ثقافة المجتمع المدني والكفاءة الإعلامية

ثقافة المجتمع المدني والكفاءة الإعلامية

برزت في السنوات الأخيرة الدعوة إلى المجتمع المدني كمصطلح جديد على الوطن العربي، واختلفت المواقف منه، فهناك مَن يتحمس له وهناك من يتحفظ عليه.

جاءت الدعوة للمجتمع المدني أساسًا من هيئات قدمت مساعدات مالية لبعض مراكز البحث لدعم الفكرة ونشرها على نطاق واسع، وأن هذا النموذج قد تبلور ونضج في السياق الغربي الذي يختلف تمامًا سياسيًا واقتصاديًا واجتماعيًا وثقافيًا عن العالم العربي الذي يتميز بتاريخه الثقافي والاجتماعي الخاص. غير أن المؤيدين لفكرة المجتمع المدني ينطلقون من أن التطور العالمي الذي أعقب الثورة العلمية التكنولوجية وسقوط نظم الحكم الشمولية في المعسكر الاشتراكي الأوربي، وتراجع دور الدولة، وتزايد الاتجاه نحو الديمقراطية في ظل الصعود المتنامي للعولمة مما استلزم قيام تنظيمات غير حكومية تمارس نشاطًا يكمل دور الدولة ويساعد على نشر قيم المبادرة والجماعية والاعتماد على النفس، سعيًا لتجاوز مرحلة الاعتماد على الدولة في كل شيء، وكذلك لتصفية أوضاع اجتماعية وموروثات ثقافية لم تعد تلائم طبيعة ومتطلبات المرحلة الراهنة من التاريخ الإنساني.

وقد أخطأ البعض عندما تصوّر أن المجتمع المدني يقتصر فقط على تلك المنظمات غير الحكومية، التي تأسست حديثًا في سياق العولمة، ونشطت في بداية تأسيسها وفق أجندة خارجية حددت موضوعاتها مؤسسات التمويل الدولية الرأسمالية ومنظمات غير حكومية في الدول الرأسمالية المتقدمة تكنولوجيًا، وغاب عن هؤلاء أن المجتمع المدني يضم العديد من المنظمات الأهلية والجماهيرية وأن جذوره التاريخية تمتد في المجتمعات العربية إلى القرن التاسع عشر الذي شهد تأسيس الجمعيات الأهلية وبدايات القرن العشرين التي شهدت نشوء النقابات العمالية والمهنية، وكذلك الجمعيات التعاونية وبعض التنظيمات الأخرى مثل جماعات الطرق الصوفية، التي قد لا يتم تسجيلها ضمن مؤسسات المجتمع المدني، إلا أنها تعتبر من أهم مكوناته في العالم العربي، حتى الآن والشيء نفسه بالنسبة لجماعات أبناء القبائل.

والمجتمع المدني من حيث المبدأ هو مجمل التنظيمات الاجتماعية التطوعية غير الإرثية وغير الحكومية، وهي نسيج متشابك من العلاقات التي تقوم على تبادل المصالح والمنافع والتعاقد والتراضي والتفاهم والحقوق والواجبات والمسئوليات والإدارة السليمة للتنوع والاختلاف، وتختلف مؤسسات المجتمع المدني عن مؤسسات الدولة في أنها لاتمتلك حقوقًا قانونية لاستخدام القوة والعنف تجاه أعضائها، وبالرغم من أن المجتمع المدني يعلي من شأن الفرد، فإنه ليس مجتمع الفردية، بل على العكس مجتمع التضامن عبر شبكة واسعة من المؤسسات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والحقوقية.

مفهوم المجتمع المدني

نشأ مفهوم المجتمع المدني لأول مرة في الفكر اليوناني الإغريقي، إلا أنه تطور بعد ذلك مع نضج علاقات الإنتاج الرأسمالية في أوربا خلال القرن الثامن عشر وانقسام المجتمع إلى طبقات ذات مصالح متعارضة، وقد نجحت الطبقة الرأسمالية السائدة في بلورة آليات فعالة لإدارة الصراع الاجتماعي واحتوائه بما يضمن تحقيق مصالحها واستقرار المجتمع. وقد تحقق ذلك من خلال آليتين: آلية السيطرة المباشرة بواسطة جهاز الدولة وآلية الهيمنة الأيديولوجية والثقافية من خلال منظمات اجتماعية غير حكومية يمارس الأفراد في إطارها نشاطًا تطوعيًا لتحسين أوضاعهم الاقتصادية والاجتماعية والثقافية. وقد طرأت تغييرات عدة على خريطة المجتمع المدني في إطار النظام العولمي وسياسات التكيف الهيكلي التي قامت بتطبيقها المؤسسات المالية الدولية «صندوق النقد الدولي والبنك الدولي»، والتي عانت منها شعوب الجنوب خصوصًا في العالم العربي، حيث لوحظ أن هذه الخريطة ظلت حتى نهاية السبعينيات من القرن العشرين تتضمن منظمات أهلية تعبّر عن مصالح فئوية مثل النقابات العمالية والمهنية والاتحادات الطلابية والمنظمات النسوية والشبابية أو منظمات غير حكومية دفاعية أو جمعيات خيرية وثقافية واجتماعية أو أندية رياضية واجتماعية وثقافية، وكذلك الجمعيات التعاونية. لكن العولمة جاءت معها بقضايا ومشكلات جديدة مثل حماية البيئة من التلوث والهجرة واللاجئين وضحايا العنف والمخدرات والإرهاب وحقوق الإنسان وحقوق المرأة والطفولة وحقوق الأقليات الدينية والعرقية. وبحكم قوانين العولمة التي تستهدف تقليص دور الدولة ومسئولياتها في مواجهة هذه المشكلات، فقد سارع نشطاء المجتمع المدني في معظم المجتمعات العربية لمواجهة هذه المشكلات والتخفيف من حدتها، والتي تعود في الأساس إلى العولمة الرأسمالية وسياساتها. وقد أسفر هذا التحول في مسارات المجتمع المدني وأهدافه إلى بروز نمطين من المجتمع المدني أحدهما أهلي جماهيري، والآخر نخبوي يستهدف التخفيف من حدة المشاكل الناجمة عن سياسات التكيف الهيكلي، والتحول إلى اقتصاد السوق والاندماج في الاقتصاد الرأسمالي العالمي. وينحصر دور هذه المنظمات النخبوية في تقديم الرعاية للفقراء والمحتاجين وإشباع حاجات خدمية مما لا يؤدي إلى تغيير الأوضاع، بل يعيد إنتاج الأوضاع القائمة بما فيها من فقر وبطالة وتهميش وغياب للعدالة المجتمعية، وتؤكد تقارير البنك الدولي السنوية هذه الرؤية للمجتمع للمدني حيث تعتبره القوة المحرّكة لنشاطات ونمو القطاع الخاص، ولا تنظر إليه باعتباره إطارًا مناسبًا للمساهمة في التحول الديمقراطي للمجتمع أو لإمكان قيامه بدور تغييري تنموي شامل.

وتختلف درجات التعاون أو التوتر بين الحكومات والجمعيات الأهلية باختلاف الأقطار العربية وباختلاف مجالات النشاط، فالتعاون يزداد بين الحكومة والمنظمات التي تسهم في مساندة السياسات والمشروعات الحكومية، بينما ترتفع حدة التوتر بين الحكومة والمنظمات عندما تتجاوز هذه المنظمات الخطوط الحمراء التي وضعتها الحكومة، ومن أمثلة ذلك العلاقة بين بعض الحكومات العربية ومنظمات حقوق الإنسان. وقد استخدمت الحكومات أكثر من آلية لضمان سيطرتها على مؤسسات المجتمع المدني. ولعل أبرزها آلية التشريع التي تتضمن قيودًا عدة على إنشاء ونشاط هذه المنظمات بما يكفل للحكومات إحكام قبضتها القانونية والإدارية، التي لا تقتصر على شروط التأسيس المجحفة، بل تشمل سلطة الإشراف والرقابة والحل التي تتمتع بها الدولة في مواجهة هذه المنظمات.

موقف الحكومات العربية

ويؤكد موقف الحكومات العربية من مؤسسات المجتمع المدني أنها لاتزال تدير تفاعلات المجتمع بعقلية أحادية لا تحتمل التعددية الديمقراطية وبآليات الاحتكار للقوة السياسية ولصناعة القرار، وهنا يطرح السؤال: هل يمكن قيام مجتمع مدني في ظل الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية والسياسية والتيارات الفكرية والثقافية. وقد اتسع نطاق المجتمع المدني المنظم من 02 ألف مؤسسة في منتصف الستينيات إلى 07 ألفا في أواخر الثمانينيات، ومع ذلك فهي تعاني في مجملها القيود والعوامل الناجمة عن تعثر التحول الديمقراطي في الوطن العربي، وتتفاوت أوضاع هذه المؤسسات من بلد عربي لآخر باختلاف النظم السياسية، ففي الدول التي تشهد تعددية سياسية وحزبية مقيدة مثل مصر والأردن والمغرب ولبنان واليمن وتونس والجزائر، هناك اتجاه لنمو الجمعيات الأهلية أكثر من النظم السياسية المحافظة التي تسود في منطقة الخليج العربي، حيث يلاحظ انخفاض عدد ونوعية المنظمات الأهلية، وتكاد تختفي جمعيات حقوق الإنسان، ويتجه جزء كبير من هذه الجمعيات إلى العمل الخيري الذي يرتبط بالوازع الديني، كما هو الحال في السعودية والبحرين والكويت والإمارات، وهناك دول لا تسمح بتأسيس منظمات أهلية تعكس مبادرات المواطنين، ولكنها تؤسس لجانًا شعبية تمثل امتدادًا لسلطة الحكومة مثل ليبيا أو تؤسس اتحادات توعية تهيمن عليها الدولة مثل العراق قبل الاحتلال.

ساحة الصراع

إذا كان المجتمع المدني يعني من وجهة نظر الطبقات الحاكمة وسيلتها لاستكمال سيطرتهاعلى المجتمع من خلال آلية الهيمنة الأيديولوجية الثقافية، حيث لا تسعفها آلية القمع باستخدام أجهزة الدولة في إحكام قبضتها الكاملة على المجتمع، فإن المجتمع المدني من وجهة نظر الطبقات المحكومة ساحة للصراع تستطيع من خلاله أن ترسي حقوقها في المواطنة بما يضمن لها المشاركة الفعالة في إدارة شئون المجتمع في اتجاه توسيع الهامش المتاح لها للحركة والتأثير وبلورة آليات ديمقراطية تسمح بتسوية المنازعات سلميًا، وتعمّق عملية النمو الديمقراطي للمجتمع. وفي ضوء ذلك، يتضح لنا أن المجتمع المدني لا ينشط فقط لوجود هياكل تنظيمية تستقل رسميًا عن الحكومات، فلا قيمة لهذه التنظيمات في حد ذاتها ما لم تعززها، بل تسبقها ثقافة مواكبة تشدد على ضرورة التزام السلطات الحاكمة باحترام حق المواطنين في التنظيم والاجتماع والتفكير والتعبير. بمعنى آخر لا يمكن لمؤسسات المجتمع المدني أن تكون فاعلة دون إطار ثقافي يساعد في ترسيخ قيم الممارسات الديمقراطية ومبادئها. فإذا كان من الصعب للديمقراطية كبنية وآليات وقواعد أن تنضج وتترسخ على مستوى الممارسة السياسية، إلا في ظل بنية ثقافية تقوم على المساواة، وحرية العمل السياسي لكل القوى والشرائح الاجتماعية والسياسية، فإن مؤسسات المجتمع المدني باعتبارها أبرز أدوات العمل السياسي، لا يمكن أن تكون فاعلة في سياق العملية الديمقراطية دون إطار

ثقافي يساعد في ترسيخ قيم الممارسة الديمقراطية ومبادئها. ويقودنا هذا إلى استعراض المشهد الثقافي في الوطن العربي الذي يشير إلى وجود ثلاثة أنواع من الثقافات التي تتداخل وتتشابك وتتلاقح وتتمثل أولاً في ثقافة الخضوع الناتجة عن طبيعة المجتمع العربي البطريركي «الأبوي السلطوي»، والتي نمت في إطار مؤسساته التعليمية والدينية والسياسية، حيث تغلب الطاعة والامتثال، ولا تسمح باستقلال الفرد عن الجماعة، ولا تسمح ببروز فكر نقدي وإبداعي. ويسود هذا النمط الثقافي في جميع الدول العربية دون استثناء. أما النمط الثاني فهو يتمثل في ثقافة التبعية التي تكرّس التقليد للثقافة الغربية بشقيها الفرانكوفوني والأنجلوأمريكي. ويشيع هذا النمط ويتكرّس من خلال وسائل الإعلام العربية والأجنبية حيث يسود بين النخب السياسية والثقافية في العالم العربي.

ثقافة المشاركة

ويشمل النمط الثالث في ثقافة المشاركة التي تعد ركيزة العمل الأهلي، وتشهد تراجعًا ملحوظًا في الوطن العربي في ظل هيمنة البنى السياسية السلطوية، وسيادة ثقافة الاستتباع للسلطة ولمنظومة القيم التراثية التقليدية. وهذا يعني أن نمط الثقافة السائدة في معظم المجتمعات العربية يسير في الاتجاه الذي يعوق ظهور مؤسسات المجتمع المدني، بل يصادر نشاطها إذا وجدت. ويدعم هذه البنية الثقافية التي تتميز بالخضوع والولاء للسلطة والتبعية للخارج الواقع الاقتصادي والاجتماعي السائد في الوطن العربي، إذ يهيمن على الاقتصاد العربي قطاعان لايقومان على المأسسة، ولا يدفعان إلى تكوين مؤسسات أهلية أولها قطاع الزراعة، التي تكرّس هيمنة الطابع البدوي الريفي بتقاليده وسلوكياته وعلاقاته وقيمه وفكره، وثانيهما الاقتصاد الريعي الذي يأتي من عائدات النفط والعمال والمهاجرين والهبات والقروض ويقع تحت تصرف الدولة حيث تنفق منه في حماية نفسها وتعزيز سلطتها وتقوية أجهزتها وتمول منه المشروعات العامة والخدمات الاجتماعية، فضلاً عن أجور الموظفين مما يجعل يد الدولة هي العليا في كل المجالات. وإذا أضفنا إلى هذا وذاك هروب الأموال الوطنية إلى الخارج واقتصار ما يتبقى منها في الداخل على المشروعات الصغيرة التي تدر الربح السريع، أدركنا كيف أن الوضع الاقتصادي العام في الوطن العربي لا يعزز من خلال آلياته الذاتية ما يكفي من البنى والمؤسسات التي تعطي المجتمع الطابع المدني الحديث، وتجعل الديمقراطية السياسية اختيارًا يفرض نفسه، ليس فقط بفعل نضالات المواطنين، بل أيضًا بضغط قوة الواقع المؤسساتي المتنامي، فضلاً عن أن واقع الحال في بعض المجتمعات العربية يشير إلى أن انسحاب الدولة قد تسبب في تصاعد دور قطاع رجال الأعمال والمال على حساب بقية قطاعات المجتمع، كما أن هذا الانسحاب لم يقترن برفع سيطرة الدولة عن الكثير من مؤسسات المجتمع المدني كالاتحادات والنقابات المهنية والعمالية والمنظمات الأهلية. ولذلك لن تنمو مؤسسات المجتمع المدني إلا إذا رفعت الدولة القطرية قبضتها عنها، وسمحت لها بأن تمارس مهامها ووظائفها في إعداد وتربية المواطنين من خلال إشاعة ثقافة مدنية ترسي قيم العمل التطوعي والعمل الجماعي وقبول الاختلاف بوسائل سلمية, في ضوء قيم الاحترام والتسامح والتعاون والتنافس والصراع السلمي, مع الالتزام بالمحاسبة العامة والشفافية وما يترتب على هذا كله من تأكيد قيم المبادرة الذاتية وثقافة بناء المؤسسات. وهذه القيم تشكّل في مجملها جوهر الفكر الديمقراطي. ويمكن القول في هذا الإطار إن من أهم معايير قياس فاعلية منظمات المجتمع المدني: القدرة على فهم واستيعاب ونقد الأطروحات السائدة في الحضارة الغربية، والتي تدعو إلى التعددية الثقافية ومشروعية أن تؤدي مختلف الثقافات دورها في إنتاج ثقافة وتقاليد

مشتركة حول الحقوق الجماعية للشعوب وللأفراد التي يؤكد عليها الجيل الثالث من حقوق الإنسان مثل حق التنمية من خلال المشاركة والسلام والبيئة والإعلام والجماعات المهمشة مع مراعاة ضرورة قيام منظمات المجتمع المدني بالتأكيد على أن هناك مصادر أخرى لثقافة المجتمع المدني غير المرجعية الغربية بروافدها الأوربية والأمريكية. وهنا يجدر الإشارة إلى جهود منظمة اليونسكو التي ركزت من خلال عقد التنمية الثقافية على مجموعة أهداف تتمحور حول

أهمية تدعيم التعاون الثقافي الدولي في إطار ثورة الاتصالات التي أزالت الحواجز بين البشر والثقافات المختلفة، وطرحت بشدة الجدل والصراع الأيديولوجي والثقافي حول قضية العالمية والخصوصية.

ويقودنا هذا إلى ذكر معيار آخر لقياس فاعلية الجمعيات الأهلية، وهو الكفاءة الإعلامية والاتصالية في نشر قيم المشاركة والتنمية الثـقـافـية وتفعيل المبادرات الشعبية المستقلة وتنظيمها، وأعني بالكفاءة الاتصالية لمنظمات المجتمع المدني القدرة على تجاوز الأدوار التقليدية للإعلام بالسعي أولا لصياغة أجندة أولويات وطنية تنبثق من الضرورات الاقتصادية والثقافية والتحديات السياسية والمجتمعية, تكون قادرة على مواجهة أنماط الثقافة المتغربة، ولا تتورط في الانسياق لأولويات الأجندة الغربية، وأرى أن هذه هي الرسالة الثقافية الأساسية لمنظمات المجتمع المدني المحملة بمضامين التغيير والمحفزة للمشاركة الشعبية والتي يمكن بثها إلى الجمهور من خلال وسائل الاتصال والإعلام المقروءة والمرئية والمسموعة.

 

عواطف عبدالرحمن