التوابع

التوابع

ليست النكبة الحقيقية، هي أن يمر نصف قرن على النكبة من دون أن نزيلها، ولكن أن يمر كل هذا الزمن، من دون أن نتوصل حتى إلى مجرد الاتفاق، حول السبب الرئيسي في حدوثها، وبالتالي إلى تصور مشترك ، حول كيفية التعامل مع نتائجها.

ومع التنوع في الرؤى أمر طبيعي ، فإن التباين الشديد في الخطاب النكبوي العربي، وصل إلى حد لا يمكن أن يصدقه عقل، فخلال نصف القرن الذي انقضى، سادت تفسيرات ، تنوعت بين القول بأن ضعف العرب عسكرياً ، أو تبعيتهم سياسياً أو تخلفهم

اقتصادياً واجتماعياً، أو أنصرافهم عن الدين ، أو افتقادهم للعدالة الاجتماعية، هي سبب النكبة. ورفعت شعارات ، وطبقت سياسات، تنوعت بين القول بأن الطريق إلى تحرير فلسطين، يمر عبر التحرر من الضعف العسكري، أن عبر التحرر من الاستعمار، أو عبر التحرر من الرأسمالية، أو عبر التحرر من العلمانية،

ووصلت إلى حد القول - مرة- بأن الطريق إلى القدس، يمر عبر " طهران " ، ومرة أخرى إلى حد القول بأنه يمر عبر " الكويت " .

وبسبب هذا التباين الشديد في تفسير اسباب النكبة، وفي السياسات التي اتبعت للتغلب عليها، اتسعت مساحتها من 77% من ارض فلسطين الأصلية عام 1948 ، إلى كل ارض فلسطين- فضلا عن أجزاء من سوريا ولبنان- عام 1998، وجرت وراءها كالزلازل توابع لها، لا تقل عنها شدة، بل لعلها بمقياس ريختر أكثر نكبوية منها . فبسبب النكبة، وبسبب العجز عن التوصل إلى " اتفاق قويم" حول تشخيصها وعلاجها- اصبح العرب باختيارهم ورقة في لعبة الأمم ، خلال سنوات الحرب الباردة ، وتوزعوا بين المعسكرين الدوليين، طلبا للمعونة التي تمكنهم من إزالتها، أو تحول دون تحول أقطارهم إلى مناطق منكوبة ، فلم يستفيدوا من ثمار استقلالهم.

وبسبب النكبة، وتذرعاً بها أحياناً، دخل العرب في حروب أهلية وقطرية ضد بعضهم البعض، كما خاضوا حروباً إقليمية، ضد حلفائهم ، خسروا فيهم من الأرواح والأموال ، أضعاف ما خسروه في حروبهم مع إسرائيل.

وباسم إزالة آثار النكبة، زحفت العسكرتاريا العربية على السلطة السياسية في كثير من الاقطار العربية، باعتبارها المؤهلة للقيام بهذا الدور، فتراجع النفوذ الفكري والسياسي للعناصر المدنية، وانمكش ظلمها عن المجتعمات العربية ، وتقلصت الطموحات الديمقراطية، ولم يعد هناك صوت يعلو فوق صوت المعركة، حتى لو كان صوت العقل أو صوت حقوق الإنسان.

أما وقد كانت المعركة تجيئ لتنتهي كل مرة بنكبة إضافية، فقد بدأ الأصوليون الإسلاميون زحفهم للاستيلاء على المستقبل العربي، بدعوى أنهم السلاح الذي لم يجرب بعد، فضلاً عن أنه الاصلح لمواجهة إسرائيل، باعتبارها- هي الأخرى- دولة أصولية. الشيء الذي لم يضعه الجميع في اعتبارهم، هو أن القوى الدولية ، التي زرعت النكبة في المنطقة، وحرصت على بقائها، أرادت أن تجعل منها حاجزاً يعزل مصر عن الأمة العربية ، والمشرق العربي عن المغرب العربي ، لتحول دون توحد العرب، باعتباره خطراً على مصالحها، وأن " إسرائيل " قد بقيت على- الرغم من الاساطير الدينية التي قامت عليها- لأنها دولة ديمقراطية علمانية عصرية. لو أنهم تنبهوا لذلك ، وتصرفوا على أساسه ، لتوقوا كثيراً من توابع النكبة، التي نشأت نتيجة للخلاف حول أسبابها، وحول أسلوب التغلب عليها ، ولادركوا أن اي حل مرحلي، تجبرهم الظروف على قبوله، لا يجوز بأي حال من الأحوال، أن يحول دون اتصال الأرض العربية، وهو ما يعني أن يتمسكوا بتنفيذ قرار التقسيم الذي صدر في عام 1947 وليس أقل منه، وليتأكدوا أن الطريق إلى فلسطين، لا يمكن أن تقود إليه، إلا نظم ديمقراطية عصرية.

 

 

صلاح عيسى

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات