دروس المواجهة

دروس المواجهة

عندما وقعت النكبة في عام 1948 ، بقيام دولة إسرائيل ، فوق أرض فلسطين ، فإن المشكلة التي ترتبت على تلك النكبة، كانت مزدوجة:

فهي- أولا- مشكلة اغتصاب أرض فلسطين، وسلب حقوق شعبها ، فضلا عن طرد نسبة كبيرة منه خارج وطنه. وهي ثانياً : مشكلة التهديد الذي مثله وجود إسرائيل في الوطن العربي، خاصة للأقطار العربية المحيطة بها " مصر وسوريا والأردن ولبنان" وهو ما تجسد فعليا في هزيمة 1967 .

ومنذ اليوم الأول للنكبة، أصبحت مواجهة إسرائيل هي قضية العرب الأولى، وانقسمت تلك المواجهة إلى 25 عاماً من المواجهات العسكرية المتقطعة " بين 1948 و 1973 " ثم 25 عاماً أخرى من محاولات الحل السلمي، أعقبت حرب أكتوبر، وإن شابتها مواجهات مسلحة أيضا " 1973- 1998 " وبالرغم من إن إنجازات لا يمكن إنكارها قد تحققت للجانب العربي ، في سياق تلك المواجهة مثل الاعتراف الدولي بالهوية الفلسطينية ، وحق الشعب الفلسطيني في دولته المستقلة، وإقامة الحكم الذاتي الفلسطيني بقيادة منظمة التحرير الفلسطينية، فضلاً عن تحرير الأرض المصرية من الاحتلال الإسرائيلي .. إلخ .، فإن المحصلة العامة في الجانب العربي لا تزال سلبية وليست إيجابية، استمر جوهر المشكلة قائماً، أي : إنكار الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني ، فضلا عن احتلال أراض عربية غالية في سوريا ولبنان.

إن تأمل نصف القرن الذي استغرقه الصراع العربي الإسرائيلي من منظور القرن المقارنة بين الأداءالعربي والأداء الإسرائيلي فيه من ناحية، والمقارنة بين مسار ذلك الصراع ومسار صراعات أخرى عرفها العالم في الفترة نفسها، يقودنا إلى استخلاص عدد من الدروس الأساسية.

الدرس الأول ، أن قوة أي مجتمع ، وقدرته على مواجهة التحديات الخارجية، تنبع أساساً من داخله، أي من قوة بنائه السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي قبل أي شيء آخر. والقوة هنا تعني الفاعلية والكفاءة والقدرة على التطور والتجديد، والتصحيح الذاتي. ويعني هذا أن قدرة الأمة العربية على مواجهة التحدي الإسرائيلي، بنجاح ترتبط قبل حشد أي قوة عسكرية- بوجود نظم سياسية ديمقراطية، تعبر بحق عن إرادة شعوبها، وقادرة على تقديم أفضل عناصرها للقيادة واتخاذ القرار، وتقديس حقوق الإنسان وحرياته الأساسية.

ووجود نظم اقتصادية رشيدة وفعالة، تستلهم الحقائق العلمية أكثر من المقولات الأيدولوجية، وتتزايد قدرتها على الادخار والاستثمار والإنتاج والتصدير أكثر من قدرتها على الاستهلاك والاستيراد. ووجود مجتمع مدني فاعل يحشد طاقات الأفراد ويوظف قدراتهم لخير مجتمعاتهم ووجود ثقافة لا يمنعها ارتباطاها بجذور وطنها ، من التفتح والتفاعل مع ثقافات الآخرين وإبداعاتهم.

الدرس الثاني : أن النجاح في الصراع ضد الأعداء أو الخصوم يرتبط بالقدرة على استخدام جميع الأساليب، على كل الجبهات. فالأسلوب العسكري ليس هو الأسلوب الوحيد بل أحيانا لا يكون هو الأكثر فاعلية. ولنتذكر هنا فقط أن الإمبراطورية السوفيتية ذات القوة العسكرية والنووية الهائلة سقطت دون طلقة واحدة. ويعني ذلك، أن نجاح العرب في صراعهم مع إسرائيل يرتبط بقدرتهم ليس فقط على حشد الجيوش وتكديس الأسلحة ، ولكن أيضا على المواجهة السياسية والدبلوماسية والإعلامية في العالم كله بوجه عام، وفي داخل القوى المؤيدة لإسرائيل بوجه خاص، وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية، وكذلك على استقطاب القوى السلمية المتفهمة للحقوق العربية في داخل إسرائيل نفسها، يهوداً وعرباً.

ولنتذكر هنا أن إسرائيل كسبت حروبها ومواجهاتها مع العرب، في داخل أمريكا وأوربا، قبل أن تكسبها على أرض المعركة العسكرية.

الدرس الثالث : أن الشحن العاطفي والنفسي "الوطني ، والقومي ، والديني " ، للشعوب والجماهير، لا يمكن أن يحل- في سباق المواجهة مع الأعداء والخصوم- محل التقديرات والحسابات العقلانية، والموضوعية، للنخب والقيادات ، كما أن الشعوب تنتخب وتختار وتراقب، ولكن القرار والحكم يجب أن يكون في ايدي النخبة المؤهلة علميا وثقافيا. ويعني ذلك، أن نجاح العرب في المواجهة مع إسرائيل لن يتحقق بمجرد الانسياق وراء أكثر الشعارات حماساً وتطرفا وعاطفية .. ولا بالمجاراة الشكلية " من جانب القيادات الحاكمة " للمزايدات المخدرة لمشاعر الجماهير، وإنما بالتقدير العلمي والموضوعي لعناصر القوة والضعف، ولآليات العمل المختلفة بلا اي تحفظات ، ما دامت محققة للمصالح الوطنية والقومية العليا.

ولا بد أن يرتبط هذا بدرجات عالية- لا مفر منها- من الكفاءة والجدية : الكفاءة بما يمكن من تحقيق الأهداف بأفضل صورة ممكنة ، والجدية بمعنى أن نفعل ما نقول، ونقول مانفعل بلا التواء أو تردد.

 

أسامة الغزالي حرب

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات