافة الإسلامية غير العربية من الجمهورية
الإيرانية.
نتجول داخل المركز الكوري للثقافة العربية والإسلامية، الذي صمم ليكون
معرضا دائما للحضارة الإسلامية والثقافة العربية، فننتقل بين معرض ذي أقسام عديدة
لأساليب الحياة ووجوه الفنون ونماذج الآداب، ونتوقف عند رفوف المكتبة التي بدأت
مجموعات الإهداءات إليها في إغنائها، وصولا إلى قاعة عرض للأفلام العربية، ومرورًا
بقاعة المؤتمرات، والغرف البحثية المعدة لاستقبال الدارسين، وجلوسًا في المقهى
العربي، وإعجابًا بقاعة عرض أصغر تختلف المعروضات فيها كل شهر، خصصت للحضارة
الفرعونية كمستهل لثقافات المنطقة، وبالمجمل كنا داخل فضاء لحوار حضاري بين
الثقافتين العربية والإسلامية من ناحية والكورية من ناحية أخرى.
في كلمته التي دشنت إزاحة الستار عن لوحة تمثل الصحراء العربية وعليها
اسم المركز باللغتين العربية والكورية، وأمام سفينة الصحراء التي حملت العربي الأول
في قفاره كي يعمرها بالحج ويعبرها بالرحلة والتجارة، وقف آن سانج سو حاكم إنتشون
ليعلن أمام الحضور وعده ويقينه من تحويل هذا المركز إلى نموذج يجسد العلاقات
الثقافية بين الأمم.
المعرض الدائم يضم مقتنيات تشرح باللغة الكورية مفردات الحياة العربية
وأبجديات التقاليد والشرائع الإسلامية. ومثلما نتعرف على طرق الحج، ومناسكه، حتى
نقترب أكثر من خلال تمثالين لرجل وامرأة يرتديان ملابس الإحرام وأمامهما مجسمان
للأماكن المقدسة في مكة المكرمة والمدينة المنورة، ومخطوطات لكتاب الله عز وجل. ولا
يجد رعاة المركز غضاضة في أن يضعوا زائر المعرض في الصورة المقابلة للحياة الدينية
الصالحة، حين يقدمون ركنا خاصا عن الرقص الشرقي؛ أزيائه، وموسيقاه، وأعلامه،
وبلدانه، وأدبياته! إن الكوريين يرون الصورة شاملة للمجتمع، يرونها دون تنميق أو
تزويق، يرونها عارية عن القصد في الكشف أو النية في الإخفاء، فالحياة في المدن
العربية تعرف الوجهين، وعليهم أن ينقلوا تلك الصورة بصدق أو على نحو يقترب من
الحقيقة! فهذه القاعات عليها أن ترصد أربعة عشر قرنا من الحياة في بقعة مترامية
الأطراف عبر قارات العالم القديم.
طريق الحرير الجديد
بهذه الكلمات الثلاث: «طريق حرير جديد»، بدأ حديث الدكتور هان دوك كيو
إلينا. فرئيس المركز الكوري للثقافة العربية والإسلامية يقول: «إن طريق الحرير
القديم الذي مرَّ بمملكة شيلا والصين وأمصار الإسلام وصولا إلى مدن الشام وموانئ
الإمبراطوريات الشرقية وحواضرها الأوربية، يعود اليوم في الألفية الثالثة في شكل
جديد. إن الشرق الأوسط الذي شهد ميلاد حضارات عريقة وثقافات راقية وعلوم متقدمة في
الطب والرياضيات والفلك يستعيد اليوم دوره في التبادل الثقافي والتجاري الذي يتم
عبر بلدان المنطقة الأكثر ثراء فيما هو مادي، ومعنوي في آن واحد».
لا تبحث جمعية كوريا والشرق الأوسط التي يرأسها الدكتور هان، والتي
سعت إلى تأسيس هذا المركز، إلى تبني عرض افتتاحي، أو شكل استعراضي إعلامي لعلاقة
مؤقتة بين الجانبين، بل تحرص على «تأسيس قاعدة متينة ودائمة تروِّجُ للثقافة، وتنمي
الفضاء الأكاديمي، وتدعم التبادل الاقتصادي بين كوريا والشرق الأوسط. وهي خطة العمل
التي قصدنا إليها، وأدركتها إنتشون بمؤسساتها الداعمة لنا سواء الرسمية أو
التجارية، والتي ساعدتنا على تحقيقها».
يستطرد الدكتور هان: «بجانب درس التاريخ لنا حول التشعب الهائل
للثقافات وتعددها، يوجد هناك عالم مشترك واحد، تتلاقى فيه وتتلاقح أفكار الإنسانية
ومعتقداتها، لتتطور وتنتج وتبني مجتمعاتها. إنها حضارة السماحة وتقبل الآخر التي
يجب أن تسود، حضارة التنوع الغني والحر للثقافة، حضارة الاتكاء على الأصول الثابتة
والتقاليد الراسخة وحقوق الإنسان الثقافية، وهذا هو دورنا في المركز الكوري للثقافة
العربية والإسلامية».
في أمسية حملت عنوان «ليلة عانقت الواحة الصحراء»، عبرت ثقافات كوريا
والشرق الأوسط عن نفسها بين عروض موسيقية وحركية منفصلة ومشتركة. ليلة استعاد فيها
الحضور طريق الحرير الجديد للفن الذي أشار إليه الدكتور هان.
الدكتور حكيم كيم مدير المركز يقول إنه يريد أن يجعل المكان مزارا
للشعب الكوري بمختلف فئاته وليس مجرد مكان ولافتة. وعرفنا أن رحلات لتلاميذ المدارس
في محافظة إنتشون ستتوجه للمركز في زيارات منتظمة. ويرى حكيم أن ذلك المكان منوط به
تصحيح الصورة عن العرب والمسلمين ليس فقط لدى الطلاب، بل عند المدرسين أنفسهم ممن
لديهم معلومات منقوصة أو مغلوطة عن العرب والمسلمين. ويقول إن هناك سلسلة من
المحاضرات عن العروبة والإسلام والشرق الأوسط سيستفيد منها حضور مؤتمرات وندوات
المركز.
في المركز الكوري للثقافة العربية والإسلامية صادفتنا أحلام تحققت،
واستمعنا إلى أحلام بصدد المستقبل. فقد أصدروا فصلية باسم جمعية كوريا والشرق
الأوسط، وفصلية أخرى بعنوان تقرير الشرق الأوسط، ويعدون لإصدار 25 كتابًا ستكون
بمنزلة مراجع عن كل أقطار الشرق الأوسط، تفي بجوانب كل بلد في التجارة والثقافة،
وشرعوا في ترجمة الأدب الكوري إلى اللغة العربية، ويخططون لترجمة الأفلام
والمسلسلات لتذيعها شاشة «آريرانج arirang» المحطة التلفزيونية الموجهة باللغة
الكورية والمترجمة إلى اللغتين الإنجليزية والعربية، وإتاحة هذه الأعمال الفنية
للشاشات العربية.
يقول حكيم كيم إنهم يطمحون إلى أن يصبح لديهم مركز للترجمة من الكورية
إلى العربية والعكس، وأن يكون المكان منتدى لحوار بين العرب والكوريين في مختلف
المجالات، وأن يخدم بالمثل رجال الأعمال العرب والمسلمين، بدعم من رعاة المركز
الذين تمثلوا في جمعية كوريا والشرق الأوسط، ومحافظة إنتشون، ومجموعة شركات SK
لمنتجات الطاقة وخلافها. الاهتمام الكبير بهذا الافتتاح أعقبه اهتمام أكبر بالحوار
الكوري - الشرق أوسطي.
شارك في الحوار الثري متحدثون عرب وكوريون قدموا تجارب بلدانهم،
وعرضوا سبل الحوار مع الجانب الكوري في شتى مجالات الترجمة والتعليم والاقتصاد.
وكانت فيه أوراق للدكتور سليمان العسكري رئيس تحرير العربي، والدكتور جابر عصفور
رئيس المركز القومي للترجمة في مصر، والدكتور أحمد الضبيب عضو مجلس الشورى السعودي،
والدكتور صلاح الدين بوجاه رئيس اتحاد الكتاب التونسيين، وعصام رفعت رئيس تحرير
الأهرام الاقتصادي، ومصطفى عبدالله مساعد مدير تحرير الأخبار القاهرية، وناصر عراق
مدير تحرير «دبي الثقافية»، والشاعرة بونه ندائي رئيسة تحرير الدورية الثقافية التي
تصدر في طهران «شوكران»، والباحث العراقي الدكتور علي القاسمي. والدكتور عبد الحميد
أبو موسى محافظ بنك فيصل، وعدد كبير آخر ساهم في إضاءة صورة العرب والحياة العربية،
وثقافة المنطقة أمام الحضور النوعي لهذا الحوار، وللندوات التخصصية التي عقدت
معه.
شارع العرب
انطلقنا إلى إنتشون، لنشارك عمدة المدينة وعشرات المثقفين من البلدان
العربية في افتتاح «شارع العرب» بالمدينة الجزيرة التي ستستضيف معرض المدن العالمية
في 2009 والمركز الكوري للثقافة العربية والإسلامية في 2012، ودورة الألعاب
الآسيوية في 2014.
تنقسم منطقة إنتشون الاقتصادية الحرة إلى ثلاثة أجزاء هي سونج دو
ويونج جونج وشيونج نا وتبلغ مساحة سونج دو 53 كيلو مترا مربعا ومن المتوقع أن
تستوعب نحو 250 ألف نسمة وستصبح مركزا دوليا والصناعات المعلوماتية وتكنولوجيا
المعلومات وكل ذلك مع الحفاظ على نظافة البيئة. أما يونج جونج فتبلغ مساحتها 138
كيلو مترا مربعا ومن المتوقع أن تستوعب 144 ألف نسمة. ومن المخطط أن تصبح شيونج نا
البالغة مساحتها 17 كيلو مترا مربعا مركزا للسياحة والاستجمام، وتضم عددا من ملاعب
الجولف ومجمعا رياضيا ومحطة للقطارات حيث تخطط إنتشون أيضا لإنشاء شبكة من خطوط
السكك الحديدية تصل إلى أوروبا عبر موسكو، وهو أمرٌ كان مرجأ حتى توافق عليه كوريا
الشمالية، وهي موافقة أصبحت قاب قوسين أو أدنى بفضل التقارب الجنوبي الذي بدأ
بزيارة الرئيس الكوري الجنوبي لرئيس كوريا الشمالية، التي ستسمح جغرافيتها بمرور
هذا الخط الحديدي العالمي.
تعوِّلُ كوريا على منطقة إنتشون التي تقع على الساحل الغربي لكوريا
الجنوبية وتبعد نحو 35 كم عن العاصمة سيئول لتكون بوابة الدخول إلى ملياري نسمة هم
سكان جنوب شرق آسيا الذين يمثلون أكثر من 30 % من سكان العالم (من المقرر الانتهاء
من العمل بالمنطقة تمامًا بحلول عام 2020).
أمام مخطط عملاق لما سيكون عليه المركز الكوري للثقافة العربية
والإسلامية، رفع الضيوف الستار عن شاهد حجري كتب عليه بالكورية والعربية: شارع
العرب. ووقف الجميع يلتقطون صورًا تذكارية أمام هذا النصب الذي يوثق لحظة تاريخية
لحضور العرب في الشرق الأقصى، فلم يكن الأمر مجرد بناء وطريق وشاهد، بل مشاركة من
قوة صناعية كبرى في تسجيل موقفها الإيجابي والمرحب من حضارتنا الإسلامية وثقافتنا
العربية، في وقت نحن في أمس الحاجة إلى مثل هذا الدعم.
حين صعدنا إلى مرصد المنطقة الحرة بالمدينة تسنى لنا أن نقارن بين
الخرائط التصورية والأبنية الحقيقية التي تصعد في كل فضاء حولنا، كما تمكنا بواسطة
منظار عملاق من متابعة ردم البحر في بعض سواحل إنتشون لإضافة أراض تواكب طفرة
البناء، واقتربنا من مجسمات تشرح بدقة كيف سيكون عليه الوضع في إنتشون العقد
القادم، وتخيلنا مرورنا وسط ظلال وارفة لأشجار ستنبت في شارع العرب الذي ظهر مجسمًا
على تلك الخريطة ثلاثية الأبعاد، والتي تتحرك أركانها كهربائيا لتشرح بالصورة
للزوار مشاهد الغد!
على مدى الأيام التالية في سيئول وإنتشون سيبدأ ممثلو المؤسسات
الثقافية العربية في توقيع اتفاقيات ومذكرات تفاهم وخطط تعاون بين المركز وأقرانه
في الوطن العربي. فالدكتور جابر عصفور مدير المركز القومي للترجمة في مصر، الذي
اعتبر أن المركز الكوري جسر جديد للحوار بين الحضارات، ومنارة مستقلة لصورة الإسلام
الحقيقية، رأى أن نجاح المركز يعتمد على دعم حركة الترجمة بلا حدود، وتنظيم لقاءات
سنوية في العواصم الثقافية، ووقع على مشروع ترجمة مشترك بين المركز المصري والكوري
للترجمة المتبادلة كما وجه الدعوة للكوريين لكي يستضيف المركز القومي للترجمة أول
لقاء ثقافي للمركز الكوري في الوطن العربي. واقترح الدكتور صلاح حسب النبي رئيس
العلاقات الثقافية الخارجية بوزارة الثقافة المصرية دعوة الجانبين إلى عقد الملتقى
الأول للترجمة العربية الكورية في رحاب احتفالات الإسكندرية عاصمة للثقافة
الإسلامية هذا العام!
بعد توقيع الاتفاقية في مقر السفارة المصرية برعاية السفير رضا
الطايفي شكل الجانبان لجنة مشتركة ضمت الدكتور جابر عصفور والدكتور يوسف عبد الفتاح
وطلعت الشايب وشهرت العالم ومصطفى عبد الله من الجانب المصري، والدكتور هان دوك كيو
والدكتور إسماعيل لي يونج تي، والدكتور أبو بكر تشوي جين يونج، والدكتور أمير سو
جونج مين، والدكتور حكيم كيم جونج بيونج من كوريا، تكون مهمتها ترشيح النصوص التي
تترجم بين اللغتين، والإعداد لمؤتمرات في قضايا حوار الثقافات بين الجانبين، وتقديم
منح دراسية للشباب المعني بدراسة كلتا الثقافتين بالتبادل، ووضع آلية متواصلة
للتعاون بين مختلف المؤسسات المهتمة، مع ترحيبها بالمقترحات التي تدعم مسارها.
كما وقع الدكتور هان دوك كيو رئيس المركز الكوري للثقافة العربية
والإسلامية على مذكرة تفاهم مع الدكتور محمد صابر عرب رئيس مجلس إدارة الهيئة
العامة لدار الكتب والوثائق القومية في مصر للتعاون في مختلف مجالات التوثيق
والترميم والفهرسة ونشر التراث.
كانت هناك طرافة في مناداة الأسماء الكورية بالألقاب العربية التي
اختاروا وضعها أمام أسمائهم الأصلية، أبو بكر، وجنان، وحكيم وإيناس، وغيرها من
الأسماء التي ربما ابتعد عنها العرب والمسلمون أنفسهم، مواكبة للتغريب حتى في ألصق
الصفات بالإنسان؛ اسمه. وتذكرت مبحثا لطيفا في كتاب اقتنيته من مركز الأبحاث
للتاريخ والفنون والثقافة (إرسيكا) في استانبول للباحث هي سو لي، وكان عن دخول
الإسلام إلى كوريا، ويحكي فيه عن الأسماء الصينية (والكورية لاحقا) التي كانت لها
جذور عربية، فيقول: إن ها أصلها خالد أو حسن، ومان مصدرها منصور، وسا أساسها سعد أو
شمس الدين أو شاه، ولاه هي من عبد الله، وتا جاءت من داوود، وآي تُردُّ إلى عيسى،
وبا منبتها بدر الدين، وتنج للازمة اللاحقة : الدين، وهو تعني حسين، وهاي تحيلُ إلى
حيدر، وبو تعودُ إلى أبو، وهو اسم التصق بمسلمين كُثر عاشوا بين القرنين العاشر
والثالث عشر الميلاديين في الصين، أبو مالك، وأبو القاسم، وما اختصرت الأسماء
العربية إلا لأن الأسماء الصينية ذات مقطع واحد على الأغلب، ولذلك سمى المسلمون
أنفسهم تلك الأسماء الصينية المتحولة تسهيلا على سامعها وناطقها في آن واحد!
نجيب محفوظ في هانكوك
بدعوة من الدكتور حكيم كيم، مدير المركز الكوري للثقافة العربية
والإسلامية، وأستاذ اللغة العربية في جامعة هانكوك للدراسات الأجنبية، شددنا الرحال
إلى فصل تعليمي للغة العربية لدارسيها كلغة ثالثة!
في الطريق إلى الجامعة وعن نظام التعليم في كوريا تحدث إلينا الدكتور
يوسف عبد الفتاح الأستاذ في الجامعة نفسها، عن مسئولية الجميع عن التعليم، إذ لا
تنفرد به المدرسة أو الكلية أو الجامعة، بل الكل يشارك فيه، باعتباره واجباً
وطنياً، فهناك التلفزيون التعليميE.B.S، وبه خمس قنوات تعليمية موحدة تعنى
بالمهارات الأساسية للمرحلة الابتدائية، وتهيئ للعمل للمرحلتين المتوسطة،
والثانوية، وتقدم صحيفة تشوصن جريدة يومية للأطفال تعنى بالأمور التعليمية وأخبار
المدارس، وتقدم تقارير عن مواضيع تعليمية، ومسابقات وحلولاً للتمارين، وعروضاً
للكتب وأفلام الكرتون، وتركز على قضايا الأطفال، والتعليم، كما تقوم الجريدة بتغطية
رحلة لأربعمائة معلم كل عام لليابان للتعرف على التطور ونقل الخبرة، وتغطية رحلة
لمائة معلم كل عام للصين لمشاهدة التقدم السريع في الصين حتى يتم تجويد العمل لضمان
استمرار التقدم عليها. واستطرد محدثي فأفاض عن دعم الشركات الكبيرة للتعليم، بدءا
من إقامة مباني المدارس والجامعات، وتجهيز المعامل والقاعات، (معمل الفضاء في
الثانوية العلمية تدعمه شركة تدفع مبلغ 75000 دولار سنوياً للأبحاث)، والمستوى
المعيشي للمعلمين مرتفع، ورواتبهم تبدأ من 2500 دولار أمريكي شهرياً. وفي داخل كل
فصل لوحة جميلة تشمل صور جميع الطلاب، ويتم تدوين أحلامهم المستقبلية وأهدافهم على
صورهم كل عام.
ذكرتني كلمات محدثي بزيارة أخرى قمنا بها بالأمس إلى جامعة يونج إن،
وهي جامعة نوعية، تنمي مواهب الشباب وطاقاتهم، لتعلي ما هو تقليدي من عادات
كالرياضات البدنية وفنون الحرب بطرق عصرية ليواكب المجتمع وحاجاته. وقد بدأت بكلية
مدتها عامان لرياضة الجودو في سنة 1953، وتضم اليوم كلية لفنون الحرب (الجودو،
التاي كوندو، رياضات الحرب الشرقية، فنون التدريب العسكرية، وفنون الأمن)، وكلية
أخرى لعلوم الألعاب والرياضات، وكلية للفنون (الرقص، التصميم الصناعي، الزراعة،
الموسيقى الكورية، الأداء المسرحي، السينما، الإعلام الرقمي، الطرز الثقافية
وترميمها)، وقد تطورت الجامعة برمتها في نصف قرن لتقدم خبراء ومهنيين في كل شيء، من
تلك الرياضات التقليدية إلى التكنولوجيا الرقمية! وملحق بالجامعة عدة مؤسسات
تعليمية وترفيهية؛ كالمكتبة المركزية، ومتحف الجامعة، ومركز لألعاب القوى، ومركز
للصحافة الجامعية والإذاعة، ونظام للبث التعليمي، وقسم للتعاون الأكاديمي ينسق مع
المؤسسات الصناعية لتشغيل الخريجين، ومركز لعلوم الرياضات الدولية.
وصلنا إلى جامعة هانكوك التي دخلناها بلا قيد أو شرط، فهي فضاء رحب
وكأنه سور أخضر داخل المدينة، ولم يعكِّر الصفو سوى رؤية سيارة سفير دولة الاحتلال
الإسرائيلي تسبقنا، وكأنه يعرف بالزيارة العربية، فأراد أن يسجِّل حضوره! مضينا نحو
وجهتنا وسط حدائق غناء ومظلات ملونة، وممرات فسيحة ومبانٍ شاهقة تتمتع بفضاء كبير
حولها، وطالبات وطلاب يمارسون حياتهم الأكاديمية كما يحلو لهم.
في الفصل الجامعي شاهدنا الطالبات اللاتي يدرسن لغات أخرى كالروسية
والتركية والإنجليزية والفرنسية والفارسية، وقد اخترن اللغة العربية بجانب لغتهن
الأم ولغة دراستهن. (كان معهن طالب وحيد يدرس القانون وقال إن دراسته للعربية ستتيح
له فهم الشريعة الإسلامية كمصدر قانوني مهم). تحولت المحاضرة إلى حوار مفتوح، وإلى
إلقاء قصائد باللغة العربية وترجمتها إلى الإنجليزية التي لاتزال وسيطا عالميا.
تصفحت الكتاب المقرر للدراسة فصافحت العيون وجوه الثقافة العربية كنجيب محفوظ
وحواضر المدن الإسلامية والعربية مثل مكة المكرمة ودبي! كانت الدروس تبدأ بتمهيد،
تعقبه صفحات تتناول أقسام الجملة الاسمية والفعلية، وأدوات الاستفهام، والمفردات
المستخدمة في المدرسة والشارع والطقس والسوق والمستشفى ومكتب البريد والمطعم،
ومفردات اللغة العربية على السبورة التقليدية.
لم تكن جامعة هانكوك للدراسات الأجنبية وحدها التي رأينا فيها الحروف
العربية على أغلفة وفي متون الكتب، ففي حي 88 الذي تقع فيه جمعية كوريا والشرق
الأوسط، زرنا مسجد سيئول المركزي بمئذنتيه اللتين تجمعان في عمارتيهما الحس الآسيوي
والطراز المملوكي معًا، ومدرسة الأمير سلطان الإسلامية في سيئول، مثلما أمضينا وقتا
في مكتبة الحي الإسلامية، التي توزع وتبيع كتبا وأسطوانات باللغات العربية والكورية
والأردية والإنجليزية، بعضها للأطفال، وهي تدور في فلك تعليم اللغة لأبناء المسلمين
والعرب المغتربين عن أوطانهم، أو هؤلاء الطامحين لدراستها من أبناء كوريا. وقد رأيت
أن مكتبة واحدة أو عشر مكتبات قد لا تكفي لخدمة المسلمين في كوريا البالغ عددهم
أكثر من 40 ألف نسمة من مجموع الشعب الكوري الذي يبلغ نحو 50 مليون نسمة.
نتجه إلى مطار إنتشون في رحلة العودة للوطن التي تبدأ قبل دقات منتصف
الليل، وكأننا عشنا في أسطورة سندريلا الجميلة، وقد تركنا على مدرج المطار أحلامنا
البلورية تستطلع المستقبل في مخططات إنتشون، ونحن ندرك أن الأحلام التي وهبتنا
إياها الأساطير، ستتحول إلى واقع بفضل تكاتف أبناء الإنسان في الشرقين الأقصى
والأوسط. في البدء كانت الفكرة التي وجدت من سعى إلى نورها ليقتبسها، وليشعل بها
أحلامًا مشتركة، تجدد التاريخ، وتجمِّل الحاضر، وتطوِّر المستقبل. ليكون ذهب شيلا
الجديد نسيجًا بشريًّا من هؤلاء القادمين من شرقنا العربي وحواضرنا الإسلامية، حين
نضع أيدينا في يدي كوريا.. العربية.