فلسطين.. عبر خمسين عاما

فلسطين.. عبر خمسين عاما

منذ بدأت المسألة الفلسطينية في المجال العربي، كانت هي جوهر الحركة الوطنية ، وبوجه خاص منذ نشأت الدولة الإسرائيلية على ارض فلسطين، على مدى النصف الثاني من القرن العشرين. والحركة الوطنية فيما أفهم هي حركة تجمع المواطنين لإزاحة وجود أجنبي عن أراضيهم، ولاستخلاص إراداهم السياسية من أن تبقى مكرهة على تحقيق الصالح الاجنبي منصرفة عن تحقيق الصالح الذاتي للجماعة الوطنية.

وفلسطين أرض عربية وإسلامية ، صارت ممثلة بالوجود البشري الصهيوني وبالقوات المسلحة الإسرائيلية وبالإرادة الصهيونية الامريكية ، وهذا الوجود لا يجري على حساب الوجود العربي الفلسطيني فقط، ولم يقم لهذا السبب وحده، ولكنه بما يملك من قوى الردع العدواني يرهن إرادة الدول العربية المحيطة ويهدد مصالحها ويستنفذ قواها . قديماً وجدنا الاحتلال الاجنبي يقوم بجنده وعسكره في أراضينا ويسيطر على حكوماتنا أو يحكمنا حكما مباشرا ويتخذ لذلك شكلا دوليا معترفا به وهو " الضم " أو " الإلحاق " وسائر الأشكال الإمبراطورية، فلما فسد هذا الشكل من أشكال التعامل الدولي المشروع، وظهرت بعد الحرب العالمية الأولى عصبة الأمم ومبادئ تقرير المصير ودعاوى الاستقلال السياسي، واستنبط أشكالاً جديدة تسوغ شرعية بقائه، ابتدع شكل الانتداب الذي خضعت له سوريا ولبنان وفلسطين وغيرهم خلال فترة ما بين الحربين من 1918 . فلما انتهت الحرب العالمية الثانية في 1945 ونشأت هيئة الأمم المتحدة وظهرت حركة استقلال المستعمرات على مدى آسيا وإفريقيا كلها عبر الخمسينيات والستينيات بدأ الاحتلال يحور من شكله الدولي والقانوني ليتخذ شكل المعاهدات والأحلاف والقواعد العسكرية. وانحصر الوجود الأجنبي المسلح في معسكرات محددة ولكن ضغطه على الإرادات الوطنية كان معروفاً . وقد لاقت سياسة الأحلاف ما تستحق من مقاومة ومعارضة الحركات الوطنية . وتخلل هذه الفترة ظهور شكل جديد، وهو اصطناع دول تتخذ شكل وحدات سياسية يعترف بها دوليا ولكنها تفتقد أهم مقوم من مقومات الدولة الحقيقية وهو وجود شعب مستقر يشكل جماعة سياسية نشأت تاريخيا ويضمها شعور بالانتماء المشترك وتقطن إقليميا محدداً، وصار الاعتراف بها بوصفها دولة يعطيها ضمانات القانون الدولي وشرعية الوجود والبقاء والعصمة من القيام عليها. وصار اصطناع الشعب يجري إما بالهجرة وفق أي دعوى عنصرية أو دينية، وهذا ماحدث في إسرائيل، أو منطقة خليط ومجتزأة من وحدات أخرى كما حدث في بعض البلدان إفريقيا وأمريكا الوسطى.

ما أريد قوله أن " الدولة " في حالة إسرائيل هي شكل فقط يغطي الوجود الاجنبي والشعبية المصطنعة ويمنحها ضمانات القانون الدولي وعصمة أشخاصه. وهذا لا يخل بأن حركة الشعب الفلسطيني ومقاومة الشعوب العربية والإسلامية هي مما يشكل حركة وطنية مقاومة للوجود الأجنبي. على مدى السنوات الخمسين الماضية واجهت الحركة الوطنية الوجود الأجنبي في فلسطين بطرق شتى ، سواء في المجال العربي أو في المجال الفلسطيني أما المجال العربي فقد عرفنا مرحلتين، الأولى منهما من 1948 إلى 1977 ومدتها ثلاثون سنة. كالصراع خلالها يتخذ شكل الحروب التي تقوم بها الدول العربية المجاورة لفلسطين بواسطة جيوشها النظامية وكان أرعبة حروب، أولاها في 1948 انتهت بهزيمة العرب وثانيتها في 1956 كانت من هزائم العرب الكبرى التي لا تزال آثارها الباقية، ورابعتها انتهت بانتصار عربي جئي بتحرير سيناء مع بقاء الجولان في سوريا والضفة الغربية من الأردن تحت الاحتلال. والمرحلة الثانية في المجال العربي تبدأ بالصلح الذي أجرته مصر مع إسرئيل، وتبدأ بزيارة الرئيس المصري أنور السادات للقدس في 1977 ثم ما تلا ذلك من عقد اتفاقية كامب ديفيد ، وأن متابعة أوضاع السياسة العربية الإسرائيلية

على مدى السنوات العشرين الأخيرة، تكشف بوضوح أن أياً من المعاهدات التي أبرمت مع إسرائيل، سواء من مصر أو من الأردن أو من منظمة التحرير لم تفطن إلى تصفية الصراع العربي الإسرائيلي ولا أفادت إمكان ذلك في المدى المنظور .

لقد مرت عشرون سنة على المعاهدة المصرية، ولكن الوضع الشعبي وشبه الرسمي لا يزال غير منفك، والبيوسة واضحة التوتر حال. وما يمكن الجزم به أن السلام لم ينشأ وأن الصراع لم ينته.

إنما تحول الصراع من أسلوب الحرب تجريها الجيوش النظامية للدول إلى صراع من نوع آخر هو صراع جماعات لا صراع حكومات فقط، وهو يتخذ قضاياه من رفض التطبيع وإذكاء روح المقاطعة المادية والثقافية ورفض التعاون ورفض التعامل، أي المقاطعة ، وهذه الأساليب للصراع عرفتا حركاتنا الوطنية من قديم متخذة تلك الوسائل، ومن أمثلتها أساليب الصراع ضد الاحتلال الإنجليزي سواء في مصر أو في الهند أو كثير من بلاد العرب.

أما في المجال الفلسطيني فقد عرفت مرحلتان ، أولاهما بنشأة منظمة التحرير الفلسطينية . ونحن نعلم أن سمات الحركة الوطنية الفلسطينية على عهد المنظمة أنها قامت وقوتها الأساسية من الفلسطينيين خارج فلسطين، وأملي عليهم ذلك أدوات عمل سياسي وأساليب تحرك سياسي ترتكن في المحل الأول على الرأى العام العربي ثم الإسلامي وضغوط هذا

الرأي العام على حكوماته، وجدت المنظمة كما كانت تشخص في المهجر الجماعة الفلسطينية. استمر هذا الوضع حتى بدأت حركة فلسطين الداخل تلفت نظر العالم منذ 1987 ومن وقتها صار فلسطينيو الداخل هم من يحركون الإرادة الفلسطينية التحريرية، واستند جهادهم إلى استخدام أساليب العنف تارة وأساليب شبه العنف تارة أخرى مثل " حركة الحجارة " وأضاف هذا العمل الداخلي أساليب جديدة إلى حركة المقاومة العربية بشكل عام، ثم أضيف غلى ذلك ما يصنعه مواطنو جنوب لبنان من أساليب الجهاد العنيف.

لذلك فإن ما صنعته منظمة التحرير لم يعد استسلاما لأن فلسطين لم تعد بالأمر الواقع مشخصة فيها وحدها، كما أن المعاهدات لم تفد إنهاء الصراع والأمر كله أمر استبدال أساليب بأساليب، وامر استبدال قوى سياسية بقوى اخرى.

ونحن لم نتعلم من التاريخ قط أن هناك حركة وطنية انتهت أو أنها صفيت دون أن يظهر بدليل لها من جنسها بوظائفها.

بقي أمر أساسي هو القدس، ونحن- مسلمين- ومسيحيين- مسئولون في هذا الشأن ، مسئولون أمام الله سبحانه ، وعلى كل منا أن يفكر كيف يتخيل في آخرته أن يكون رده على هذا السؤال " ماذا صنعت للقدس ؟" وليس دون المهج والأرواح ما يبرئ ذمة المسئول عند الحساب- لن يبرئه أقل من أين يكون بذل نفسه.

والحمدالله .

 

 

طارق البشري

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات