شيوخ الإسلام يقاومون.. الشيخ عز الدين القسام.. لماذا الإجماع على قيادته?

شيوخ الإسلام يقاومون.. الشيخ عز الدين القسام.. لماذا الإجماع على قيادته?

شيوخ الإسلام يقاومون

لم يفقد فقهاء الإسلام دورهم في تاريخنا الحديث. لقد واجهوا بقدر استطاعتهم جحافل الاستعمار الغربي الحديث, ودعوا للمقاومة وتجديد أصول الدين, وعرفوا الجهاد بمعناه الإيجابي والأصيل. وتقدم (العربي) في هذا الملف تحيتها لهؤلاء الفقهاء والمجاهدين الأجلاء.

ثورة القسّام فريدة من نوعها, قامت كالبرق السريع الذي يومض للحظات ثم يختفي, فهي قد اندلعت بشكل مفاجئ لساعات قليلة, وانتهت في اليوم نفسه باستشهاد قائدها وبعض من رفاقه, وباقتياد البعض الآخر أسرى. حدث ذلك صباح يوم الأربعاء الواقع في الثالث والعشرين من شعبان سنة 1354 هجرية, والموافق للعشرين من نوفمبر سنة 1935 ميلادية, على أرض فلسطين.

في خريف العام الماضي (2005), كانت الذكرى السبعون لاستشهاده, وقد شهدت هذه الذكرى بالذات احتفالات وندوات أكثر من أي عام مضى, وربما لاح للبعض أن مرور سبعين عاماً هو السبب, أما الواقع فهو أنه ما من قائد أو زعيم في فلسطين لاقى من الإجماع ما لاقاه القسّام, فكلمات شيخ المجاهدين منقوشة في القلوب والعقول: (هذا جهاد.. نصر أو استشهاد).والسؤال: ما سر قائد ما سعى في حياته إلى القيادة? ما سر زعيم ما تصرف يوماً كالزعماء, ولا آمن أصلاً بزعامة الفرد الواحد? ما سر شيخ آمن به المسلمون والمسيحيون? ما سر مجاهد أجمعت عليه فلسطين, وفي كل المراحل? ما سر القسّام?

العالِم المجاهد

صفة التلازم المطلق بين العالِم والمجاهِد لا تفارق القسّام, هو عالم بأصول الدين الحنيف, ومجاهد مؤمن صادق سرعان ما يذكرك بسيرة الصحابة الأوائل.

هو عز الدين بن الشيخ عبد القادر بن مصطفى القسّام, ولد سنة 1871 في بلدة جبلة من أعمال اللاذقية في شمال سورية, وعُرف عنه منذ طفولته حبه للتفكير والتأمل. وقبل انتهاء القرن التاسع عشر كان قد انتقل إلى القاهرة ليتعلم في الأزهر الشريف, وكان من تلامذة الشيخ محمد عبده.

استفاد القسّام من عمق التجربة السياسية المصرية ومن نهج الإصلاح الذي قاده كبار رجال الدين في القرن التاسع عشر, وقد تواصلت صداقة القسّام مع العديد من رجال الإصلاح في مصر, وخاصة مع السيد رشيد رضا صاحب مجلة المنار, والسيد محب الدين الخطيب صاحب المطبعة السلفية, وهو من وصف القسّام بقوله إنه من العلماء المعدودين. كثيرون هم الذين آمنوا بالمبادئ الإصلاحية وجابهوا الاستعمار في بلدانهم, غير أن القلة منهم تمكنت من أن تتصدى لأضلاع المثلث الاستعماري الذي جثم على أرض العرب, من إيطالي إلى فرنسي الى بريطاني, كما فعل القسّام.

المهمة الجهادية الأولى التي سعى القسّام إليها كانت في إثر محاصرة الأسطول الإيطالي لطرابلس الغرب سنة 1911, فقاد التظاهرات ضد المستعمرين (الطليان), وقاد حملة تطوّع لباها العشرات من السوريين الذين توجهوا معه نحو ميناء الإسكندرونة, وهناك راحوا ينتظرون باخرة كانت ستقلهم إلى موطن الجهاد, غير أنها لم تصل, فعاد المتطوعون خائبين بعد انتظار أربعين يوماً, وهم لا يعلمون أن الحكومة العثمانية كانت قد اعترفت بضم ليبيا الى إيطاليا. المهمة الجهادية الثانية للقسّام كانت ضد الاستعمار الفرنسي على أرض بلاده, فما إن اشتعلت الثورة في سورية حتى شارك فيها وقاتل إلى جانب المجاهد عمر البيطار والشيخ المجاهد صالح العلي الذي نسبت إليه الثورة لكونه زعيم المنطقة, فقيل إنها ثورة العلويين, لكن سرعان ما كرّس الفرنسيون استعمارهم للبلاد, فحاولوا شراء القسّام بتوليته على القضاء, ولما رفض, حكم الديوان العرفي عليه بالإعدام.

ما كان أمام القسّام إلا أن يجابه الإعدام أو يرحل إلى بلد آمن, لكنه لم يفعل هذا ولا ذاك, بل اختار نهج الجهاد حيث توجد أرض للجهاد, وهكذا ابتدأ مهمته الثالثة برحيله إلى فلسطين, حيث كان الانتداب البريطاني هو الجاثم على قدسها وأرضها وبحرها, وقد رحل معه عدد من إخوانه المجاهدين نذكر اثنين منهم لازماه حتى النهاية, وهما الحاج علي عبيد والشيخ محمد حنفي.

وصل القسّام وصحبه إلى مدينة حيفا سنة 1921, وكانت يومذاك ميناء فلسطين الأول, ومدينة العمال الأولى, وكانت ترحب بالوافدين العرب إليها أبناء لا ضيوفاً, وقد شارك الكثيرون منهم في مؤسساتها السياسية وفي مؤتمراتها ووفودها, كما لمعت من بينهم أسماء في الحياة الفكرية والصحافية والسياسية, منها وديع البستاني ونجيب نصار وهاني أبي مصلح والشيخ كامل القصاب. لكن الملاحظ أن الشيخ القسّام بقي نسيج وحده, فهو لم يحضر المؤتمرات الدينية الكبرى التي عقدت في القدس, كالمؤتمر الإسلامي (1928) من أجل الدفاع عن البراق الشريف; أو المؤتمر الإسلامي العام (1931) من أهم المؤتمرات الإسلامية في القرن العشرين; أو مؤتمر علماء فلسطين الذي انتهى بإصدار فتوى دينية بتحريم بيع الأراضي لليهود (1935); فلماذا غاب القسّام حيث كان يتوقع منه الحضور?

الواقع أن القسّام صرف جل اهتمامه إلى أعماله الجهادية السرية, فابتعد عن الأضواء العامة ما استطاع كي لا يجلب الانتباه إلى شخصه, وبالتالي إلى تنظيمه السري. وهذا فضلاً عن أنه لم يكن يوماً ساعياً إلى شهرة أو إلى مجد من أي نوع كان. أهالي حيفا وما حولها عرفوه شيخاً واعظاً, عالِماً مستنيراً, وخطيباً مفوهاً, وداعية إلى الإيمان والجهاد, كما عرفوه منذ سنة 1928 رئيساً لجمعية الشبان المسلمين. وامتدت معرفة أهل القرى الشمالية به مأذوناً شرعياً. غير أن أهالي فلسطين عموماً لم يعرفوا عن القسّام شيئاً يذكر قبل استشهاده, فحتى مقالاته في أصول الدين كانت محدودة في الصحافة.

أصبح اسم القسّام على كل لسان بعد معركة يعبد, وقد صدرت صحف اليوم التالي للمعركة تصف الشيخ الشهيد, وكيف كان مجندلاً بلحيته البيضاء, بقفطانه وعمامته الدينية, ولا شيء في يده غير المسدس, ولاشيء في جيوبه غير مصحف شريف وأربعة عشر جنيهاً.

وسار أهالي حيفا وفلسطين وراء نعشه في مأتم مهيب, والكل يتحدى أوامر حكومة الانتداب التي طالبت بعدم الاحتفال بدفن الشهداء. أما صديقه الحميم رشيد الحاج إبراهيم فقد اقترب من نعوش الشهداء الثلاثة قبل انطلاق الموكب يلفها بالأعلام العربية, رمزاً لاستشهادهم في سبيل الأمة لا فلسطين وحدها, فلف جثمان الشهيد القسّام بالعلم العراقي, والشهيد سعيد أحمد عطية المصري بالعلم السعودي, والشهيد يوسف عبد الله الزيباوي بالعلم اليماني. ومشت الجنازة, أو مشت التظاهرة الصاخبة مع الهتافات الوطنية, والنداء الخالد (الله أكبر), مسافة خمسة كيلومترات سيراً على الأقدام حتى ووري الشهداء الثرى في مقبرة بلد الشيخ.

أخطار مضاعفة

عانت فلسطين ـ كما لم تعان أية دولة عربية مجاورة لها منذ انتهاء الحرب الكبرى ـ من خطرين مزدوجين, خطر انتداب بريطاني قائم, وخطر احتلال صهيوني قادم, وقد وعى الفلسطينيون هذين الخطرين, ولكن مجابهة الخطرين معاً لم تكن عملية سهلة في البدايات.

في عهد المندوب السامي الأول هربرت صموئيل (ترجم) وعد بلفور إلى قوانين وأنظمة أعطت لليهود كل الحقوق, حتى أصبحت الوكالة اليهودية قانونياً, وبالتالي عملياً, دولة ضمن الدولة. وبالمقابل, حرم العرب من حقوقهم السياسية ومن أي نوع من انتخابات تؤدي إلى إيجاد قيادات شرعية لهم.

وقامت في فلسطين ثورات وانتفاضات متعددة تطالب بالاستقلال وبوقف الهجرة اليهودية نهائياً ووقف بيع الأراضي لليهود وبإنشاء حكومة وطنية, غير أنها كانت موجهة ضد الصهيونية, وأما العرائض والمذكرات المرفوعة لحكومة الانتداب فكانت بصيغة المطالبة أو الرجاء, حتى جاء حزب الاستقلال العربي سنة 1932, فكرس العداء ضد الانتداب نفسه, وقام بالتوعية الشعبية عبر المهرجانات السياسية والخطب والبيانات, غير أن هذه التوعية لم يصحبها نهج عملي يؤدي إلى الكفاح المسلح, فحزب الاستقلال على أهميته كحزب سياسي وأهمية أعضائه المؤسسين من رواد الحركة العربية, أمثال عوني عبد الهادي وعزة دروزة ورشيد الحاج إبراهيم وعجاج نويهض وحربي الأيوبي وأكرم زعيتر, وغيرهم, لم يكن حزباً ثورياً مسلحاً.

ولما كان الشعب محروماً من حقوقه السياسية قانوناً, فما كان عليه إلا أن ينشئ قياداته بحكم الأمر الواقع. وقد تمكن الفلسطينيون من عقد سبعة مؤتمرات وطنية متلاحقة, كان آخرها سنة 1927; ومنذ المؤتمر الثالث (1920) جرت العادة أن ينتخب الأعضاء لجنة تنفيذية, وقد كان موسى باشا كاظم الحسيني هو رئيس اللجان التنفيذية المتعاقبة, وكان شيخاً حكيماً عرف جيداً كيف يمسك بالعصا من الوسط, وكيف ينال احترام كل فئات الشعب.

إلى جانب رئاسة الشيخ موسى كاظم باشا نمت في فلسطين زعامة الحاج أمين الحسيني, وهو مفتي القدس ـ لقباً ـ بينما هو حقيقة مفتي فلسطين, بالإضافة إلى كونه رئيس المجلس الشرعي الإسلامي الأعلى. تمكن المفتي من أن يحول مقر المجلس الإسلامي إلى مقر للحركة الوطنية, تؤمه أغلبية الشعب, من مسلمين ومسيحيين, ومن سكان المدن والقرى, وقد كان معظم السكان على نهجه ويعرفون بالوطنيين, أو بجماعة الحاج أمين; أما خصوم المفتي فكانوا يلقبونهم بـ (الحسينيين), والخصوم أنفسهم كانوا يُعرفون بالمعارضين, أو بـ (النشاشيبيين) نسبة إلى رئيس بلدية القدس راغب النشاشيبي, رأس المعارضة لسياسة المفتي الحاج أمين. وقد تكرس الانقسام الوطني في العمل السياسي منذ المؤتمر السابع.

الأساليب التي اتبعتها القيادات السياسية والأحزاب السياسية للحد من مشاكل الهجرة المتفاقمة, وبيع الأراضي, واستئثار الوكالة اليهودية بمقدرات البلاد, لم تتجاوز سياسة التظاهر أو سياسة اللاتعاون, حتى كانت سنة 1933 مفصلاً تاريخياً; ففي أكتوبر من هذه السنة جرت تظاهرة القدس الشهيرة بناء على قرار من اللجنة التنفيذية بالقيام بتظاهرات كل يوم جمعة بعد الصلاة في إحدى المدن.

قام البوليس بتفريق تظاهرة القدس بكل شراسة مستعملاً سلاحه; اما في يوم الجمعة التالي في يافا فقد كان البوليس أكثر شراسة, ما أدى الى سقوط ثلاثين شهيداً, ونحو ستين جريحاً, ومن بين المتضررين كان رئيس اللجنة التنفيذية موسى كاظم باشا نفسه بعد إصابته بضربة عصا. وكانت أبرز النتائج: اعتكاف موسى كاظم في بيته; اعتقال العشرات من السياسيين المعروفين وصدور أحكام بسجنهم مع الأشغال الشاقة لمدد متفاوتة, لكنهم فضلوا التوقيع على كفالة (حسن سلوك), والوحيد الذي لم يوقع كان الشيخ عبد القادر المظفر.

توفي موسى كاظم باشا بعد خمسة أشهر من المرض, وكان له مأتم مهيب حزين, وقد دفن بجوار الحرم الشريف في 27 مارس 1934. وانتهت اللجنة التنفيذية بوفاته, فالمفتي كان يرفض أن يأخذ مكانه لعدة أسباب أهمها ما جاء على لسان المفتي نفسه في مؤتمر وطني في يافا لما دعاه البعض لرئاسة البلاد, وأجاب: (أنا لست ممن يتورطون). أي أنه لا يرتضي الرئاسة مع وجود معارضة مناوئة له. والواقع أن الحسيني والنشاشيبي لم يتفقا على درب واحد ولم يشاركا في لجنة عليا واحدة, إلا بعد قيام الإضراب الكبير والثورة الكبرى, ويوم اتفق الرجلان كان قد مضى على استشهاد القسّام نحو ستة أشهر!

تفاقمت مشكلات البلاد الكبرى سنة 1935, فالهجرة اليهودية أخذت تتضاعف حتى بلغ المهاجرون في هذه السنة ستين ألفاً, وهو رقم كبير جداً بالمقارنة مع العشرينيات. كذلك تفاقمت مشكلة الاستيلاء على الأراضي, ومأساة وادي الحوارث سنة 1933 حين تم طرد السكان والاستيلاء بالقوة على أراضيهم. وبرزت فجأة مشكلة التسليح حين تم بالمصادفة اكتشاف عملية تهريب أسلحة لليهود عن طريق ميناء يافا, كانت قد وضعت في سبعين برميلا قيل إنها معبأة بالاسمنت, فأضربت البلاد في 26 أكتوبر سنة 1935 احتجاجاً.

ثورة القسّام

قامت ثورة القسّام في هذه السنة الحالكة, سنة انعدام الوزن القيادي, وسنة اليأس الشعبي الذي بلغ حداً كبيراً.

كان جلياً بالنسبة إلى أهل حيفا والشمال أن القسّام قد ابتدأ بتهيئة المناخ الجهادي منذ أوائل العشرينيات, لكنه ليس من المعروف متى ابتدأ بتدريب المجاهدين على استعمال السلاح, فالتفاصيل عن تنظيمه السري لم يعرف إلا القليل منها; أما اسم التنظيم فلم يعثر عليه أحد لأن الشيخ القسّام لم يطلق على تنظيمه اسماً معيناً, غير أن الصحافة والمؤرخين أطلقوا بدورهم تسميات عدة, منها: القسّاميون; جماعة القسّام; عصبة القسّام.

ضمت الخلية الجهادية ـ بداية ـ خمسة أشخاص أو أقل, وقد تألفت على نمط حلقات الأرقم ابن أبي الأرقم, كما روى المجاهد القسّامي صبحي ياسين في كتابه (الثورة العربية الكبرى في فلسطين) (1959), ذكر أن العصبة كانت تضم خمس وحدات منظمة مختلفة المهمات; كان حسن الباير والشيخ نمر السعدي من قادة الوحدة الأولى (وحدة السلاح); وكانت الوحدة الثانية (وحدة التدريب العسكري) بإشراف ضابط سابق في الجيش العثماني; وكان ناجي أبو زيد من أعضاء الوحدة الثالثة (وحدة الاستخبارات ومراقبة الخطط السرية للانجليز واليهود), أما معظم أعضاء هذه الوحدة فكانوا من العمال في المصالح الحكومية ودوائر البوليس والمنشآت اليهودية; وأما الوحدة الرابعة (وحدة العلماء) فكانت مهمتها الأولى الدعوة إلى الجهاد الديني في المساجد, وكان الشيخ القصاب موجهاً لها; ثم كانت الوحدة الخامسة وحدة (الاتصالات السياسية). وأما عن عدد القسّاميين في حياة القسّام فلا يبدو أنه قد تجاوز المائتين. وأما عن القيادة العليا فلم تكن للقسّام وحده, بل كانت قيادة جماعية من اثني عشر عضواً.

وهكذا يتضح أن عصبة القسام قامت على جناحين رئيسيين, هما جناح العمال والفلاحين, وجناح العلماء, وكان معروفاً عن الشيخ القسّام ليس استقطابه للبسطاء والفقراء فقط, ولكن أيضاً للمنحرفين منهم, فكان يعمل على توجيههم وإرشادهم وتدريبهم بيديه. وليس من شك في أن القسّاميين استفادوا من طبيعة مهنهم الشعبية للتغلغل بين الناس وبث الدعوة الجهادية, فقد كان منهم الحجّار والحدّاد والفحّام والسمكري وبيّاع الكاز والحمّال والحارس والفرّان والبائع المتجول والصيّاد.

انطلقت العمليات القسّامية سنة 1931, ولم تكن كثيرة في عددها, بقدر ما كانت مفاجئة لحكومة الانتداب وللوكالة اليهودية, فراحت السلطات تتابعها في منتهى الدقة, ولم يشتهر بوليس في فلسطين كلها كما اشتهر حليم البسطة الموكل بتتبع (القساميين) في مدينة حيفا. أما أبرز العمليات فكانت في ليلة 22 ديسمبر سنة 1932, حين ألقيت قنبلة على منزل يوسف يعقوبي في مستعمرة نحلال في الشمال في مرج ابن عامر, وأدت الى جرح الرجل وابنه, وإلى وفاتهما فيما بعد; وكان يعقوبي (مدير سجن ظالما) كما أخبرني موسى حوراني يوم قابلته سنة 1987. الواقع أنني أجريت العديد من المقابلات مع أصدقاء القسّام ورجاله خلال مرحلتين, الأولى في أوائل السبعينيات, والثانية في أواسط الثمانينيات من القرن العشرين, ولكني أكتفي هنا بمقتطفات من شهادة المحامي حنا عصفور, وهو من لم يكن ليمر في بالي حين ذهبت لمقابلته سنة 1973 لأسأله عن القضاء في فلسطين, أنه كان أحد المحامين الذين دافعوا عن رجال القسّام. قال:

(أنا حضرت دروساً لمعلمنا الشيخ القسّام. استمعت إليه يتحدث. وراقبته وهو يزورني في مكتبي, المرة تلو المرة, إثر اعتقال شباب عملية نحلال. كان كثير الصمت, قليل الكلام. لم يقل مرة, هؤلاء المعتقلون, أعرفهم, او أنهم معي. ولكني عرفت ذلك من تكرار زياراته).

(وعرفت الشيخ القسّام أكثر, وأنا أستمع الى رجاله الذين دافعت عنهم, وهم بين جدران السجون يتحدثون عنه. (إن عظمة القسّام في أنه أوحى الى كل من حوله, في حديثه وسلوكه وتعاليمه, بأن التعلم فرض كالعبادة).

(كان مدرّساً محبباً إلى تلاميذه, وكانوا يهرعون إلى دروسه, وهم يخشون أن تفوتهم منه كلمة واحدة. كان لا يتهاون مع الخطأ, ولكن, دون قسوة).

(القسّام كان قليل الكلام وكثيره في آن, فالقليل الذي يتفوه به كان يترك أثراً في نفس السامع, فلا ينساه أبدا. وكان القسّام كتوماً).

(كان مع وضوحه وصراحته يوحي إلى السامع بأنه جبل من الأسرار).

هذا الجبل من الأسرار هوى يوم استشهد صاحبه; ولعل آخر الأسرار كان يوم مغادرة القسّام وصحبه لحيفا ذات ليلة خريفية بعد صلاة العشاء, فقد أحيطت مغادرتهم بالكتمان الشديد, وكان عدد المجموعة ستة عشر رجلاً, إلا أنهم لم يكملوا كلهم نحو أحراش يعبد, فقد كان عددهم يوم المعركة, تسعة مجاهدين.

فجر العشرين من نوفمبر أحاطت قوة من البوليس قرية الشيخ زيد شمال يعبد, حيث اعتقد البوليس أن القسّام وجماعته قد اختبأوا, وفي البلاغ الرسمي أنه تم تبادل إطلاق النار, واستمرت المناوشات نحو ثلاث ساعات انتهت في العاشرة صباحاً بمقتل أربعة أو خمسة, وباعتقال خمسة آخرين, أحدهم مصاب بجراح خطرة, كما قتل شرطي إنكليزي واحد وأصيب آخر بجراح. أما مجموع ما استولى عليه البوليس من أسلحة فكان تسع بنادق وبندقية صيد وبندقية سريعة الطلقات وكمية من الذخيرة (عن البلاغ الرسمي).

وعن الصحافة العربية أن طائرة كانت تحلق لمساعدة البوليس في اكتشاف المكان, وأن أفراداً من البوليس العربي وضعوهم في مقدمة قوات البوليس لثقة الإنجليز بأن القسّام لن يأمر بإطلاق نار على بوليس عربي, وهذا ما حصل فعلاً. أما حين دعاهم فرد من هؤلاء للاستسلام فقد رد عليه القسّام بقوله: (إننا لن نستسلم, إن هذا جهاد في سبيل الله والوطن). وتلفت إلى رفاقه قائلاً: (موتوا شهداء).

أسفرت هذه (المعركة) غير المتكافئة عن استشهاد القسّام والزيباوي والمصري, وعن جرح الشيخ نمر السعدي, وأسر حسن باير وأحمد الحاج وعربي البدوي ومحمد اليوسف, واعتبر أسعد مفلح الحسين مفقوداً.

من المستغرب أن المؤرخين اختلفوا في أسباب قيام ثورة القسّام, وقد ذكروا أسباباً متعددة, أما الحقيقة فهي أن القائد المجاهد ما خرج قبل الأوان, كما صوره البعض, ولكن قبل فوات الأوان.

عصبة القسام

مع كل الأهازيج الشعبية والأناشيد وحكايات الأطفال التي تتغنى بالقسّام, والهالة الجهادية والمحبة الشعبية التي تحيط بالقسّام, ومع إطلاق اسمه على تنظيم جهادي معاصر هو (كتائب القسّام), فالشيخ ما نال حتى الآن إلا بعضاً مما يستحقه من دراسات تاريخية تحليلية.

معظم الكتابات عن القسّام تناول سيرته الذاتية, أو تناول مسيرة (عصبة القسّام) من بعده, وهي التي يعود الفضل إليها في إشعال الثورة الكبرى في مرحلتيها الأولى والثانية, أي سنة 1936, وسنة 1937; أما الأسئلة الكبرى بشأن أهمية القسّام في تاريخ فلسطين, وبشأن طبيعة العلاقة بينه وبين الحاج أمين, فكان أسوأ ما تعرضت له هو انجذابها بين نهجين لا يلتقيان:

الأول نهج جماعة المفتي, أو رجال المفتي الذين صبوا جهودهم للتفتيش عن جماعات أو أفراد خططوا للمقاومة بالسلاح أو فكروا بذلك, وكانت غاية هؤلاء إثبات أن القسّام لم يكن أول من اختط الكفاح المسلح درباً; كما أن القسّام برأيهم ما كان ممكناً له أن يتخطى مكانة المفتي, ولذلك, فهو قد طلب من المفتي المشاركة بالثورة, ولكن المفتي رفض بقوله له أن أوان الثورة لم يحن بعد.

والثاني نهج القسّاميين الذين استمروا على خطى قائدهم, قليلي الكلام إلا حين يُسألون, قليلي الكتابة إلا حين يُضطرون للرد على افتراءات معينة. صحيح أن المقابلات التي أجراها عدد من الكتاب مع (قسّاميين) ومع أفراد من عائلة القسّام أنتجت كتابات جيدة, لكنها بالمقارنة مع أهمية القسّام الحقيقية لا تعدو في مجموعها من أن تكون مقدمات لما يجب أن ينشر ويقرأ عن القسّام, ولا أستثني كتاباتي التي نشرتها عنه من هذا التحليل.

وأما في ختام صفحاتنا هذه فأود أن أقول إنه كان من حسن حظي أنني قابلت سماحة الحاج أمين عدة مرات في حياتي, وأهمها بالنسبة لي لما قابلته ما بين سنتي 1972 و 1973, وأنا أعد لرسالة الدكتوراه. سرعان اكتشفت أن المفتي, رحمه الله, كان في واد, بينما كان أتباعه في واد آخر فيما يتعلق بالقائد القسّام. سألته عنه أكثر من مرة, وفي إحدى المرات دمعت عيناه وهو يتحدث عنه حديث الأخ المحب, وحديث زعيم البلاد الذي يعرف قدر رجل كالقسّام أكثر من أي إنسان سواه, وذلك لكون المفتي نفسه لم يكن زعيماً عادياً بل زعيماً قديراً يعرف أسرار فلسطين وقادتها.

ولا تسمح هذه الصفحات المعدودة بسرد التفاصيل, لكنني أرد بإيجاز على (جماعة المفتي) بالقول إنه من المنطقي أن يقابل القسّام المفتي في أي وقت, لكنه من غير المنطقي ولا من الطبيعي أن يطلب رجل ثائر كالقسّام من زعيم كان في تلك المرحلة يؤثر الابتعاد حتى عن الرئاسة التقليدية, الإقدامَ على قيادة ثورة, أو حتى المشاركة في قيادتها.

وإنني أعتقد أن كلاً من الرجلين الكبيرين فهم الآخر, وعرف قدره وأهميته في تقرير مصير فلسطين, وأن كلاً منهما أكمل الآخر بشكل أو بآخر.

ذكرنا من قبل أن المفتي قال يوماً: (أنا لست ممن يتورطون), ونضيف عنه أنه أيضاً ليس ممن يبادرون, إلا حين تكتمل مختلف العوامل وتتضافر بحكم طبيعة الأمور. وهكذا عندما اكتملت مختلف العوامل, لبى الحاج أمين نداء المجتمعين في مؤتمر اللجان القومية في القدس في 7 مايو 1936, وارتضى أن يترأس اللجنة العربية العليا, وأن يقود الثورة الكبرى, وفي خضم هذه الثورة لم يتردد لحظة في أن يحتضن القسّاميين, والحق أنهم كانوا وقود الثورة الدائم.

سر القسّام

سر الإجماع على قيادة القسّام هو في قدرته الفائقة على الجمع بين شخصية العالِم الديني الذي لا حدود لاستغراقه في شئون الدين والتعليم بالإرشاد والخطبة والحوار والتعامل اليومي, وبين شخصية الثائر الصلب الذي لا حدود لشجاعته.

والسر في احترام القسّام للإنسان, كائنا من يكون, كان يحترم حتى اللص والسارق, وكانت لديه المقدرة على تحويل المنحرف إلى مجاهد ثائر.

والسر في فهمه العميق لتطلعات الشباب وآمالهم وأمانيهم, كان يريدهم سعداء أحراراً طلقاء شرفاء, لاأسرى بقيود لا داعي لها يفرضونها هم على أنفسهم.

والسر في ممارسته يومياً للمبادئ التي يؤمن بها, وفي نكرانه لذاته, فقد كان يعتبر نفسه واحداً من المجاهدين. والسر في اتزانه بين العقل والإيمان, وبين العقيدة والثورة. والسر في معركة يعبد التي خرجت عن إطار (معركة), لتصبح مقدمة الثورات المسلحة ضد بريطانيا والصهيونية معاً, على أرض فلسطين.

والسر في فلسطين التي لم تميز بين فلسطيني وعربي آخر, أو إنسان آخر, فكل من أحب فلسطين أحبه الفلسطينيون.

والسر في الأحزاب والتنظيمات الفلسطينية على اختلاف عقائدها, فكلها تستلهم القسّام, سواء أكانت عروبية أو إسلامية أو يسارية.

مازلنا جميعاً بحاجة إلى القسّام, وما زال القسّام بحاجة إلينا. ومازالت الكتابة عن تاريخ فلسطين لم تكتمل بعد.

 

بيان نويهض الحوت