قراءة نقدية في كتاب كوميديا

قراءة نقدية في كتاب كوميديا "البخيلة"

مسرحية لم يزح عنها الستار لأمير الشعراء

نزع شوقي قناعه الكلاسيكي وكتب تلك الكوميديا ليهجو البخل والبخلاء فما سبب هذا التحول؟

عندما نشرت المسرحية الكوميدية الأولى، "الست هدى"، لأمير الشعراء أحمد شوقي "1868-1932" بعد وفاته، كان ذلك بمنزلة كشف جديد عن مرحلة متطورة في فن الشاعر الكبير ككاتب مسرحي. ولك يكن اتجاهه الجديد هذا أمرا مستغربا، فإن ملامح الكوميديا كانت تبدو واضحة في أماله من بداياتها متمثلة ليس في أشعاره وحسب، وإنما أيضا في عدد غير قليل من دراماته البطولية الست التي كان قد عرف بها ككاتب مسرحي.

ذلك أننا نجد روح الكوميديا تتجلى في شخصيات مثل "آنشو" في "مصرع كليوباترا" (1929)، و"بشر" في "مجنون ليلى" "1931"، وبشكل ملحوظ في شخصية "مقلاص" في أميرة الأندلس" (1932).. ومن اللافت للانتباه أن في الدور الذي تلعبه تلك الشخصية الأخيرة لم تعد الكوميديا، كما كان عهدنا بها في المسرحيات الباكرة، مقصورة على النكات أو اللعب بالألفاظ: وإنما أصبحت أكثر عمقا واقدر على سبر الأغوار النفسية للشخصية، فنجدها هنا تجمع بين الكشف عن الغفلة والسخف اللذين تتسم بهما أقوال الشخصيات وأفعالها وبين التسرية عن جمهور النظارة بالترويح الكوميدي البديع.

أما في مسرحه الكوميدي فقد تخلص شوقي من تلك الصيغة الجامدة ووجد منطلقا له ولشخوصه في عالم الكوميديا الواقعية الرحب. ففيها يصور مجتمعا عرفه تمام المعرفة، ولم يعد يكتب عن احداث وأنماط بشرية أو تاريخية لم يعاصرها. فكما لاحظ الدكتور شوقي ضيف في نقده لـ "الست هدى"، كان الشاعر الكبير يسكن في حي الحنفي بالسيدة زينب وهو مكان الأحداث في المسرحية، وكان يعرف علاقات الرجال بالنساء في ذلك العصر، وما كانوا يضطربون فيه من سنن وتقاليد: "وكأن شوقي كان مستعدا للنجاح في المسرح الواقعي بأكثر مما نجح في المسرح التاريخي" ويلاحظ الدكتور الراعي أنه من سوء الحظ أن ينهي القدر بتلك الكوميديا الأخاذة "الست هدى" مجرى أمير الشعراء المسرحي.

غير أن القدر كان أكثر عطفا علينا فأتحفتنا الهيئة العامة للكتاب- بعد الملاحظة للناقد الكبير بأربعة عشر عامًا- بمسرحية كوميدية أخرى لأمير الشعراء، هي مسرحية "البخيلة"، التي تقع أحداثها هام 1907، والتي لم تنشر إلا عام 1984، بعد أن قام بتحقيقها وإعدادها للنشر الأستاذ سعد درويش، وقام بمراجعتها الدكتور عز الدين إسماعيل.

ولعل من أبلغ ما قيل عن مسرحية "البخيلة" ما جاء على لسان المدير المسئول لدار العودة، في المقدمة التي تتصدر الأعمال المسرحية الكاملة لأحمد شوقي، بما في ذلك "البخيلة"، والتي يقول فيها: "لم يفت شوقي أن يتقدم أكثر وأكثر من روح المجتمع الذي يحيا فيه كأي منتج مبدع كبير- فعالج القضايا، الإنسانية والاجتماعية في عمليه الآخيرين، "الست هدى" و"البخيلة"، وبذلك خرج منصرفا من شخوص الحكام والرؤساء إلى إطار أرحب هو إطار الجماهير.

وإنه لأمر لافت للنظر أن يقوم شوقي بتأليف جميع مسرحمياته الثمان في الفترة الوجيزة الواقعة بين عامي 1928 و1932- أي خلال خمس سنوات تقريبًا، هي الأخيرة في حياة الشاعر الكبير. وربما نجد تعليلاً لذلك فيما قاله الناقد الدكتور محمد مصطفى بدوي، من أن الظروف المحيطة بالشاعر كانت تدفعه إلى التجديد: "اتجه شوقي للدراما عندما تغير المناخ الفكري بحيث أصبح الجمهور أكثر استجابة لجهوده المجددة المبتكرة.. فقد بدأ النقد يوجه إليه بسبب محافظته الشديدة وخوفه من التجديد في شعره".

الست نظيفة

في الفصل الأول من "البخيلة" يدور الحديث حول الست نظيفة، البخيلة ذاتها، وكيف أن بخلها الشديد، الذي أصبح مضرب الأمثال في الناحية، قد حرم حفيدها "جمالا" حتى من التفكير في الزواج من "زينب"، بنت بيت النقيب، التي يتوق جمال إلى ما لديها من عز وجاه. وفي حوار آخر بين "عزيز"، شقيق زينب، و"رشاد السمسار" يبالغ الثاني كثيرا في ثراء الست نظيفة وفي قصرها وأصلها ونسبها، ويفاتح عزيزا في زواج جمال من أخته زينب. كما يتضح من الحدث أن رشادا أيضا قد جمل كثيرا في عز بيت النقيب وثرائه وأبهته لعائلة جمال، وأن هذا الأخير قد وقع في "الفخ". ويرحب عزيز "بالصفقة" شريطة أن يكون له نصيب فيها، بعد أن يقنعه رشاد أنه لن يفرج كربتهم في ضائقتهم المالية سوى مال البخيلة.

وفي الفصل الثاني تظهر البخيلة على المسرح، وفي حوار بينها وبين خادمتها "حسني" يبرز بخلها الشديد الذي جعلها تعزف عن استخدام المواد الغذائية الأساسية لغلام سعرها، مثل اللحم والأرز والزيت والدقيق والعسل، وتكتفي بما أدخرته من قديم الكعك والغريبة. ويعقب هذا الحوار حوار آخر بين جمال وحسني، يتبين منه أن ثمة تفاهما قائما بين الاثنين ساعد على قيامه بخل الست نظيفة، حتى أن جمالا يتساءل في حديثه مع حسني عما إذا كانت جدته تصلي لله أم للمال! ثم يتطرق الحديث بينهما إلى حاجة جمال إلى المال فيأسي لحاله بسبب بخل جدته وطول حرمانه، فيفكر في السرقة من مالها، ولكنه يتراجع عن تنفيذ الفكرة التي تراوده. ثم يتأمل الموقف فتعاوده الرغبة في الحصول على بعض المال الذي اكتنزته جدته، باعتباره سيئول إليه في النهاية، فهو وريثها الوحيد. وبينما تراقب حسنى ما يجول بخاطر جمال، فإنها تأسف لما أتخذه من قرار في النهاية باستيلائه على كيس نقود جدته، ويسوق شوقي على لسان حسني شعرًا جميلا ينساب رقراقا كجدول ماء عذب:

يا أسفا على جمال ما صنع؟

جاء إلى الكيس مرارا د

حام عليه برهة ثم وقع

"لنفسها" ويح جمال جرُؤَت

 

على الحرام راحته

ما كان لصا إنما

 

جنت عليه جدته

إن بخل نظيفة هو دستور حياتها الذي تهتدي به في تصريف أمورها، فعندما يعبر جمال عن رغبته في الزواج، فإنها ترشح له على الفور خادمتها حسنى حتى لاتتكبد تكاليف المهر والشبكة ومصاريف الزواج المعهودة. غير أن جمالا يعترض على الزواج ممن لا أصل له ولا نسب، فتتباكى جدته على مالها الذي سيضيع هباء إن هي وافقته على ذلك:

نظيفة: واحيرتي! واضيعتي!

 

"جمال".... واخرابية!

إناأنا زوجتك يا بني بعتُ ما ورائية

وعندما تعلم البخيلة أن حفيدها قد خطب زينب، بنت النقيب، تعترض على اختياره هذا مؤكدة له أنها تكذب عليه فلا مال لديها وأنه خاسر لا محالة في هذا النسب.

أما الفصل الثالث والأخير من هذه الكوميديا الرائعة فإنه ينقسم إلى منظرين اثنين، أولهما يقدم للمشاهد أو القارئ الست نظيفة وهي تكابد المرض على فراش أرضي في قاعة منزلها، وحولها حسنى وجماعة من الجارات جئن للسؤال عنها. ويفتتح هذا المشهد بمفارقة درامية تستهدف النفاق الاجتماعي، وعندما تشرع إحدى الزائرات في تملق الست نظيفة مدعية أن يدها كانت ندية على الفقير والغني، تجابهها زائرة أخرى في استهجان:

يا أخت أين ذلك المدح العطر؟

 

وأين جودها الذي كان المطر؟

وعندما ترى "زهرة"- وفي جارة أخرى- أن نظيفة قد مضى عليها أربعة أيام وهي في كربة النزع دون أن يخرج السر، فإنها تخرج على الحاضرين بفكرة طرأت بخاطرها من شأنها أن تريح المحتضرة من المعاناة وتسلمها إلى راحة الموت، وذلك بأن يقرع صوت المال سمعها وهي تحتضر:

زهرة:إصغين.. مما جربوه في الأسر

صوت "الفلوس" عند رأس المحتضر

إن كان في دنياه بالبخل اشتهر

يسمعها فينطفي على الأثر

وكلما تأخرت عنه انتظر

مأثورات شعبية

وفي الإرشادات المسرحية التي تلي ذلك يقدم شوقي مشهدا فريدا من المأثورات الشعبية التي ترتبط ببعض المعتقدات والعادات السائدة بين الطبقات الشعبية في ذلك العصر:

"يذهبون بالشاش حتى يقتربوا من فراش المحتضرة، وهم يمسكون بجهاته الأربع، فتخرج الأولى نقودا وتلقيها في الشاش، فيعمل الباقون مثلها. يتقدم "جمال" فجأة يخرج من جيوبه نقودا.. ويلقي بها في الشاش، ثم يقوم لأربعة بهز الشاش بالنقود بينهم. ثم تخاطب إحداهن المحتضرة داعية إياها إلى الاستسلام للموت ونسيان حال الدنيا والمال والقرش والريال فالكل إلى زوال:

هزوا معي.. هزوا معي

أيهـا الروح اطلعي

إلى النعيم الأوسع

وتموت الجدة"

وفي مستهل المنظر الثاني والأخير من "البخيلة"، تظهر حسنى في ثوب أسود حدادا على المرحرمة الست نظيفة، يتبين من حديث حسنى لنفسها أن سيدتها المرحومة، والتي حرمتها من كل شيء في حياتها، قد وهبت لها كل شيء عند موتها: المنزل والدكاكين والضيعتين، فلم تترك شيئا لحفيدها جمال، بل تركته للعوز والحرمان! غير أن حسنى التي أحبت جمالا من كل قلبها قد ضحت بالغالي الثمين في في سبيل حبها؟

حسنى: لا.. ذاك مال جمال

تركته لجمال

وعدتُ ما كنت من قبل، فوطتي هي مالي

أجل أنا الخادم والطاهية

وما أنا السارقة الباغية

فعندما يدخل جمال على حسنى شاكيا إليها ما آل إليه حاله بعد موت جدته، التي ضربته في حياتها وبعد مماتها، فإنها تطمئنه إلى أن ذلك لن يحدث فهو الواراث الوحيد للمرحومة وليس هي. وتبكي حسنى وهي تؤكد لجمال أن حبه هو كل ما تهفو إليه وليس الغنى والمالي. فإن كانت جدته قد أثبتث في كتاب وقفها أن حسنى الوارثة الوحيدة، فإنها يمكن أن تغير في كتاب الوقف وتمحو ما تشاء.

وعندما يطمئن جمال إلى إخلاص حسنى وصدق حبها له، يفضي إليها بمشاعره التي أحس بها نحوها منذ الصغر. وفي شعر رائع يفيض بساطة وحيوية ويزاوج ما بين رقة المشاعر والأحاسيس، من ناحية، والحياة اليومية الواقعية في مادياتها المألوفة، من ناحية أخرى- يحتفي شوقي بالأهمية القصوى للعمل والكد والإخلاص والتفاني فيها، وذلك في مصارحة جمال لحسنى بإعجابه بها منذ الصبا:

كنت أهواك طفلة

 

وفي الكوانين نافخة

كنت أهواك خادمًا

 

كنت أهواك طابخة

ثم يمسك يدها ويقول:

كم اشتهيتها يدا

ما فرغت من العمل

كنت أراها كيد الملكة أهلا للقبل
وأشتهى رائحة الثوم عليها والبصل

ومن عجب أن تقوم هذه المصارحة الرائعة بين جمال وحسنى وكلاهما يعلم أنهما ليسا لبعضهما، فلا أمل لديهما في الارتباط، وقد خطب جمال بنت النقيب "ذي اللقب والزرع والضرع والعقار"! وعلى الفور تأتي امرأة، تدعى أم علي، من بيت أصهار جمال الجدد لتخبر جمالا أن أم العروس قد فسخت الخطبة وأعادت لجمال شبكته وقيمة ما صرفه على الخطبة، إذ لم يرث شيئا من إرث جدته المتوفاة التي تركت كل ميراثها لحسنى. وبخروج أم على تدخل حسنى وتناول جمالا ورقة بوقف أسرته وقد أعادته إليه وفقا لاتفاق سابق بينها وبين الست نظيفة، شارحة له حقيقة ما حدث:

كانت شروط الوقف لي

فاستعملتُ لخدمتك

وما ظننت ثروتي

ما كان غير ثروتك

ذاك اتفاق قد جرى

بيني وبين جدتك

ما أرصدت لجهتي

حولته لجهتك

وتنتهي المسرحية بجمال وهو يلبس حسنى خاتم الخطبة الذي أرجعته إليه أم علي، ويقبل يدها كما يقدم إليها النقود المردودة مهرا لها، وبحسنى وهي تطلب من جمال أن ينزل إلى "البئر" ليجد مهره في القعر، فيرى عجبا! هنالك في البئر صندوق خشب ممتلئ من الذهب، ويتقبل جمال المهر وهو يقبله.

حيلة درامية

وندرك علة الفور المغزى الدرامي الذي قصد إليه شوقي بتلك الحيلة الدرامية الرائعة عندما جعل الست نظيفة، البخيلة، توقف تركتها كاملة على خادمتها حسنى وليس حفيدها جمال. فمن ناحية ضاعفت هذه الحيلة من التأثير الدرامي لشخصية البخيلة التي تحكمت في كل شيء في حياتها وأيضًا بعد مماتها، عندما كتبت وقفها على حسنى، وهي تعلم أنها تحب جمالا، وأن جمالا يحبها ولن يتردد في الاقتران بها عندما تصبح مالكة للتركة. وهكذا يتحقق للبخيلة بعد مماتها ما لم تتمكن من تحقيقه في حياتها، إذ أرادت أن تزوج جمالا لحسنى في حياتها فلم يرض بها، وهي تعلم أنه سيتقبلها عندما يكتشف أن أهل بيت النقيب لن يزوجوه ابنتهم دون مال جدته! من ناحية أخرى كشفت هذه الوسيلة الدرامية الذكية عن الزيف والطمع والدوافع المادية الصرف التي توجه عائلة "بيت النقيب"، والتى غيرت نظرتها لجمال فلم ترض به زوجا لزينب فور أن علمت بحرمانه من ميراث جدته. وبذلك كشفت المسرحية عن هشاشة زواج المصلحة. أما البعد الثالث والأهم الذي أفضت إليه تلك الوسيلة الدرامية فهو المتمثل في احتفاء المسرحية بالمشاعر الإنسانية السامية، مثل الحب الصادق والوفاء والإخلاص، تلك المشاعر التي تميزت بهـا شخصية "حسنى"، والتي جعلت البخيلة توقف تركتها عليها دون أن يختلجها شك في أنها أهل للثقة والوفاء بالعهد.

إن مسرحية "البخيلة"، وإن كانت تعني أساسا بالكشف عن قبح رذيلة البخل وما يترتب عليها من أخطار اجتماعية ونفسية جسيمة، فإنها تحتفي بصفات حميدة مثل العمل والكد والإخلاص والمثابرة، باعتبار أن في ذلك خلاص الإنسان وثقة الآخرين به، وتحقيق ذاته، ودليل علو همته وطريقه الثابت إلى السعادة.

إن أمير الشعراء لم يكن يعيش منعزلا عن الحياة ومسئولياتها الخلقية، بل كان شاعرا وكاتبا مسرحيا ملتزما بالقيم الخلقية، خاصة في مسرحه الكوميدي الذي من طبيعته أن يتصدى لواقع الحياة اليومية ومشاكله. هذا الشعور بالالتزام الخلقي يتنبه إليه الناقد الدكتور شوقي ضيف في معرض حديثه عن "الست هدى"، فيقول: "وهكذا يجري في مسرحياته تيار أخلاقي مهم تُنصر فيه الفضيلة وما يتصل بالفضيلة من وفاء ومروءة وكرم، وكأنه يريد أن يقوي في نفوس الجمهور العناصر التي ترغب في عمل الخير".

ومن اللافت للانتباه أن شوقي عندما شرع في كتابة مسرحيته الكوميدية الثانية "البخيلة"، كان قد اكتسب مهارة واضحة في تقنية الكوميديا، فهـو في الفصل الأول منها يؤجل ظهور هذه الشخصية المحورية إلى الفصل الثاني، وبذلك نجح في مضاعفة أثرها الدرامي في نفوس النظارة والقراء. فمن شاهد أو قرأ مسرحيته الكوميدية الأولى، "الست هدى" يلمسه الفرق واضحا، بين الفصل الأول في الحالتين. ففي الأولى يوظف المؤلف الفصل الأول لسرد الست هدى ما حدث بينهـا وبين ضحاياها من الأزواج السابقين الذين طمعوا في مالهـا ولكن ماتوا قهرا، فيغلب على هذا الفصل طابع السرد ويفتقر بعض الشيء إلى عنصري الدراما والتشويق. بينما في الفصل الأول من "البخيلة" يمهد شوقي لظهور الست نظيفة تمهيدا فاعلا، فيجعل الشخصيات الأخرى تتحدث عنهـا وعن بخلها وأثره السيىء في علاقاتهـا مع الآخرين، فضلا عن انشغال هذا الفصل- كما ينبغي له- بالكشف عن المكان والزمان والعلاقة بين الشخصيات وموضوع المسرحية وجوها العام والمشكلات التي تتصدى لها المسرحية، والقيم والعادات والتقاليد السائدة في ذلك العصر. بهذا ينجح المؤلف في خلق عنصر التشويق لدى المشاهد والقارئ اللذين يتبرقان إلي رؤية الست نظيفة على الخشبة.

كما أننا نلمح في كوميديا "البخيلة" ميزة أخرى، وهي اكتساب الشخصيات والأفكار عمقا وأبعادا لم نعهدها في المسرحية الأولى. إن شخصية حسنى- التي أحسن شوقي تسميتها، كما فعل بالنسبة لبقية الشخصيات- تنبض بالحياة وتنتصب أمامنا لحمًا ودمًا، فمن الواضح أن شوقي قد نحتهـا نحتًا من واقع الحياة في أوائل القرن العشرين بأحد أحياء القاهرة. كذلك طور شوقي كثيرا وأسبغ أبعادا فكرية قوية على هذه الكوميديا الثانية لم تتوافر لمسرحيته الأولى، وربما يأتي على رأسها ذلك البعد الذي يتمثل في الحب الصادق الوفي الذي يقوم بين المحبين جمال وحسنى فيؤلف بينهما في رباط زواج تنتهي به المسرحية.

تلك النهاية السعيدة هي في واقع الأمر تعبير صادق عن روح الكوميديا التي تشجع على التفاؤل والأمل والتسامح وتدعم في الإنسان والحياة كل طيب وجميل. تلك النهاية تذكرنا بنهاية مسرحية وليم كونجريف الرائعة: "حبا بحب" "1695" حيث يجد فالتتاين، الشاب الضائع والغارق في ديونه، ضالته وخلاصه من محبوبته أنجيليكا التي تخلصه هي الأخرى من متاعبه وحرمانه بفضل رجاحة عقلها وذكائها وإخلاصها في حبه.

فكذلك تفعل حسنى عندما تنقذ جمالا مما تركته فيه جدته البخيلة من ضياع وحرمان، بأن ترد إليه ميراثه وبأن تبادله "حبًا بحب".

المنظور الأخلاقي

هكذا نلمح أبعادا درامية جديدة تميز "البخيلة" وتجعل منها امتدادا طبيعيا وتطويرا حميدا للتكنيك الدرامي ودراما النقد الاجتماعي، والذي عهدناه في المراحل الباكرة لأعمال أمير الشعراء. فقد نجح شوقي في تعميق المنظور الأخلاقي لمسرحيته الثانية، خاصة عندما صاغ تقابلا رائعا وموحياين مشروع الزواج الذي لم يتم بين جمال وزينب، والذي كان قائما على الكذب والزيف والماديات، وبين زواج جمال وحسنى القائم على الحب والتضحية من الجانبين. بل إن المال الذي تركته الست هدى، في المسرحية الأولى، لجيرانهما ولجهات خيرية- نكاية في زوجها الأخير- يوظفه شوقي في "البخيلة" لمقتضيات درامية مهمة في خدمة العلاقة بين الجنسين ودعما للحياة الزوجية السعيدة المرتقبة بين حسنى وجمال. إن مسرحية "البخيلة" تحتفي بالحب المخلص وقدرته على صنع المعجزات، فالحب هنا يصلح ما أفسد البخل.

ولعل ما يجذب الانتباه أكثر من أي شيء آخر في المسرحية هو تلك اللغة السهلة البسيطة التي صاغ بها الشاعر الكبير مسرحية "البخيلة"، والتي طعمها بكثير من الألفاظ العامية. وقد ساعد على انسياب الشعر وروعته في هذه الملهاة الجذابة تلك البحور القصيرة جدا والمتنوعة التي سلكها المؤلف، مما أكسب الحوار سرعة فائقة وحركة درامية محمودة. وأما عن صورة العصر فإن المسرحية زاخرة بالمشاهد الواقعية والأنماط البشرية والعادات والتقاليد، كل ذلك في خلفية حضارية بديعة رسمها شاعر عاش عصره وانفعل بأحداثه، فهنالك، على سبيل المثال، قهوة جميل في ميدان لاظ أوغلي- المعروف الآن بميدان لا ظوغلي- القريب من حي السيدة زينب، وهو منظر مألوف ومفعم بالحياة وزاخر بأنماط مختلفة ومتباينة من البشر. من هؤلاء "السمسار" الذي يلعب دور الخاطبة بطرقه الخبيثة للتقريب بين الجانبين وكل همه أن يكون له نصيب في "الصفقة" عندما تحلو "البضاعة" في عين جمال فيقع، ومن ثم البخيلة ومالها، في "المصيدة". وعن نوادر الأطباء في ذلك العصر الدكتور "عبدالسلام مرتضى" وهو في بخله أبخل من الست نظيفة ويقضي نهاره في المقهى يشرب الشيشة، والذي:

تذاكر الدفن التي يكتبها

في الشهر أضعاف تذاكر الدوا

إنه وأمثاله لا يداوون المرضى، بل يسلمونهم للمرض والموت فعن الدواء الذي وصفه لأم جمال تقول حسنى:

لما تعاطته نامت

نومة لم تقم إلى اليوم منها

ومن الاعتقادات السائدة بركة زيارة أضرحة المشايخ وأولياء الله، مثل سيدي الحنفي والسيدة زينب، حيث تقوم الست نظيقة بنذر شمعة أو شمعتين لسيدي الحنفي بقرش صاغ واحد فتسترد به مائتي قرش، هذا بالطبع إلى جانب الموضوع المهيمن على السرحية وهو المال وسطوته وما يمثله من عز وسلطان، والذي كرست الست نظيفة حياتهـا لاكتنازه، فاصبح بالنسبة إليها عصب الحياة، حتى أن شوقي يشبهها بالنملة في كدها وتشبثها بالمحصول، وذلك عندما يؤكد رشاد السمسار لأخ زينب- الذي- عن المكانة الاجتماعية والوظيفية للأسرة- أن ثروة جمال بعد وفاة جدته البخيلة تساوي وزيرين:

ولـمْ لا وجـدتـه نـملـة

إذا وقفت أو مشت حصلتْ

وتـدخل في بيتها ما تصيب

ولا يخرج الدهر ما أدخلتْ

لو انقلبت في جميع الجهات

على القش في فمها ما انفلتْ

ترى المال في بيتها في اللحاف

وتحت البلاط وحشو الشلتْ

إن من يقارن بين العناصر الفكرية والفنية في مسرحيتي أحمد شوقي الكوميديتين، "الست هدى" و"البخيلة"، يكتشف دون عناء مدى تطور هذه العناصر في الكوميديا الثانية عما كانت عليه في الأولى. وفي هذا الدليل على التزامه وحرصه على الإجادة، من ناحية، وأيضًا على أنه كان- كما سبق القول- قد وجد ضالته بعد مشواره الطويل الحافل في كتابة الأشعار والمآسي البطولية، في عالم الكوميديا، من ناحية أخرى.

 

علي أحمد محمود

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات




أحمد شوقي





غلاف الكتاب