إن إعادة تصور الماضي كما وقع عملية متعذرة لطبيعة المعرفة التاريخية
التي تتحكم فيها مواصفات الحادثة التاريخية التي ننشدها ونسبية الحقيقة التي نبحث
عنها ومستوى الموضوعية التي نحاول الالتزام بها وجدلية الحركية التاريخية التي
نحاول تلمسها والتعبير عنها.
وتتميز «الحادثة التاريخية» بكونها فعلاً منفردًا لا يقبل المعاينة من
طرف الباحث، فهي ظاهرة فردية تحدث مرة واحدة في زمانها ومكانها وظروفها، لا تتكرر
ولا تعيد نفسها ولا تخضع للتجربة أو الملاحظة المباشرة. فكل ما نعرفه عنها هو مصدر
غير مباشر وغير كامل نستخلصه من بقايا آثار مادية أو سجلات مكتوبة أو روايات شفوية،
غالبًا ما تكون عرضة للتلف أو الضياع أو التزوير، بحيث يتعذر معها تطبيق القياس أو
التعداد أو التعميم، فكل ما نملكه إزاءها هو الملاحظة غير المباشرة، ولم يتعد مستوى
التعميمات والفرضيات خاصة فيما يتعلق بملء الفجوات واستكمال الجوانب الناقصة في
معرفتنا للأحداث التاريخية.
ومادام تحديد مواصفات الحادثة التاريخية شيئًا متعذرًا لطبيعة الحادثة
نفسها، فإنه يتوجب علينا في تحديدنا للنص التاريخي أن نأخذ بعين الاعتبار أبعاد
«الحركة التاريخية» حتى لا تتحول معالجتنا للنص التاريخي إلى عرض قصصي لا يأخذ في
الاعتبار تفاعل الإنسان مع بيئته واستجابته لحاجاته وتجاوبه مع متطلبات عصره، وحتى
نبعد أيضًا عن التاريخ صفة الثبات والجمود التي تجعل من الأحداث التاريخية مجرد
منظر لصورة ساكنة أو مشهد جامد.
فالفعل الإنساني بصفته نبضًا حيًا لسلوك الأفراد وحياة الشعوب في
تفاعلهم مع كل ماحولهم من مظاهر وما يجد من ظروف محيطة، يتحقق من خلال «جدلية
الحادثة التاريخي» التي هي حصيلة تفاعل ثلاثة عناصر هي: 1 - الإنسان: صانع الحدث
والمؤثر فيه بسلوكه ومواقفه سواء كانت بدائية أو متطورة، سلبية أم إيجابية. 2 -
البيئة أو الوسط: وهو الأرضية التي يتحقق عليها الفعل التاريخي ويتأثر بشروطها
ومواصفاتها. 3- الزمان: وهو الحيز الذي تتحقق فيه الحركية التاريخية وتخضع أثناءه
للتغيير والتحول. وهذا ما جعل التاريخ في أساسه علمًا متزامنًا إن لم يكن هو الزمن
في حد ذاته كما هو الحال عند كتاب الحوليات ومسجلي الأخبار.
نسبية الحقيقة التاريخية
تتحكم في الحقيقة التاريخية طبيعة الحادثة التاريخية التي لا تكرر
نفسها ولا يمكن التعرف عليها إلا من خلال ما يصلنا من بقايا مادية أو تسجيلات
مكتوبة أو روايات شفوية، وهي على الرغم مما تتصف به من أصالة ومعاصرة للأحداث، ومع
إخضاعها للنقد والتمحيص، تظل في نظرنا عاجزة عن تصوير الحقيقة التاريخية بجميع
جوانبها وأبعادها ودلالاتها، وهذا ما يجعل الحقيقة التاريخية الكاملة الشاملة
متعذرة تعذر إعادة الحياة للأحداث التي وقعت في الماضي. وتصبح معه الإحاطة بجميع
أبعاد المعرفة التاريخية والتعرف على مختلف أسبابها وظروفها ومظاهرها وجزئياتها
شيئًا جزئيًا وأمرًا نسبيًا.
فعلى الرغم من سعي المنهج التاريخي لتلمس دقائق الحادثة التاريخية،
إلا ن هناك فرقًا بين الأعمال والمنجزات التي وقعت في الماضي وبين رواية تلك
الأعمال والمنجزات، وهذا ما يجعل الحادثة التاريخية ومن خلال أحداث الماضي لاتوجد
إلا من خلال الشكل الذي تصور به، أي في الصورة التي أعاد تشكيلها المؤرخ لأحداث
التاريخ. وهذا ما يتوجب معه الإقرار بأن كل ماكتب أو يكتب عن أحداث الماضي هو ليس
ما وقع بالفعل وإنما هو ما تصوره المؤرخ من خلال ذاته وظروف زمانه وشروط مكانه.
وبذلك تظل الحقيقة التاريخية أمرًا مستحيل التحقيق، ومقاربتنا للماضي
نسبية تتحكم فيها المصادر المتوافرة والمنهج المعتمد في معالجتها.
إن قصارى جهدنا في مقاربتنا للحقيقة التاريخية هو محاولة الاقتراب
منها بالبحث عن المزيد من مصادرها ومظانها وإخضاع مادتها لمنهج البحث التاريخي
القائم على النقد والتمحيص مع الحرص على تحري جوانب الصحة فيها واتخاذ جميع
الاحتياطات الموضوعية لتكوين فكرة عنها. وهذا ما يسمح لنا بالقول إن ما نعرفه عن
طريق الوثائق ليس هو ما حدث بالفعل بل هو قريب مما حدث بالفعل، وأن ما وصل إلينا هو
شبيه جدًا بما وقع فعلاً، وأن على المؤرخ في هذه الحالة أن يقرر رجحان صحة الحدث
أكثر من تقريره للحقيقة، فعليه أن يميز بين الحقائق التاريخية العامة العرضية
والحقائق الثابتة التي لها صفة الديمومة وكان لها أبرز الأثر على التطورات التي أتت
بعدها.
وما دامت معطيات الحقيقة التاريخية هكذا فإنه لا يحسن بنا أن نجزم بأن
ما نكتبه من نصوص أو نتوصل إليه من معلومات تاريخية يعكس أحداثًا تاريخية ثابتة
وصحيحة مادامت المعرفة الكاملة في التاريخ غير موجودة، بل هي نسبية ومتغيرة بتغير
وسائل البحث والتنقيب، بل يتوجب علينا والحالة هذه أن نسلم بالفرق بين العلم
التجريبي الذي يصل في الحقيقة إلى درجة يقينية، والعلم القائم على الملاحظة كما هو
الشأن في التاريخ حيث الحقيقة التي يسجلها أقل بكثير من درجة اليقين التي يتوصل
إليها علماء الطبيعة، لأن الفرق بينهما - كما عبر عن ذلك كروتشه - كالفرق بين
الواقع والممكن.
محدودية الموضوعية التاريخية
مادامت الأحداث التاريخية تتعلق بماضي الإنسان وأحوال البشر يرصدها
المؤرخ ويسجلها من خلال ذاته وثقافته، فإنه لا يمكن الوصول فيما نكتبه إلى
الموضوعية المجردة، فهي شيء متعذر مادامت الموضوعية في حد ذاتها محكومة بالشروط
الإنسانية التي ترفض تجريد العقل من الواقع الذي يعيشه وتحويله إلى ظواهر مادية
وتصرفات آلية لا تأخذ في الاعتبار المواقف الشخصية والروابط الروحية والصلات
الاجتماعية. وإنه من سخف القول الادعاء بأنه في إمكاننا تحقيق الموضوعية المجردة
والالتزام بالحدود القصوى للأمانة في عرض الأحداث والنزاهة في الحكم عليها والتجرد
من الميول والحياد والإنصاف في تقييم نتائجها.
ومادامت الموضوعية في التاريخ نسبية فإن على الباحث أن يحاول قدر
المستطاع أخذها بعين الاعتبار، باحترام المنهج التاريخي في كتابة النص التاريخي
وتحليل الأحداث المتعلقة به. على أن هذا المسعى في الواقع هو أقرب إلى الأمنية منه
إلى الواقع لأنه لا يمكن إلغاء شخصيتنا والتنكر لظروفنا وقيمنا الثقافية.
إن موقفنا من الأحداث بالضرورة متأثر بل ملون بالنظرة الشخصية، فمن
المسلم به أن أي إنسان لا يستطيع الحكم على أشخاص أو نظم أو سياسات أو إنجازات إلا
بمقدار رأيه هو وإلى حد ما بمقدار آراء الآخرين فيها، وإن مسألة الأخذ بالعلية أو
السببية. والدوافع في تغير الأحداث هي مسألة اقتناع داخلي أكثر من كونها استنتاجًا
منطقيًا قائمًا على الدليل المباشر المسلم به.
إن الميول الشخصية وملابسات وظروف الحادثة التاريخية وتعدد وتشابك
وتنوع أسبابها ونتائجها تجعل قيمة النص التاريخي مستمدة من قيمة صاحبه وموضوعيته
محددة بمؤهلاته وميوله ومواقفه، وهذا ما يوجب على كاتب النص التاريخي أن يسعى قدر
المستطاع الأخذ بقواعد المنهج التاريخي كما يتوجب عليه الحذر من الغايات التربوية
والأخلاقية في التاريخ، وعدم إخضاع المعلومات التاريخية لهدف أيديولوجي أو غرض
سياسي، لأن عرض الأحداث وتحليلها في معزل عن الميول والضغوط والأوامر والإيحاءات هو
أفضل سبيل للاقتراب من الموضوعية التي ننشدها والحياد والتجرد اللذين نسعى
لتحقيقهما.
كيف نفسر التاريخ؟
إن المعلومات التاريخية تحمل بالضرورة دلالات وقيمًا وتعبر عن مواقف
وتوجهات فكرية ومفاهيم فلسفية، مما أوجد رابطة قوية بين المضمون التاريخي والمفهوم
الفلسفي، بحيث أصبح من المتعذر على الباحث في التاريخ أن يتعرف على وجهة الأحداث
والدلالات التي تعبر عنها من دون الأخذ في الاعتبار المنظور الفلسفي المتعلق بتطور
تلك الأحداث، وبالمقابل يتعذر على المشتغل بالفلسفة تحليل الأفكار وتعليل أطروحاته
من دون التعرف على خلفيتها التاريخية.
وفي هذا التوجه يصبح لزامًا على المتعامل مع الحدث التاريخي الأخذ
بمبدأ السببية أو العلية في تفسيره للأحداث، كما يتطلب منه التعرف على التوجهات
والأفكار المفسرة للتاريخ أو المتعلقة أساسًا بصيرورته، وفي كلتا الحالتين يتوجب
الحذر من تبني مبدأ السببية حرفيًا أو الانسياق وراء المدارس المفسرة للتاريخ، وذلك
حتى لا يتناول المؤرخ الأحداث بفكرة مسبقة أو يعالجها بنظرة إجمالية أو يعرضها من
خلال توجهات فكرية غالبًا ما تتصل بالتبسيط والتعميم وتميل إلى الحدس والتخمين.
وهذا ما يتطلب منا عرض هذه الآراء المفسرة للأحداث والتوجهات الفكرية
المتعلقة بالتطور التاريخي لارتباطها بتحليل وتقييم دلالات الحدث التاريخي، وهذه
الآراء والتوجهات يمكن إجمالها في النقطتين التاليتين:
السببية أو العلية
تهتم بتفسير أحداث الماضي وتعليلها وتحديد العوامل التي تسببت فيها،
منها ما يأخذ بالسبب الواحد على حساب العوامل الأخرى، ومنها ما يرجع إلى العوامل
المتعددة. فالصنف الأول المعروف بالنظرة «الواحدية» في تفسير التاريخ يعبر أصحابه
عن ميل ذاتي أو فكرة مسبقة لا ترى أحداث التاريخ إلا من خلال قناعاتها، وهذا ما ميز
المدارس التاريخية الأوربية الملتزمة في القرن التاسع عشر، هذه المدارس التي كانت
تعتمد على قراءة انتقائية لأحداث التاريخ، فلا تثبت منها سوى ما يؤكد رأيها ويدعمها
فكريًا، مما جعلها أثناء القرن العشرين محل رفض من عامة المؤرخين وموضوع نقد من
أغلب الباحثين، فلم يعد يأخذ بها سوى أصحاب الاتجاه الملتزم والموجه في قراءة
التاريخ خاصة ذوي الأفكار اليسارية وأصحاب المفاهيم الدينية.
هذا، ولعل أهم الاتجاهات التي تأخذ بالنظرة الواحدية في تفسير أحداث
التاريخ دعاة الفكرة القائلة إن التاريخ هو من صنع البطل أو أنه تعبير عن إرادة
الجماعة أو حصيلة تطور وسائل الإنتاج.
فالقائلون بفعل البطل في التاريخ أو بإرادة الأمة في دفع عجلة التطور
كان تفسيرهم للتاريخ استجابة للتوجهات المثالية والميول الرومانسية والعواطف
القومية في أوربا في القرن التاسع عشر. فقد ساد الاعتقاد لدى شرائح واسعة من
المجتمعات الأوربية آنذاك بأن القوة الدافعة للتاريخ تكمن في التقاليد وتصدر عن
العواطف الإنسانية وتعبر عن وعي الشعوب بذاتها وسعيها لتحقيق مطالبها القومية
وتعزيز وسائل وجودها، وأن هذه القوة الدافعة التي تتسبب في تطور التاريخ تعبر عن
نفسها في دور البطل في صنع الأحداث، سواء كان هذا البطل كاهنًا أو ملكًا أو زعيمًا
أو قائدًا أو مفكرًا أو مخترعًا أو غيره من الأشخاص المميزين، كما ذهب إلى ذلك
الكاتب الإنجليزي توماس كارلايل (Thomas Carlyle) (1795 - 1881) في تفسيره لأحداث
التاريخ. كما أن هذه القوة الدافعة للتاريخ تعبر عن نفسها أيضًا من خلال عمل
الجماعة وإرادة الأمة حسبما حاول المؤرخ الفرنسي جول ميشلي (Jules Michilit) (1798
- 1874) التعبير عنه في تفسيره لتطور الدولة في فرنسا ولأحداث الثورة الفرنسية.
أما القائلون بكون النشاط البشري المتحكم في سير التاريخ يسيره ويوجهه
تطور قرى الإنتاج وما ينتج عنه من علاقات اقتصادية، فقد تبنوا حرفيًا مفهوم
«المادية التاريخية في تفسير التاريخ»، والتي تحولت إلى مدرسة قائمة في كتابات لدى
كارل ماركس (Karl Marx) (1818 - 1883) الذي جعل الفعل التاريخي يفسر بنظرة واحدية
قوامها دورة تصاعدية لعملية الإنتاج، تطور فيها الإنسان من مجتمع بدائي مشاع إلى
مجتمع العبودية ثم إلى نطاق الرق قبل أن ينتقل إلى المجتمع الرأسمالي «المركانتيلي»
أو التجاري في القرن السادس عشر ويتحول إلى الاقتصاد الصناعي في القرن التاسع عشر،
ليصل بعد ذلك إلى المجتمع الاشتراكي ومنه سوف ينتقل إلى المجتمع الشيوعي الذي ظل
حلمًا يراود عقول أصحاب هذه النظرة.
أما الصنف الثاني من السببية التاريخية فيأخذ بالعوامل المتعددة في
تفسير التاريخ على اعتبار أن أحداث التاريخ تتضافر عدة عوامل على تحقيقها من حيث
أسبابها وتفاعلها ونتائجها، مما يتطلب تلمس مختلف الأسباب والتعرف على ملابسات
الأحداث انطلاقًا من ظروف العصر وشروط البيئة وقدرات الفرد ووجهات الجماعة، بحيث لا
يهمل أي سبب ولا يتجاوز أي عامل سواء كان اقتصاديًا أم فكريًا أم جغرافيًا أم
روحيًا أو غيره من العوامل التي لها تأثير في تفسير الحادثة التاريخية سواء في
مظاهرها أو نتائجها.
إن النظرة المتعددة العوامل في تفسير أحداث التاريخ أصبحت تمثل
الاتجاه السائد في قراءة التاريخ وتحليل أحداثه، لكونها تتماشى والتوجه الوضعي في
دراسة التاريخ الذي يخضع التاريخ لشروط البحث العلمي، ولا يأخذ في الاعتبار سوى
الأحداث التي تثبتها الوثائق الخاضعة للتحليل والنقد، بعيدًا عن التجريد العقلي
والمفاهيم الفلسفية التي تميزت بها المدارس التاريخية الملتزمة في أوربا في القرن
التاسع عشر.
إن هذا التوجه الوضعي لمعالجة التاريخ الذي يرفض أي ارتباط بين البحث
التاريخي والتفسير الفلسفي ويسعى إلى تخليص الوثائق التاريخية من كل زيف أو فهم
خاطئ، بلوره ووضع قواعده مؤرخون فرنسيون وألمان اشتهر منهم خاصة كل من فون رانكه
(L.Von Ranke) (1886 - 1795) وفوستال دو كولانج (Fustil de Coulanges) (1830 -
1889).
الصيرورة التاريخية
تقوم التوجهات الفكرية المفسرة للتاريخ على اعتبار أن التاريخ في حد
ذاته، نظرًا لمواصفات الحادثة التاريخية، يعمل في نظام متكامل يستوجب تفسيره توجهه
والتساؤل عن نهايته.
وحتى لا نغرق في تفاصيل المفاهيم الفلسفية والتوجهات الفكرية المتعلقة
بتفسير التاريخ، فإننا نقتصر في هذا العرض على الإشارة إلى أهم التوجهات التي يتوجب
على المؤرخ المتقيد بمنهج البحث العلمي الاطلاع عليها وأخذ جانب الحيطة والحذر
منها،حتى لا يسقط في صياغته للنص التاريخي فيما يعتبر في مجال البحث التاريخي من
قبيل المحظورات، خاصة مايتعلق منها بالتعميم واستشراف المستقبل وتبني الأفكار
المسبقة والأحكام الجاهزة. فمن أهم هذه التوجهات المفسرة للتاريخ:
التوجه الديني
يعتمد على فكرة الغيبية ويأخذ بمفهوم «العناية الإلهية» (Providence)
المتحكمة في مصير الإنسان والموجهة لشئون البشر، حسبما ذهب إليه القديس أوغسطين
(Saint Augustin) (354 - 430) في كتابه «مدينة الله» (10). وقد ظل العقل الأوربي
منشدًا إلى فكرة العناية الإلهية طيلة العصور الوسطى، كما حاول رجل الدين الفرنسي
جاك بوسويه (J. Bossuet) (1627 - 1704) الدعوة لها في كتاباته التاريخية، بعد أن
سفه مقولاتها كتاب عصر النهضة (ق.16م).
فرضته النزعة الإنسانية لعصر النهضة الأوربية (ق.15 - 16م) (12)،
فاتخذ في تفسيره للتاريخ نظرة سياسية نفعية عبر عنها نيكولو ماكيافيلي
(N.Macchiavilli) (1469 - 1527) في كتابيه «المطارحات» و«الأمير»، أو توجهًا نقديًا
عبر عنه لورانزو فالا (L.Valla) (1406 - 1457) خاصة في نقده لوثيقة «هبة قسطنطين»
(1440) الذي تميز بالعرض الدقيق والوصف الحي والتحليل العميق للأحداث التاريخية في
كتابه «تاريخ إيطاليا».
التوجه التحرري:
يدعو في دراسته للتاريخ إلى التحرر من قيود التقاليد ويؤمن بسيادة
العقل ويثق في قدرات الإنسان على صياغة مستقبله لتحقيق التقدم والوصول إلى الكمال
في حياته. وقد مهّدت أفكار هوبز ولوك حول المجتمع الطبيعي لهذا التوجه الذي أصبح
تيارًا مؤثرًا في الثقافة الأوربية في القرن الثامن عشر (عصر التنوير) بفضل جهود كل
من فولتير (Voltaire) (1694 - 1778) وديدرو (Diderot) (1713 - 1784) وكوندورسي
(Condorcet) (1743 - 1974) ومونتيسكيو (Montesqieu) (1689 - 1755).
التوجه العقلي:
يعتمد على التحليل النظري ويحاول عقلنة حركية التاريخ بتجاوز البحث في
مظاهر الأحداث إلى محاولة فهم دوافعها الكامنة. أخذ به الفلاسفة المثاليون بألمانيا
خاصة وفي مقدمتهم فيخته (J.Fichte) (1762 - 1814) وشوبنهاور (Schopengauer) (1788 -
1860) وهيجل (Hegel) (1770 - 1831). فقد عرض هذا الأخير (هيجل) تفسيرًا متكاملاً
للتاريخ من خلال جدلية تاريخية تقوم على مبدأ صراع الأضداد، بحيث تغدو صيرورة
التاريخ وتطور الأحداث مرتبطة بفكرة الوعي بالذات ويغدو الفعل الإنساني من خلال سير
التاريخ مرتبطًا بفكرة الحرية ومحاولة تموضع الروح في توقها للكشف والإفصاح عن
نفسها. يركز في دراسته لأحداث التاريخ على تطور وتعاقب الحضارات من حيث خصائصه
والأدوار التي تمر بها، وقد كان في طليعة من أخذ بهذا التوجه المؤرخ العربي
عبدالرحمن بن خلدون الذي اعتبر بأن الشعوب من خلال أنظمة الحكم التي تعرفها تعيش
دورة تاريخية مغلقة أساسها بفعل العصبية، فتنشأ الدولة بدافع العصبية وتبلغ أوجها
مع مرحلة القوة «الملك العضود» وبعدها تضعف بفعل انحلال رابطة العصبية وشيوع حياة
الترف، وتتغلب عليها عصبية أخرى تمر بدورها بالمرحلة نفسها وهكذا دواليك.
وأخذ بهذا التوجه في أوربا المفكر الإيطالي فيكو (J.B.Vico) (1686 -
1744) الذي اعتبر بدوره أن التاريخ يتطور في دورات متجددة تعيش فيها الشعوب «رحلة
الآلهة» المتمثلة في الإيمان بالأفعال الغيبية، و«مرحلة الأبطال» التي تسودها
البطولة والاندفاع، لتتبعها بعد ذلك «مرحلة البشر» التي تنتشر أثناءها المعارف
وتخضع فيها المجتمعات للقوانين الوضعية. هذا ويلحق بهذا التوجه الحضاري في تفسير
التاريخ المؤرخ البريطاني أرنولد توينبي (1889 - 1975) الذي درس الحضارات الإنسانية
وحاول تفسيرها من حيث نشأتها واضمحلالها بعاملي التحدي ورد الفعل.