خط حديد الحجاز محمد محمود عبدالرزاق
قطار له تاريخ
كان هدف إنشاء هذا الخط هو ربط "الآستانة" عاصمة العالم الإسلامي في هذا الوقت بالحجاز البقعة الدينية التي تهفو إليها قلوب المسلمين. ولكن عملية الإنشاء أصبحت جزءاً من التاريخ المضطرب لهذه المنطقة في ذلك الوقت.
أراد السلطان عبد الحميد أن يسيطر على الولايات العربية سيطرة تامة، ولتحقيق هذا الهدف ربطها بالعاصمة العثمانية بشبكة عظيمة من وسائل الاتصالات والمواصلات، ففي عام 1901 تشعبت الخطوط السلكية ومنها خط الآستانة - المدينة المنورة عن طريق دمشق. أما في سبتمبر 1900 فكان قد احتفل ببدء العمل في ربط دمشق بالمدينة المنورة بخط حديدي. وواجهت الحكومة العثمانية صعوبات كثيرة قبل إنشاء الخط وبعده، فتصدت لهجمات البدو، ولتعرض الخط لجرف السيول في المناطق الصحراوية، وقام الجيش الخامس الهمايوني- الرابع فيما بعد- بمعظم العمل بقوة عدتها ثلاثة آلاف جندي ومائتا مهندس يعملون بصفة مستمرة. وترجع فكرة إنشاء الخط إلى سنة 1864 حينما اقترح مهندس أمريكي مد خط حديدي بين دمشق وساحل البحر الأحمر، وحال دون ذلك عدم سيطرة الدولة العثمانية على زمام الأمور في لواء الكرك. وفي سنة 1880 اقترح وزير الأشغال العثماني مد الخط إلى الأراضي المقدسة، وحالت دون إتمام المشروع صعوبات عدة أهمها الصعوبات المالية.
افتتاح الخط
ووصل أول قطار إلى المدينة المنورة في 23 أغسطس 1908، واحتفل بافتتاح الخط رسميًا في عيد الجلوس السلطاني الموافق أول سبتمبر 1908، وكان قد عقد العزم على ربط المدينة المنورة بمكة المكرمة في المرحلة الثانية، وباليمن في الثالثة. وعرض الخط الحديدي الحجازي 105 سم وطوله 1308 كيلو مترات. وكانت تصب في نهره ثلاثة خطوط أخرى: خط درعا- حيفا، خط بلد الشيخ (قرب حيفا)- عكا، وخط قم غرز- بصرى. ولم يكن الخط الحديدي الحجازي هو الشبكة الوحيدة ببلاد الشام، إذ كانت هناك شبكة الخطوط الحديدية السورية التي تمتد إلى إستانبول فأوربا عن طريق الخط القاري. وبوشر العمل فيه في الوقت نفسه تقريبًا. وصدرت الإرادة السنية بإنشائه في أواخر القرن التاسع عشر أيضا. وكان الخط الحديدي الحجازي يمر بعمان ومعان، فيربط عمان بخط درعا- حيفا شمالاً، ومعان- العقبة جنوبًا، وكان هذا الخط الأخير جزءاً من الاستراتيجية العثمانية الجديدة للسيطرة على مصر.
هب المسلمون في جميع أنحاء العالم للمساهمة في إنشاء الخط الحديدي الحجازي، وأصدر السلطان العثماني إرادة سنية بمنحه صفة الوقف الإسلامي، وافتتح الاكتتاب بمبلغ 320 ألف ليرة عثمانية، وتبرع شاه إيران بمبلغ 50 ألف ليرة، وأرسل خديو مصر كميات من مواد البناء، وتألفت الجمعيات في سائر الأقطار الإسلامية لجمع الإعانات، ونقلت مخصصات دائرة الحج البالغة 150 ألف ليرة في السنة إلى ميزانية الخط، بالإضافة إلى 60 ألف ليرة من عطايا السلطان، ثم عمدت الدولة إلى جمع الأموال بشتى الطرق، فأصدرت طابع باسم الخط لإلصاقها على جميع الطلبات والاستدعاءات الحكومية والمعاملات التجارية، وفرضت ضرائب جديدة منها ضريبة المسقفات. وجعلت شارات وأوسمة برسم البيع، طلبت من الحكومة التبرع براتب شهر كامل، ثم قررت خصم عشر رواتبهم. وقامت إدارة الخط بجمع جلود الأضاحي وبيعها. وبلغت نفقات المشروع ثمانية ملايين ونصف مليون ليرة عثمانية.
أهداف دينية وعسكرية
كان الهدف الرئيسي المعلن من إنشاء الخط تسهيل سفر الحجيج وتوفير الراحة والأمن لهم. ولا شك أنه كان عملاً ضروريًا ومهماً لتحقيق هذا الغرض. فقد كان على موكب الحج الشامي أن يقطع 28 مرحلة بين دمشق والمدينة المنورة تستغرق 379 ساعة بالإضافة إلى 107 ساعات لقطع المسافة بين المدينة المنورة ومكة المكرمة والبالغة عشر مراحل، فكانت الرحلة تستغرق نحو أربعة أشهر، أما قافلة الحجاج الأتراك فكانت تقطع 76 مرحلة بين إستانبول ومكة المكرمة تستغرق 802 ساعة في نحو ثمانية أشهر، وكانت قوافل الحج تتعرض لغارات العشائر البدوية الضاربة في بادية الشام في الطريق بين مزيريب والمدينة المنورة. وقد حفل القرنان السابع عشر والثامن عشر بأخبار هذه الغارات، وكانت تشتد عندما يمنع الباشا صرف المرتبات والمنح التي كانت تقدم لهذه العشائر كل عام. وكان الوالي يصحب معه. عددًا من العسكر والمدافع. وتقديرًا من الدولة لخطورة الموقف، أسندت منصب إدارة الحج إلى والي دمشق بعد أن كانت تعهد به إلى حاكم نابلس وعجلون، ثم رأت أن غياب الوالي مصحوبًا بعدد كبير من الجند يؤدي إلى اضطراب الأحمال في المدينة، فقررت الفصل بين منصب الولاية وإمارة الحج، وعينت قائد الجندرمة أميرًا للحج. وكان يختار عادة من الضباط الأكراد من بيوت معينة.
أما الهدف الثاني من إنشاء الخط فكان عسكريًا، إذ إنه سيسهل مرور القوات عند الاقتضاء، وكان عدد القاطرات من 30 إلى 50 قاطرة صالحة للاستعمال قبيل نشوب الثورة العربية بالحجاز، و 180 عربة للركاب. وكان كل قطار يجر ما بين 13 و 15 عربة، إضافة إلى أربعة خزانات مياه لإمداد المحطات ونقاط الحراسة. ولم يكن الخط يعمل بصورة منتظمة إلا في موسم الحج الذي لا يستغرق أكثر من ثلاثة أشهر، ويبقى استعماله للأمور العسكرية، أما التبادل التجاري فلم يكن نشيطًا لأن احتياجات الحجاز من التجارة السورية كانت قليلة، وكان القسم الأعظم من الخط- من معان إلى المدينة المنورة- شبه معطل في معظم أيام السنة، أما الخط بين درعا ودمشق فكان يعمل بانتظام، فخصصت الحكومة للخط دخل نوع من الطوابع ومنحته بعض الامتيازات. والخطر الأعظم الذي كان يهدد سيره هو ندرة الوقود، وكانت القاطرات تعمل بالحطب الذي يؤتى به من الشمال كما يقول لورنس في: "أعمدة الحكمة السبعة" أو أشجار السنط الصحراوية. وبلغ العجز في تأمين الوقود حدًا جعل فخري باشا يشرع في هدم منازل المدينة المنورة للاستفادة من أخشابها.
تخريب وإصلاح
واستمر الخط في العمل حتى نشوب الحرب العالمية الأولى. وتعرض للعديد من الهجمات التخريبية عند قيام الثورة العربية. وشجعت انجلترا وفرنسا هذه الهجمات بغية قطع الاتصال بين الأقطار العربية. وكانت ترابط بالمدينة المنورة كتيبة تركية مؤلفة من 800 جندي لإصلاحه، كما يذكر الجنرال بريمون الذي أشار إلى قوله روبرت جيريفيز في كتابه: "لورنس العرب". وفي وقت مبكر بدأت العشائر البدوية القاطنة على امتداده تشعر بتأثيره على رزقها الموسمي، وكانت الدولة العثمانية قد دعمته بعدد كبير من الجند النظاميين لحمايته يقدر بخمسة آلاف جندي، لكنهم عجزوا عن القيام بأعمال الحراسة.
وشرعت الحكومة العثمانية في تنفيذ المرحلة الثانية بمده مسافة 420 كيلو متراً إلى مكة المكرمة عن طريق جدة، لكن الشريف حسين عارض الفكرة، لأن مده سوف يقضي على أسباب المعيشة لعدد غفير من البدو والحضر اعتادوا على تأجير الجمال لنقل الحجيج والأمتعة بين المدينتين المقدستين في الذهاب والإياب، وأعلن أن ذلك سيف يحملهم على شق عصا الطاعة، ومصلحة العثمانيين العليا في استتباب الأمن. ومع ذلك فقد ذهب كاظم باشا رئيس لجنة السكك الحديدية لتفقد الطريق المزمع إنشاؤه فهاجمه البدو المسلحون وقتلوا مائة من أتباعه ففر إلى المدينة. وبقيت المواد اللازمة للإنشاء مخزونة بمستودعات المدينة بصورة جيدة حتى عام 1916، وهذا ما مكن فخري باشا- إلى حد ما- من إصلاح الخط كلما داهمه المخربون.
ولم تلبث الدولة العثمانية أن أعادت الكرة، ففي ربيع عام 1913 أصدر الاتحاديون قانوناً للولايات يقضي في إحدى مواده بتنفيذ أحكام التجنيد الإجباري، ورفض الشريف حسين تطبيقه على الحجاز، فالحجاز بلد مقدس لا يطبق عليه ما يطبق على غيره. وفي عام 1914 صممت الحكومة على انتهاج سياسة الحزم بعد نجاحها في الولايات الأخرى، فعينت العميد وهيب بك والياً جديداً، وعززت قواتها العسكرية بسبع كتائب مشاة أرسلتها معه بطريق البحر، فبلغ ميناء جدة في يناير 1914 متنمراً كما يقول الملك عبدالله بن الحسين في مذكراته، وأذاع أنه ما جاء إلا لتطبيق قانون الولايات، ومد الخط الحديدي من المدينة إلى مكة المكرمة، وإذا مانع الشريف الحالي في التنفيذ فإن الشريف على حيدر مستعد للتنفيذ.
الجمالة يستولون على الخط
وهنا بدأ الهياج على الطريق بين مكة وجدة، فاستولى الجمالة الذين كانوا ينقلون البضائع من ميناء جدة إلى مكة على زهاء أربعة آلاف حمل جمل، وهرع الأهالي إلى الشريف فأعاد الأحمال إلا القليل، رغم أن الشريف كان قد اعتكف في منزله بعد أن أبلغ استانبول بعدم مسئوليته عما يحدث. ثم نهب رجال القبائل تاجراً هندياً وقتلوه ونجا مدير الطائف التركي الذي كان مع القافلة، وسطا بعض الأشقياء على زورق محمل بالأرز والحبوب وحطموه، فأبرق الأعيان ورجال الدين إلى الحكومة العثمانية احتجاجاً على تصرفات الوالي، وتأزم الموقف فقطع البدو خطوط البرق بين جدة ومكة وصادروا البريد، فذهب الوالي إلى الشريف معتذراً، لكنه لم يقبل اعتذاره، وخرجت من جدة مجموعة من الجند قاصدة مكة، فهاجمها البدو وقتلوا خمسة منهم وفر الباقون. وساد الاضطراب في جدة وضواحيها، فأرسل الشريف ابنه فيصل لردع البدو.
واستمرت الأزمة زهاء أسبوعين، حاول الوالي خلالهما أن يفتح طريق مكة بالقوة، فهاجمت قبائل البدو القوة التركية وحاصرتها، كما حاصرت النقاط العسكرية بين البلدين، وامتنع سكان الأودية المحيطة بمكة عن مدها بالخضراوات والفاكهة والسمن والغنم، فتجمهر أهل مكة حول دار الحكومة ونادوا بعدم تغيير امتيازات الحجاز وعدم مد الخط الحديدي. وجاء الشريف إلى الوالي فهتفت الجماهير تأييدا له، فهدد الوالي قائلاً: " هذا أنا سأبقى هنا إلى حين قدوم الباخرة التي سأسافر عليها من جدة لئلا يقع ما تسند تبعاته إلي "، ولم تنفرج الأزمة إلا بورود برقية من الصدر الأعظم للشريف مؤكدة عدم الإخلال بامتيازات الحجاز، ذاكرة أن الحكومة لا تلح في الوقت الحاضر على مد الخط الحديدي، فهدأت الأحوال بعد أن تليت البرقية في المسجد.
وكان هذا الخط عرضة للكثير من الهجمات طوال فترة الثورة العربية. وثمة نادرة عن زيارة أنور باشا وزير الحربية العثمانية وجمال باشا قائد القوات التركية للمدينة عام 1916، فقد كان القطار يقطع المسافة من دمشق إلى المدينة المنورة في ثلاثة أيام، لكن سائقه أراد أن يثبت مهارته للراكبين الكبيرين فقطعها في يوم واحد، وكانت خيبة أمله كبيرة عندما تعرض للجزاء الرادع مع الوقف عن العمل لتعريضه حياة المسئولين الكبيرين للخطر بجنون السرعة. وتوجد بمحطة المدينة المنورة قاطرة مشدودة بسلاسل ضخمة إلى القضبان، ويقول المعمَّرون إن هذه القاطرة كان جزاؤها الشنق بالسلاسل الغليظة، ويتعقب عثمان حافظ هذه النادرة بالتحقيق، فيسأل عنها المرحوم السيد رشيد الغزي مهندس السكة الحديد، فيؤيد ما يشاع من أنها القاطرة التي أقلت المسئولين الكبيرين، أما سبب الاستغناء عنها فيرجح رجوعه- بطبيعة الحال- إلى عوامل فنية خفيت عن الأذهان.
الخط يعود
وتوقف الخط في أثناء الحرب العالمية الأول، وبشرت جريدة "الفلاح" قراءها في افتتاحية عددها الصادر في 25 أغسطس 1923 بقرب إصلاحه: " لانشك أن من حظ هذه الصحيفة أن يكون أول خبر تزفه لقرائها الكرام بعد احتجابها طوال هذه المدة أن تبشرهم بإيصال الخط الحديدي، فقد وردت برقية من مدينة الرسول عليه أفضل التحية، مفادها أن هيئتي التعميرات قد اجتمعتا في محطة "الهدية" بعد أن أتمت كل هيئة منهما تعمير القسم الذي أنيط بها تعميره، وكانت إحداهما تشتغل من الجهة الشمالية متجهة نحو الجنوب، والأخرى مبتدئة من المدينة سائرة نحو الشمال بحسب ترتيب الهندسة المعنية. فبهذه المناسبة نرفع لجميع العرب والمسلمين المشوقين لزيارة قبر سيد المرسلين عليه أفضل الصلاة والتسليم خالص التهاني والتبريك، ويحق لنا أن نقول إن من سمات اليمن والفلاح، وعلائم الخير والنجاح أن يصدر هذا العدد من الفلاح بعد احتجابها، ناشراً للأمة هذا الخبر السار فحي على الفلاح".
ويبدو أنها كانت أمنية خاصة لعمر أفندي شاكر، الذي يتطلع إلى مدينته الحبيبة دمشق، فقد أصدر الجريدة بدمشق عام 1919، وظل يقاوم الاستعمار الفرنسي حتى حكم عليه بالإعدام مع من قدموا للمشانق عام 1920، لكنه استطاع أن يفر بجريدته فى مكة المكرمة، وكان أول عدد يصدر منها بالأراضي المقدسة في 8 سبتمبر 1920، وآخر عدد- على مايعتقد الباحثون- في 20 سبتمبر 1924، ولم يستقر حالها حتى بعد فرارها. ويرجع الدكتور عبد الرحمن الشامخ أطول فترة من فترات انقطاعها إلى رحيله للقاهرة عام 1921. وعادت للصدور فور عودته من القاهرة في 25 أغسطس 1923 لينشر الأمنية التي لم تتحقق حتى الآن.