ابن باديس.. المقاومة بالإصلاح والتعليم سعد بوفلاقة

ابن باديس.. المقاومة بالإصلاح والتعليم

هو عبدالحميد بن محمد المصطفى بن مكي بن باديس, ولد في مدينة قسنطينة بالجزائر سنة 1889م, وتوفي فيها سنة 1940, عن عمر يناهز واحدا وخمسين سنة. نشأ في أسرة مشهورة بالعلم والمال والجاه. ويقر ابن باديس بأصله الأمازيغي, ولكنّه يعتزُّ بالإسلام والعروبة.

أرادت أسرته له أن يكون عالمًا وفقيهًا, ولذا ألحقته بالكتّاب فتتلمذ على يد محمد المدّاسي, وحفظ القرآن الكريم (في السنة الثالثة عشرة من عمره), ثم تتلمذ فيما بعد على يد الشيخ حمدان لونيسي حيث أخذ عنه المبادئ الأولية في العربية والإسلام, وقد اهتم به أستاذه هذا أيّما اهتمام, ونصحه بعدم قبول أي وظيفة في الحكومة الفرنسية حتى لا تقيده في إبداء رأيه بكل شجاعة, وفعل ابن باديس بنصيحة أستاذه, وساعده على ذلك كون أسرته من الأسر الميسورة كماأسلفنا, وتزوّج ابن باديس وعمره لا يتعدى الخامسة عشرة, وفي سنة 1908م, سافر إلى تونس والتحق بجامعة الزيتونة حيث درس بها دراسته الثانوية, وتتلمذ هناك على يد عدد من العلماء أمثال: الشيخ محمد النّخلي, والشيخ الطاهر بن عاشور, وكان معجبًا بأستاذه الأول - الشيخ محمد النّخلي - وقد تأثر به كثيرًا, وذكر فضله عليه في بعض كتاباته فيما بعد, وأثناء وجوده بتونس (اتصل ببعض روافد الفكر العربي والإسلامي الإصلاحي), وإن كان ذلك الاتصال لم يكن مباشرًا.. (وحصل ابن باديس على شهادة العالمية في السنة الدراسية (1911 - 1912) ثم أمضى سنة أخرى هناك للتدريس في جامعة الزيتونة).

وفي سنة 1913 عاد من تونس إلى قسنطينة مدينته, وبدأ يعلّم أبناء وطنه, لكنّه في السنة نفسها فكّر في الذهاب إلى الحج فاتجه إلى البقاع المقدسة, وهناك سنحت له الفرصة أن يلتقي ولأول مرة بالشيخ البشير الإبراهيمي في أرض الحجاز, وقد اتفقا هناك على وضع الخطط الأولى للإصلاح في الجزائر, وبعد قضائه مناسك الحج عاد إلى الجزائر ليستقر في مدينة قسنطينة ويبدأ في تنفيذ خطته الإصلاحية.

الإصلاح والتعليم

بدأ نشاط ابن باديس الفعلي بعد عودته من البقاع المقدسة أي: سنة 1913 حيث بدأ يعلم الصغار والكبار كلّ حسب مستواه (وكان يلقي دروسه في مسجد سيدي قموش وفي الجامع الكبير بالمدينة لفترة من الزمن, وكان يبدأ دروسه بعد صلاة الفجر ويظل طيلة نهاره يعلّم الأطفال الدين وعلوم العربية متدرجًا معهم حسب مستوياتهم المختلفة, وكان لا يقطع عمله إلا لساعة بعد صلاة الظهر يتناول فيها قليلاً من الطعام, ثم يستأنف عمله حتى صلاة العصر, ثم صلاة المغرب والعشاء, غير أنّ عمله ما كان ينتهي عند هذا الحد إذ كان يستأنف الدروس لكهول قسنطينة وشيوخها من التاسعة مساء حتى منتصف الليل يفسر لهم القرآن في الجامع الأخضر), ولم يكتف بهذا بل كان يتنقل بين المدن الجزائرية خصوصًا العاصمة ووهران وتلمسان ليلقي فيها فيها دروسه في التفسير في كل أسبوع, وهكذا استطاع ابن باديس أن يكتشف بؤس وحرمان الطبقات الكادحة عن كثب حيث كان أغلب تلامذته من الطبقتين الفقيرة والمتوسطة. وبقي يعمل دون كلل أو ملل في جبهات مختلفة, ففي سنة 1925 بدأ يحارب جماعة الطرقية أو جماعة الطرق الصوفية, وهي جماعة يعود تاريخ نشأتها إلى القرن الأول أو الثاني الهجري في المشرق العربي, وكانت جماعة الطريقة هذه موجودة في الجزائر في هذه الفترة, وقد انتسب إليها ابن باديس في بادئ الأمر قبل أن يعرف أهدافها وتخاذلها ومساندتها لفرنسا, ثم اعتزلها وشن عليها حملة شعواء, وجماعة الطرقية يؤمنون بالشعوذة, والخرافات, والتمائم, وزيارة القبور والأولياء للتبرك, والبدع التي ما أنزل الله بها من سلطان, وكان شعارهم (اعتقد ولا تنتقد), وقد شوهوا الدين الإسلامي الحنيف بآرائهم التعسفية والاتكالية, فهم يفسرون قوله تعالى: {إن الله على كلّ شيء قدير}, بقولهم: فما دام الله قادرًا على كل شيء فهو الذي أعطى المقدرة والقوة لفرنسا على احتلال الجزائر وهو الذي يقدر أن يخرجها من الجزائر متى شاء من دون حرب وهي فكرة, كما نرى استعمارية تخاذلية, اتكالية, وديننا الإسلامي الحنيف منها براء. ولذا أسّس عبدالحميد بن باديس جريدة (المنتقد) سنة 1925م, كرد فعل لشعار الطرقية الذي يقول: (اعتقد ولا تنتقد), وكأنّه من اختياره لهذا العنوان يقول: إنّ منهجنا في عملنا هو النّقد للأوضاع السائدة ولأفكار الطرق الصوفية. ومن هذه السنة, أي سنة 1925 بدأ حملته على الطرق الصوفية كما حارب الآفات الاجتماعية الأخرى كالجهل والفقر والبطالة وما إلى ذلك, لكن فرنسا تنبّهت لخطر هذه الجريدة (فأصدرت قرارًا بتعطيلها بعد أنْ صدر منها ثمانية عشر عددًا).

ولكن ابن باديس ما لبث أن أصدر جريدة أخرى بعنوان (الشهاب) وكان طابعها دينيًا وسياسيًا مرنًا, وبهذا استطاعت أن تكون أطول عمرًا من سابقتها, أي من عام 1926م سنة صدورها إلى عام 1940م, سنة وفاة ابن باديس رحمه الله وطيب ثراه, (وقد أصدر ابن باديس صحفًا أخرى كالشريعة, والسنة المحمدية, والصراط, ولم تعمر طويلاً, إذ حرصت السلطات الفرنسية على إيقافها لشدة خطورتها وعظيم تأثيرها في النفوس), وفي مايو سنة 1931م تأسست جمعية العلماء المسلمين الجزائريين في نادي الترقي بالعاصمة وانتخب ابن باديس رئيسًا لها في غيبته, ومنذ توليه رئاسة الجمعية وهو يقوم بمواقف شجاعة.

تفكيره في الثورة

في 7 يونيو 1936م تأسس المؤتمر الإسلامي الجزائري, وانضم إليه ابن باديس في حذر, وفي 18 يوليو 1938م سافر وفد من المؤتمر إلى باريس ومن بينهم ابن باديس للمفاوضة مع الحكومة الفرنسية, لكن الوفد رجع خائبًا حيث هددهم وزير الدفاع الفرنسي آنذاك بقوله: (إن لدى فرنسا مدافع طويلة), فرد عليه ابن باديس: (إنّ لدينا مدافع أطول).. (إنها مدافع الله).. وبعد عودة الوفد خائبًا أنشد ابن باديس قصيدته المشهورة:

شعب الجزائري مسلم وإلى العروبة ينتسب
من قال حاد عن أصله أو قال مات فقد كذب
أو رام إدماجا له رام المحال من الطلب
يا نشء أنت رجاؤنا وبك الصباح قد اقترب
خذ للحياة سلاحها وخض الخطوب ولا تهب
وأذق نفوس الظالمين السم يمزج بالرهب
واخلع جذور الخائنين فمنهم كل العطب
من كان يبغي ودّنا فعلى الكرامة والرحب
أو كان يبغي ذلّنا فله المهانة والحرب


إلى أن يقول:

فإذا هلكت فصيحتي تحيا الجزائر والعرب


فالمتمعن في هذه القصيدة يجد ابن باديس قد أعلن الحرب على فرنسا بالكلمة أولا, ثم بالثورة المسلحة ثانيًا, وكان قد حدّد تاريخ بداية الثورة المسلحة بدخول إيطاليا الحرب العالمية الثانية بجانب ألمانيا ضد فرنسا, مما يحقق هزيمتها السريعة, ولكن المنية أدركت ابن باديس قبل موعد إعلان الثورة ببضعة وخمسين يومًا, فقد توفي في 16 أبريل 1940, وقيل مات مسمومًا, ودخلت إيطاليا الحرب في 10 يونيو 1940م, كما ذكر الشيخ محمد الصالح بن عتيق مدير مدرسة الميلية, أنّ ابن باديس انفلت من الرقابة الاستعمارية المضروبة عليه بقسنطينة لأنه كان تحت الإقامة الجبرية, وزار الميلية خفية متنكرًا سنة 1940م, واتصل به وسأله عن مدى استعداد الشعب الجزائري في منطقة الميلية للثورة المسلحة, فأجابه ابن عتيق بأنّ رجال الميلية سيجدهم رجال بارود (أي شجعانًا صناديد) ويمكنه أن يعول عليهم إذا جد الجد, لأنّ الاستعداد النفسي للثورة كامل فيهم, ودعاه للنزول فاعتذر, لأن الزيارة قصيرة لا تسمح له بطول الإقامة. وقد تنبأ ابن باديس بالثورة وتحرير الوطن من الاستعمار الفرنسي في نشيده الشهير (اشهدي يا سماء) حين قال:

اشهدي يا سما واكتبن يا وجود
إننا للحما سنكون الجنود
فنزيح البلا ونفك القيود
وننيل الرّضا من وفّى بالعهود
ونذيق الردى كل عات كنود
ويرى جيلنا خافقات البنود
ويرى نجمنا للعلا في صعود
هكذا هكذا هكذا سنعود
فاشهدي يا سما واكتبن يا وجود
إننا للعلا إننا للخلود


(وفي هذا النشيد الثوري ما ليس في غيره من التصريح بالجنود يدافعون عن الحمى ويرفعون خافقات البنود, ويزيحون البلاء النازل ويفكون القيود, ويذيقون الردى كل عات كنود), وقد تحقق ما ورد في هذا النشيد من أفكار فاستقلت الجزائر وعادت عربية مسلمة كما أراد لها الشيخ ابن باديس رحمه الله وطيب ثراه.

وفي سنة 1937 حينما لاحت بوادر الحرب العالمية الثانية رفض ابن باديس أن يبعث برسالة تأييد للحكومة الفرنسية كما اقترح عليه بعض الأعضاء.

وهكذا ظل الزعيم الروحي لحرب التحرير الكبرى يجاهد في جبهات متعددة, وقد (ترك, في ظرف زمني قصير نسبيًا, نحو عشرين سنة تأثيرًا بالغًا, كما ترك كتابات مهمة, لعبت دورها حين صدورها, ولاتزال فيها بعض دروس وعظات لمن يتأمل ويبحث).

منهجه في الإصلاح والتربية

وكان منهجه في الإصلاح والتربية يختلف عمّن سبقه من المصلحين لأنه استطاع أن يربط بين الحياة الاجتماعية والحياة الثقافية, أي: ربط بين الإصلاح الديني والاجتماعي, كما كان إصلاحه تطبيقيًا أكثر منه نظريًا وهذا الذي لم يوفق فيه غيره من المصلحين السابقين له, ويعد ابن باديس باعث النهضة الحديثة في الجزائر لأن الحياة الثقافية قبله كانت مهملة, فلما جاء أنشأ المدارس الحرة وبدأ بتعليم النشء بنفسه وحارب الآفات الاجتماعية المتفشية في المجتمع, لاسيما الطرق الصوفية كما سبق ذكره, ونقد المفاهيم الدينية الخاطئة التي كان ينشرها هؤلاء, فاتخذ الصحافة وسيلة مهمة لتوصيل أفكاره إلى الشعب وتوعيته من خلال (المنتقد) و(الشهاب), وهكذا كان الإصلاح الديني عند ابن باديس هو الربط بين العبادات والمعاملات, وعدم التفريق بين العقيدة والعمل, فالدين الإسلامي دين عبادة وعمل ونشاط وأخلاق وتسامح وهذا ما كان يطبقه ابن باديس في حياته اليومية حتى يكون قدوة لغيره, وسبب تخلف الأمة الإسلامية في نظره هو الابتعاد عن الكتاب والسنة, والإصلاح الديني والخلقي لا يكون في نظره إلا بالرجوع إلى الكتاب والسنة أيضًا.

محاولة اغتياله

ولما كان ابن باديس يشكل خطرًا على الاستعمار الفرنسي وعلى الطرقية التي تسانده دبّروا له مكيدة اغتيال في سنة 1937 عندما خرج عليه قاتل مأجور ذات ليلة وهو عائد إلى بيته في منتصف الليل بعد انتهائه من دروسه في المسجد ليغتاله, لكنه لم يفلح في تنفيذ جريمته, وأسرع أنصار ابن باديس وألقوا القبض عليه وأرادوا الفتك به لكن ابن باديس منعهم وعفا عنه, وقال لهم: اتركوه إنه مأجور. وفي هذه الحادثة أنشد محمد العيد آل خليفة قصيدة منها:

حمتك يد المولى وكنت بها أولى فيالك من شيخ حمته يد المولى
فيا لوضيع النفس كيف تطاولت به نفسه حتّى أسرّ لك القتلا
فوافتك بالنصر العزيز طلائع مباركة تترى من الملأ الأعلى
وأن أنس لا أنسى الذين تظافروا على الفتك بالجاني فقلت لهم مهلا


وهذه الأبيات كما نرى تشتمل على غرضين أدبيين وهما: المدح والهجاء, مدح ابن باديس, وهجاء المجرم الذي حاول اغتياله, ومن هذه الحادثة نلمس مدى تسامح ابن باديس وعفوه عند المقدرة والعفو عند المقدرة من شيم الكرام.

ولم يكن ابن باديس مصلحًا فحسب بل كان أيضًا مربيًا ومعلمًا ومفكرًا سياسيًا, فحياته سلسلة متصلة الحلقات, ويمكننا أن نقول إن نشاطه في التربية والتعليم من أبرز الجوانب في حياته العملية, فهو الذي أسس (مدرسة التربية والتعليم) بمدينة قسنطينة التي لاتزال تحتفظ بهذا الاسم حتى اليوم وهو الذي كان يشرف عليها بنفسه, وكان يؤمن بأن التربية والتعليم أمران مهمان في الحياة, لأنهما شرطان أساسيان من شروط تقدم الشعوب وتحضرها. كما أنهما شرطان أساسيان لتحرير الشعوب من سيطرة المستعمرين, وكانت العملية التربوية عنده تهدف إلى التربية القومية والأخلاقية والوطنية والدينية, كما كان متواضعًا جدًا مع تلامذته يتقرب إليهم ويشاركهم في حل مشاكلهم الخاصة.

فذلكة

هذه كانت لمحات في سيرة ابن باديس وجوانب من جهوده الإصلاحية والتربوية, والحقيقة أن من يرد دراسة شخصيته يجد صعوبة كبيرة لا صعوبة البحث ولكن صعوبة الاختيار, أي الجوانب سيدرس من بين جوانبه المختلفة? خصوصًا في مثل هذه المعالجة, هذه الشخصية الفذّة التي أنعم الله بها على الشعب الجزائري لم تلق العناية الكافية من الدراسة والبحث من قبل الباحثين والدارسين حتى الآن لاسيما وأنّ بعض تلامذته لايزالون على قيد الحياة, وهي فرصة ثمينة لا تعوّض في المستقبل, لذا يجب أن نعطي هذه الشخصية حقها من الدراسة والبحث في جوانبها المختلفة, هذه الشخصية التي عاشت للجزائر وللعرب وللمسلمين كافة.

 

سعد بوفلاقة