من النكبة إلى الاسترخاء السياسي

من النكبة إلى الاسترخاء السياسي

تعود المثقفون العرب في العقود الأخيرة على استخدام لغة استعارية للدلالة على الأحداث التي تقع في مجال الوطن العربي والمشكلات الجسيمة التي تواجهة الأمة العربية ، من بين ذلك مفهوم النكبة الذي يستخدم للدلالة على الهزيمة العربية في حرب فلسطين عام 1948 ، كما أننا لم نتوان عن ممارسة هذا التقليد بالنسبة لهزيمة 1967 فأسميناها النكسة. بين النكبة والنكسة وقعت أحداث جسيمة وربما كان من أبرز المثقفين العرب الذي أطلقوا مصطلح النكبة على هزيمة 1948 المؤرخ الشهير قسطنطين زريق الذي أصدر كتاب المعروف " معنى النكبة " ، وكان هذا الكتاب في الواقع بداية ما نسمية النقد الذاتي العربي، ومما له دلالة بالغة أن زريق نفسه نشر كتاباً آخر بعد هزيمة يونيو 67 وأطلق عليه " معنى النكبة مجددا " وكأنه يعيد إنتاج خطابه القديم عن أسباب الهزيمة في 48 مضيفا إلى خطابه الأسباب التي تتعلق بما حدث للمجتمع العربي سياسيا واقتصاديا وثقافيا وعسكريا في الحقبة من 48 إلى 67 زريق في كتابة الأول تبني وهجة نظر ليبرالية- إن صح التعبير- فقد ركز في رصده لأسباب الهزيمة على غياب الديمقراطية عن المجتمع العربي وغياب النظرة العلمية والافتقار إلى التكنولوجيا وغربة الجماهير عن اتخاذ القرار، وإذا مضينا من حقبة 48 والتي كانت الهزيمة فيها أحد أسباب التغيرات السياسية الكبرى في الوطن العربي إلى عام 67 وقرأنا ما حدث خلال الـ19 سنة التي مرت ما بين الهزيمتين، فسنجد أننا أولا ولا نستطيع نسيان أن أحد أسباب قيام ثورة يوليو 1952 هو الهزيمة العربية في حرب فلسطين 48، ثورة يوليو جاءت كما جاء عديد من غيرها من انقلابات عسكرية عجزت عن أن تتحول إلى ثورة وادعت أنها ستقوم بهمة تحديث شامل للمجتمع من شأنها أن تجعل الصراع العربي قبل 48 وأنها ستقوم بمهمة تحديث شامل للمجتمع من شأنها أن تجعل الصراع نديا بيننا وبين إسرائيل، غير أن هزيمة يونيو 67 أثبتت إخفاق هذا المسعى وفشل القيادات السياسية العربية في أن ترقي إلى مستوى الصراع الحضاري الشامل بين الأمة العربية والدولة الإسرائيلية . ومما له دلالة مهمة أن تنشأ بعد هزيمة يونيو 67 حركة نقد ذاتي واسعة المدى أعمق بكثير من تلك التي قادها زريق عقب هزيمة 48 ، ويرد هذا العمق والحدة في النقد إلى أنه كانت قد تبلورت ملامح مشروع قومي عربي ي حمل في طياته إن لم نقل تحقيقا لحلم الوحدة العربية فعلى الاقل التنسيق العربي الشامل وبناء الجيوش العصرية والتحديث الاجتماعي والثقافي. على رأي أدبيات النقد الذاتي للهزيمة كتاب الفيلسوف السوري المعروف د. صادق جلال العظم وعنوانه " النقد الذاتي بعد الهزيمة " حيث تناول بطريقة نقدية رائعة مشكلات التنشئة الاجتماعية والسياسية للمواطن العربي، وفشل هذه العملية في بناء مواطن عربي قادر وفعال، وامتد هذا النقد الذاتي ليعبر عن أصوات من اتجاهات أخرى . غير اتجاه د. العظم ، سنجد الإسلامي عبدالله المنجد في كتابه " أعمدة النكبة السبعة " حيث يقدم تفسيرا دينيا للهزيمة ويركز على دور الدين، كذلك سنجد أديب نصور الذي يعبر عن الصوت المسيحي العربي في كتابة " النكسة والخطأ" .

لو حللنا أدبيات النقد الذاتي سواء بعد هزيمة 48 أو بعد هزيمة 67 لاستطعنا أن نضع أيدينا عى الأسباب التي أدت إلى النكبة بالمعنى العربي المتداول وأهمها سيادة النظم الاستبدادية العربية وتغييب الجماهير عن صنع القرار والمشاركة السياسية والتخلف الاجتماعي والثقافي حيث تبلغ نسبة الأمية في الوطن العربي 60 % وكذلك الفشل في إرساء قاعدة متينة للعلم والتكنولوجيا سواء بالنسبة للدول القطرية أو على مستوى الوطن العربي ككل والعجز عن مجاراة الحداثة الغريبة سياسيا واقتصاديا واجتماعيا.

تحدي المستحيل

ولا ينبغي الحديث عن النكبتين- 48 و 67- دون أن نشير إشارة واضحة إلى حرب أكتوبر 73 في هذا المجال، حيث يمكن القول إن الأمة العربية في قطرين من أقطارها المهمة- مصر وسوريا- قد استنهضت الهمم وعبأت القوى العربية واستعدت عسكريا واستطاعت مصر وسوريا أن تتحديا المستحيل كما بدا من اقتحام خط بارليف وإنزال الخسائر الجسيمة بالقوات الإسرائيلية مما أثبت أن العرب- لو استعدوا- يستطيعون مواجهة التحدي.

ولكن بعد حرب 73 وتوقيع اتفاقية كامب ديفيد والمعاهدة المصرية الإسرائيلية وم تلا ذلك من مقاطعة عربية لمصر لسنوات طويلة ثم عودة الدول المقاطعة لتوافق على الخط السياسي الذي رفضته ، وانعقاد مؤتمر مدريد وتوقيع اتفاقية أوسلو سرا وبعيدا عن المشاركة العربية يمكن القول إنه حدث استرخاء سياسي في الوطن العربي، وفي نفس الوقت أعلنت القوى الصهيونية المتطرفة داخل الدولة الإسرائيلية من صوتها وأعلنت بكل وضوح إلغاء اتفاقية أوسلو وإعادة تجديد موجة الاستيطان الصهيونية في الضفة والقدس. في هذه المرحلة مرحلة اليأس المطبق العربي والتحدي الصهيوني الخطير والذي وصل إلى تحدي الولايات المتحدة نفسها، بينما لا يتقن العرب إلا لغة الكلام وليست هناك أي خطة سياسية أو عسكرية أو اقتصادية أو ثقافية للمواجهة العربية الشاملة ضد الهجمة الصهيونية الجديدة . ومعنى ذلك مع الأسف اننا لم نستفد من دروس النكبتين ولم نستطع أن نمسك بلحظة البرق التي مثلها الإنجاز العسكري العربي في حرب أكتوبر 73 .

 

السيد ياسين

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات