ثقافة الاختلاف: نحو تأصيل المفهوم

ثقافة الاختلاف: نحو تأصيل المفهوم

يقصد بالاختلاف في السياق المطروح هنا «الاختلاف الثقافي» أي اختلاف ثقافة عن أخرى بوصفها ظاهرة محسوسة، وتشهد بها سمات عدة في الثقافة نفسها أبرزها اللغة والمعتقدات والتاريخ والتقاليد والمنتجات المعرفية والذوقية.

«الاختلاف» مفردة شائعة اكتسبت بعدًا مفهوميًا واصطلاحيًا نتيجة جهود بعض المفكرين الذين أسهموا في تعبئتها بحمولة دلالية معرفية جديرة بالاهتمام، وإن لم يفعلوا ذلك دائمًا من خلال المفهوم نفسه أو تحت مسمى «الاختلاف». فالمفهوم الذي اكتسب بعدًا اصطلاحيًا تداوليًا نتيجة تلك الجهود، صار ذا صلة بمفاهيم رديفة تثريه بطريقة غير مباشرة. من تلك المفاهيم، مفهوما «التحيز» و«التأصيل» اللذين عمل عليهما عدد لابأس به من الباحثين، سواء العرب أو غير العرب، كل من زاويته الشخصية ومهاده الثقافي بطبيعة الحال. كما أن المفهوم متصل صلة وثيقة بحقول بحثية شهدت في السنوات الأخيرة تطورًا ملحوظًا مثل الدراسات ما بعد الاستعمارية والنسوية ونظريات التلقي وغيرها إلى جانب حقول عريقة مثل الدراسات الاجتماعية والنفسية بتفريعاتها النظرية وأجهزتها المفهومية والمصطلحية.

الافتراض هنا هو أن ذلك مما يصدق على الثقافات الإنسانية كافة، لأن كونها ثقافات وليست ثقافة واحدة يقتضي منطقيًا أنها تتسم بقدر كاف من الاستقلال أو الاختلاف يبرر استخدام صفة الجمع، لكن في الوقت نفسه لاشك أن الاختلاف أو التباين ليس على قدر واحد، تمامًا مثلما أن التجانس ليس على درجة واحدة. فالعلاقة - مثلاً - بين الثقافتين الإنجليزية والفرنسية غير العلاقة بين إحدى تلكما الثقافتين والثقافة الصينية، الأوليان تتمتعان بقدر عال من التجانس، في حين تختلفان معًا اختلافًا جذريًا في بعض الوجوه عن الثقافة الصينية. وكذلك هي العلاقة بين الثقافتين العربية والفارسية في درجة قربهما بعضهما من بعض من ناحية، وبعدهما من ناحية أخرى عن ثقافات أخرى كالألمانية أو اليابانية أو غير ذلك. فالاختلاف أساسي لوجود الثقافة، لكنه يزيد وينقص تبعًا لعوامل كثيرة، منها التاريخي والجغرافي والثقافي البحت. ومحصلة هذا هي أن الاختلاف والتجانس متغيران تبعًا لظروف كثيرة.

الاختلاف المشار إليه كان - كما سبقت الإشارة قبل قليل - موضوع بحث من زوايا مختلفة، وكانت نتيجة ذلك البحث المتعدد تراكمًا معرفيًا وعلميًا أشير إليه هنا بــ«ثقافة الاختلاف» في مقابل «الاختلاف الثقافي»، الذي يشكل موضوع تأمل ودراسة لثقافة الاختلاف، أو الثقافة الناتجة عن دراسة الاختلاف، وكان يمكن أن يقال «علم» الاختلاف لولا أن من المغامرة القول بوجود علم حول الموضوع في الوقت الحاضر، مع أن ذلك التشكل غير مستبعد على كل حال. ويعني استعمال كلمة «ثقافة» في «ثقافة الاختلاف» أن ثمة دلالة للثقافة غير تلك المستعملة في «الاختلاف الثقافي»، فالثقافة هنا ثقافة عالِمة، حاصل معرفي ناتج عن التأمل والبحث والاستنتاج، أي أنها شكل من أشكال التثقف المتحصل عن طريق التعرف والإدراك المدقق. فهي ثقافة ناقدة أو ثقافة نقدية وفردية، المعنى الأساسي الذي نقصده حين نصف أحدًا بأنه «مثقف»، وليست ثقافة ناتجة عن نشاط إنساني جمعي وشعبي أو جماهيري كما هو أحد المعاني الأساسية لمفهوم «ثقافة»، المعنى المستعمل هنا في عبارة «الاختلاف الثقافي».

القطيعة المعرفية

لإنتاج ثقافة الاختلاف لابد من الانطلاق من وجود الاختلاف ابتداء، وبالطبع فإن المقصود ليس الاختلاف بالمعنى الأساسي البدهي الذي لا يشكك فيه أحد، أي اختلاف لغة عن لغة أو شعب عن شعب، وإنما الاختلاف الذي يتجاوز الجوانب الواضحة، ويبرر القول بوجود قطائع معرفية وثقافية على مستويات متعددة. فإذا كان اختلاف الثقافات من الأمور البدهية، اختلاف الثقافة الإنجليزية عن العربية، والعربية عن الصينية وهكذا، فإن وجود تشابه بين الثقافات هو أيضًا من الأمور البدهية بحكم الانتماء إلى العائلة البشرية، التي تجعل بعض المعتقدات والعادات وغيرها من الإرث الإنساني المشترك الذي يبرر وصف شعب أو مجتمع بأنه شعب أو مجتمع إنساني، أو وصف فرد بأنه ينتمي إلى ذلك الشعب أو المجتمع. كلتا الحالتين ليست محل جدال. ما هو محل جدال هو القول إن أوجه الشبه أو أوجه الاختلاف هي من الأهمية، بحيث تعدل بالأوجه الأخرى المقابلة إلى حد القول إن دراسة ثقافة من الثقافات ينبغي أن تنطلق من الوعي بالاختلاف أو التشابه وليس العكس. فقد كان دائمًا هناك من يرى أن أوجه الشبه بين الثقافات والمجتمعات البشرية هي أكثر من أوجه الاختلاف، وأن ذلك ينبغي أن يكون المنطلق للبحث والمعرفة وللمشاريع الحضارية، التي ينبغي على هذا الأساس ألا تتردد في تبادل المنتجات على اختلافها بحكم ارتفاع معدلات التشابه الإنساني. وفي مقابل أولئك كان هناك أيضًا من يرى العكس تمامًا مؤكدًا أن الثقافات أقرب إلى التباين منها إلى التقارب، أو أن التباين ليس أقل أهمية من التشابه، وأن التبادل الحضاري أو الثقافي ينبغي أن يبنى على هذا الأساس وليس العكس. وبالتأكيد، فإن السجال بين الجانبين لم يكن معرفيًا أو علميًا خالصًا، وإنما شابه الكثير من النوازع الأيديولوجية والسياسية.

دلالات الاختلاف

ما يشار إليه هنا بثقافة الاختلاف، ينتمي إلى عائلة من المفاهيم والمصطلحات المطروحة في الثقافات المختلفة، ومنها الثقافة العربية الإسلامية، التي عرفت الاختلاف والبحث فيه ضمن ما عرفت من مفاهيم ومصطلحات لعل أشهرها: «فقه الاختلاف»، ورديفه «أدب الاختلاف». وهناك الكثير مما كتب في العصر الحديث حول هذه المسألة بوجوهها المختلفة، إلى جانب الإشارات المتواترة إلى المفهوم نفسه في الموروث الديني الإسلامي. الدكتور يوسف القرضاوي يضع فقه الاختلاف ضمن خمسة أنواع من الفقه هي: فقه المقاصد، وفقه السنن، وفقه الأولويات، ومراتب العمل، وفقه الموازنة بين المصالح والمفاسد، وذلك في كتاب له حول الموضوع. وفي كل الحالات، فإن من كتبوا في الموضوع في السياق الإسلامي يقصدون بالاختلاف ما يحصل بين المسلمين من تباين في وجهات النظر فيما يتعلق بأمور دينهم في المقام الأول، وفي الموقف من الشعوب والثقافات أو الأديان الأخرى في المقام الثاني. فالاختلاف هنا هو اختلاف العلماء أو اختلاف الفرق والمذاهب الإسلامية في المسائل الفقهية، وفي مسائل العقيدة، وما يتصل بذلك من أمور الدين والدنيا، وهو اختلاف يقسمه الكتّاب إلى قسمين، قسم مذموم وآخر محمود، يتعلق الأول بالاختلاف المؤدي إلى الفرقة والتنازع، ويشار إليه عادة بالخلاف أو النزاع تمييزًا له عن الاختلاف المحمود في الرأي، إذ يصدر عن توافق في الأصول وانسجام في الأهداف. وينقل كثير ممن كتبوا في الموضوع من الباحثين الإسلاميين ما ذكره ابن القيم في كتابه أعلام الموقعين حول الاختلاف بصورة عامة حين قال: «وقوع الاختلاف بين الناس أمر ضروري لابد منه لتفاوت أغراضهم وأفهامهم وقوى إدراكهم... ولكن المذموم بغي بغضهم على بعض وعدوانه».

الباحث المغربي علي أومليل توقف أمام هذه المسألة في كتاب له حول شرعية الاختلاف، وبين جملة من المسائل المتصلة بتلك القضية المهمة في الموروث العربي الإسلامي من منظور معاصر. يشير أومليل إلى تركز البحث لدى علماء الإسلام في الاختلاف ضمن الدين الواحد على النحو المشار إليه، ولكنه يشير أيضًا إلى الاختلاف الآخر، أي اختلاف مفكري الإسلام وعلمائه مع نظرائهم في الأديان والمعتقدات الأخرى. ويبين أومليل جانبًا مهمًا من الانشغال بهذا الجانب من الاختلاف في التاريخ الإسلامي، ليس بين العلماء المسلمين، ومَن يناظرهم في الثقافات الأخرى فحسب، وإنما بين الجماعات المسلمة وغيرها، لاسيما حين تكون تلك الجماعات مقيمة في مجتمعات غير مسلمة تضطر معها إلى مواجهة الاختلاف بصوره المختلفة، أي بصوره السلمية ذات الطابع الفكري أو العقدي الحجاجي وبصوره العنيفة المنطوية على الكثير من النزاع والعنف.

يتضح ذلك، كما يقول أومليل، في حالة الجماعة المسلمة التي بقيت في الأندلس بعد انتهاء الحكم الإسلامي، ورحيل وترحيل معظم المسلمين من شبه الجزيرة الأيبيرية، وهي الجالية المعروفة بالموريسكيين. تلك الجماعات تعلمت أساليب كثيرة للدفاع عن بقائها، ومن ذلك أساليب محاجة الآخر، وإثبات مشروعية وجودها، بل وضعف حجة الخصم من خلال التعرف على ثقافته، وإثبات هشاشة ادعاءاته. ووصل الأمر بالموريسكيين في تلك المعرفة الثقافية الوجودية إلى حد وضع الملاحم، التي تمجد المسلمين، وتتنبأ بعودتهم إلى الأندلس. بل إن الأمر تجاوز تلك الاستراتيجية الدفاعية إلى حد الهجوم على الخصم في أهم ما يملك ثقافيًا، وهو الإنجيل حيث «اخترعوا إنجيلاً»، قالوا إنه الإنجيل الأصلي، في مقابل الأناجيل التي بأيدي المسيحيين» (أومليل77). ولم يؤد ذلك - بالطبع - إلى تخفيف الاختلاف أو الخلاف الثقافي الاجتماعي، بل عمقه وزاد من عزلة المسلمين، واضطهاد الإسبان الكاثوليك لهم، فكان أن تطور الأمر إلى ازدواجية لدى الموريسكيين في سلوكهم للتظاهر بالانسجام مع الحياة العامة وادّعاء المسيحية ظاهرًا مع الاحتفاظ سرًّا بدينهم الإسلامي. بل إن الأمر وصل، كما يقول أومليل، إلى تطوير لهجة، أو بالأحرى لغة خاصة بهم هي «اللغة الأعجمية»، وهذه لغة إسبانية، لكنها تكتب بالعربية، سعوا من خلالها إلى التواصل فيما بينهم، لكن من دون أن يتعرف عليها الإسبان.

الاختلاف والاضطهاد

لقد كان الموريسكيون أنموذجًا مبكرًا للتفاعل مع الآخر، لكنه، كما يشير أومليل، أنموذج يحمل أيضًا بعض مشكلات التفاعل، حين يحدث في ظل الاضطهاد والعداء، فالموريسكيون واجهوا عداء الآخر بعداء مقابل، وكانوا - بالطبع - مضطرين إلى ذلك، لكن الحقيقة تبقى وهي أن العداء بطبيعته لا يؤدي إلى استيعاب صحيح. كما أن المشكلة من ناحية أخرى، هي أيضًا مشكلة الإسبان بتعصبهم الشديد، وإصرارهم على رفض المسلمين، الأمر الذي أدى لديهم كذلك إلى فهم مشوه لحقيقة الجماعة المقيمة بين ظهرانيهم. ويجد أومليل أن المشكلة مستمرة حتى في العصر الحديث، على الرغم من اختلاف الظروف وتسليم المسلمين المعاصرين، على عكس الموريسكيين، بتخلفهم الحضاري. ففي حين كان الموريسكيون قريبي عهد بالتفوق الحضاري الإسلامي، يدرك المسلمون الآن ازدياد الفجوة الحضارية، وكان يفترض أن يؤدي هذا الإدراك الحديث إلى وعي أفضل بالآخر، لكن ذلك الوعي لم يتطور بالشكل الكافي، وظل كثير من المسلمين بعيدين عن التعمق في معرفة الغرب، كما نلحظ من مثال بعض قادة النهضة الإسلامية الحديثة مثل محمد عبده وتلميذه رشيد رضا، لقد اكتفى هذان، كما يقول أومليل، كغيرهما من السلفيين المحدثين بنوع من الفلسفة الدينية السطحية...» (أومليل، 81).

ما يتضح من التحليل الذي يقدمه أومليل لتاريخ الاختلاف في الثقافة الإسلامية، هو أن المسلمين ظلوا في الغالب أكثر اهتمامًا بالاختلاف على المستوى الداخلي حيث بدا الاختلاف أمرًا غير مرغوب به، كما يشير فقهاء الإسلام المعاصرون من أمثال القرضاوي في الإشارة التي وردت قبل قليل، في حين أن الاختلاف مع الآخر ظل مقبولاً، بل ومرغوبًا فيه، وإن ظل اختلافًا مفرغًا من المعرفة الصحيحة أو المستوعبة. وهنا نتبين أن ما يدعو إليه بعض الباحثين والمفكرين العرب المعاصرين، من أمثال أومليل، هو عكس ما يدعو إليه علماء الدين، فما يدعو إليه أولئك الباحثون الليبراليون، وهم من الكثرة، بحيث يشكلون تيارًا في الثقافة العربية المعاصرة، هو إبراز وتعميق مفهوم الاختلاف الداخلي من حيث هو تعددية فكرية وثقافية أو نوع من الديمقراطية وحرية الرأي، في حين ينظرون إلى الاختلاف مع الآخر من زاوية مختلفة، تتضح حينًا وتغمض حينًا آخر. في حالة أومليل الزاوية واضحة إلى حد كبير، على الرغم من أنه معني بالاختلاف الداخلي من حيث هو قضية داخل الثقافة العربية الإسلامية أو بين مذاهبها وجماعاتها أكثر من اهتمامه به من حيث هو موقف تجاه الآخر.

متى يكون الاختلاف مقبولاً؟

ينطلق أومليل من المقارنة بين وضع العرب والمسلمين في العصر الحديث، ووضعهم في السابق. ففي حين كان العرب والمسلمون أقوياء في الماضي، كان الاختلاف الداخلي مقبولاً، ولم يكن هناك حرج في بسط معتقدات الشعوب الأخرى، بل كان تناولها يتسم بالعرض الذي يتوخى الحياد على النحو الذي لا يصدر إلا عن ثقة بالنفس (كما في كتاب «الملل والنحل»، للشهرستاني، وكما في مقارنات البيروني لمعتقدات أهل الهند). لكن حين ضعف المسلمون في العصر الحديث بتحولهم إلى الفئة المغلوبة، صار الحديث عن الاختلاف الداخلي غير مقبول، وتزايدت الدعوة إلى الوقوف صفًا واحدًا في وجه عدو مختلف ومخالف: من المعروف أنه في المجتمع المغلوب على أمره والواقع تحت الضغط الخارجي، يعتبر التناقض الرئيسي هو التناقض مع الأجنبي، وتحال الاختلافات الداخلية إلى موقع ثانوي (أومليل، 101) يقابل ذلك الموقف موقف كموقف البيروني من الهند واليونان في القرن الخامس الهجري، فكما يشير أومليل يعقد البيروني مقارنة بين العلوم العربية والعلوم الهندية، ولكن بعيدًا عن حساسية الاختلاف في المعتقد، أي أنه لا يقارن عقائد المسلمين بعقائد الهنود ليقطع بتفوق المسلمين، وإنما يعقدها في «الدائرة العلمية»، وفي هذه المقارنة يغيب التناقض مع الآخر. بيد أن هذا يستثير السؤال حول المقصود بالأجنبي هنا، هل هم الهنود، أم هي العلوم الهندية، فالبيروني، كما يذكرنا أومليل، «عادة يقارن بين مستويين من العلم: الهندي واليوناني، ليخلص دائمًا إلى تفوق هذا الأخير في مجالات شتى، وبالتالي تفوق العلم العربي وارث العلم اليوناني» (أومليل، 6 - 7). ثمة أجنبي إذن، هو الهندي، وثمة تناقض معه. لكن أليس اليونان أجانب أيضًا؟ أم أن اليونان أجانب قريبون وثقافتهم ليست على الدرجة نفسها من الاختلاف؟ في كل الحالات تبقى النتيجة دون تغيير، وهي أنه حتى البيروني واجه الاختلاف الثقافي، وإن على مستويات مختلفة، واتخذ منه مواقف مختلفة أيضًا: رفض ثقافة الهند وتقبل ثقافة اليونان.

إن موقف البيروني جزء من موقف شائع تجاه الآخر في ذلك العصر، موقف يشكل تيارًا رئيسًا في الثقافة العربية وتمثله أصوات كثيرة من مختلف قطاعات الثقافة والفكر مثل: متى بن يونس والفارابي وابن رشد، وهو تيار انفتاحي، يدعو إلى وصل الثقافة العربية الإسلامية بثقافة اليونان دون إعطاء كبير أهمية للاختلاف الثقافي أو حتى الاعتقاد بوجوده أصلاً. ويقال ذلك التيار آخر كرس مسألة الاختلاف مع الآخر، عمومًا واليونان بشكل خاص وفضل البحث عن بدائل حضارية أخرى في حال الحاجة إلى التفاعل مع الآخر. وأمثلة هذا التيار كثيرة أيضًا، وتشمل ابن سينا والغزالي بالإضافة إلى علماء من أطياف مختلفة. ومن الأمثلة الشهيرة على اختلاف التيارين المناظرة الشهيرة، التي سجلت في القرن الرابع الهجري/العاشر الميلادي بين متى بن يونس القنائي وأبو سعيد السيرافي حين أصر الأول، وهو المعروف بترجماته وتعريفاته بالثقافة اليونانية، على وحدة العلوم والمعارف الإنسانية ورد الثاني، من منطلق عروبي إسلامي، بأن علوم اليونان غير علوم العرب، وأن ما يصلح لهم لا يصلح بالضرورة لغيرهم.

أما ابن سينا، فقد توقف أمام مسألة الاختلاف في بحثه عن منطق مغاير للمنطق الأرسطي اليوناني، إذ يمم وجهه مثل البيروني شطر المشرق، لكنه على عكس البيروني كان يتلمس لدى الهنود وغيرهم من أهل الحضارات المشرقية ما أسماه «منطق المشرقيين» ليؤكد بذلك أهمية البحث عن البديل توسيعًا لأفق الاختيار:

وأما نحن فسهل علينا التفهم لما قالوه، أو ما اشتغلنا به، ولا يبعد أن يكون قد وقع إلينا من غير جهة اليونانيين علوم، وكان الزمان الذي اشتغلنا فيه بذلك في ريعان الحداثة، ووجدنا من توفيق الله ما قصر علينا بسببه مدة التفطن لما أورثوه. ثم قابلنا جميع ذلك بالنمط الذي يسميه اليونانيون (المنطق) - ولا يبعد أن يكون له عند المشرقيين اسم غيره - حرفًا حرفًا، فوقفنا على ما تقابل وعلى ما عصى، وطلبنا لكل شيء وجهه، فحق ما حق وزاف ما زاف.

الاختلاف في السياق الغربي:

من ناحية أخرى يتبين للباحث أن مسألة الاختلاف الثقافي كانت، ولاتزال أكثر عالمية من أن تكون محصورة في الثقافة العربية الإسلامية. فأوربا نفسها شغلت بتلك القضية في مختلف مراحل تطورها الحضاري. ولم يكن ذلك محصورًا بالعصور الوسطى حين كانت في موضع المستقبل للمؤثرات الحضارية الأخرى أكثر من كونها في موضع المصدر لتلك المؤثرات. ولأن هذا ليس موضع التوسع في هذا المبحث الطويل، فسأشير هنا إلى شواهد محدودة، ولكنها دالة من العصر الحديث. من تلك ما يتوقف عنده كاتب أيرلندي معروف هو أوسكار وايلد في نهاية القرن التاسع عشر، أو ما يستوقف ناقدًا أدبيًا فرنسيًا مشهورًا مثل رولان بارت، أو ما يشير إليه شعراء مثل وليم بتلر ييتس أو مفكرون مثل ميشيل فوكو أو مارتن هايدخر.

الاختلاف الثقافي على مستوى الفنون هو ما يتوقف عنده أوسكار وايلد ووليم ييتس حين يطرحان التباين الجذري بين النزعة التجريدية في الفنون الإسلامية والشرقية عمومًا والنزوع إلى المحاكاة في الفنون الغربية. أما رولان بارت وفوكو، فيدهشهما الاختلاف الجذري بين ثقافتين كاليابانية والصينية من ناحية، والثقافة (أو الثقافات) الغربية من ناحية أخرى. ولنأخذ فقط ما يقوله بارت حول تجربته حين زار اليابان في أواسط القرن الماضي ووجد نفسه غير قادر على اكتناه المخزون الدلالي لنظام العلامات في اليابان، فحول ذلك إلى حلم يمكن من خلاله الخروج عن عزلة الذات وغرقها في المتشابه:

الحلم: أن نعرف لغة أجنبية وغريبة دون أن نفهمها: أن ندركها في اختلافها دون أن يتوافر لدينا إمكان استعادة ذلك الاختلاف من خلال الطبيعة الاجتماعية للغة، أو الاتصال، أو الابتذال: أن نعرف استحالاتنا منعكسة إيجابيًا في لغة جديدة... باختصار، أن نهبط إلى ما لا يقبل الترجمة، أن نشعر بصدمته دون أن نهون منها إلى أن يهتز كل الغرب بداخلنا.

من ناحية أخرى، نجد فيلسوفًا مثل الألماني مارتن هايدجر في تعريفه للفلسفة وذهابه إلى أن ثمة خصوصية يونانية في الفلسفة تجعل الفلسفة منتجًا ثقافيًا يونانيًا إلى الحد الذي تصير معه مفردتا «فلسفة» و«اليونان» مترادفتين ليصير التفلسف بالضرورة دخولاً في أفق الثقافة اليونانية. ولعل تلميذ هايدجر وفيلسوف الهرمنيوطيقا المعروف غادامير يقصد ما يشبه ذلك حين يؤكد أن ممارسة الهرمنيوطيقا أو التأويل عبر الاختلاف الثقافي، أي التأويل أو التفسير الذي يضطلع به منتم إلى ثقافة ما في تناوله نصوصًا من ثقافة أخرى، غير ممكن دون أخذ الاختلاف الثقافي بعين الاعتبار والصدور عنه. ومثل ذلك نجده إلى حد ما لدى مجموعة الباحثين في كتاب مثل قابلية الثقافات للترجمة (1996) إذ يطرحون أسئلة جوهرية حول الاختلاف الثقافي تناولوها من زوايا مختلفة لكنها تصب في الإجابة الأساسية نفسها والتي لا تقول باستحالة الترجمة بصورة عامة، ولكنها تقول باختلافات يستحيل القفز عليها. أحد المسهمين في ذلك الكتاب، الناقد الأمريكي ج.هلس ملر، يختصر تلك الأطروحة في إشارته إلى صعوب نقل نظرية نقدية من سياق ثقافي إلى آخر مغاير: «عندما تترجم النظرية أو تنقل، عندما تعبر الحدود، فإنها تحضر معها ثقافة من أسسها». ومعنى ذلك، كما يقول الناقد الأمريكي، إن «جهودًا ضخمة من الترجمة ضرورية لفك تركيب نظري معين من أصوله اللغوية والثقافية، على افتراض أن هناك من يريد أن يفعل ذلك. وفي الحقيقة قد يكون ذلك من المستحيل». هذا على الرغم من أن السياقات الثقافية التي يتحدث عنها ملر هي سياقات ثقافية متجانسة نسبيًا، فهي سياقات أوربية، أي أنه يتحدث عن صعوبة نقل نظرية نقدية من لغة أو ثقافة أوربية إلى أخرى في الحيز نفسه. فكيف يمكن تصور نقل تلك النظرية إلى حيز غير مجانس أصلاً كالحيزين الغربي والياباني أو الغربي والعربي. تلك الصعوبة هي بالتحديد ما ينشغل به باحثون من ثقافات أخرى كالياباني يوكوتا موراكامي في دراسته المقارنة للعلاقات الثقافية بين اليابان والغرب.

الاختلاف الثقافي هو في الواقع أحد الأسس التي قامت عليها أبحاث الدراسات الأدبية المعروفة بـ«الأدب المقارن» في أوربا، فقد سعت تلك الدراسات، كما يقول أحد أعلامها المبكرين، الفرنسي بالدنشبرغيه (أو بالدنسبرغر)، إلى تجاوز الاختلاف الثقافي الذي تطور ما بين الآداب الأوربية في محاولة لاستعادة الوحدة الثقافية الأوربية في العصور الوسطى. ويؤكد مقارنون آخرون أن مبدأ الاختلاف جوهري بوصفه أساسًا نظريًا للدرس المقارن حين يأخذون بعين الاعتبار العلاقات الثقافية بين الغرب وغيره من جهات العالم.

على مستوى آخر، نجد الاختلاف يطرح لدى بعض المفكرين الغربيين بدوافع يمتزج فيها الفلسفي بالاجتماعي. فبدلاً من النظر إلى الاختلاف من منظور فلسفي بحت أو فلسفي ثقافي، كما عند هايدجر وجادامير، أو من حيث هو جزء من التحليل غير الثقافي في المقارنة سواء كان ذلك عند أهل الأدب أو غيرهم مثل أهل القانون والتاريخ، يحضر الاختلاف هنا بوصفه مفهومًا فلسفيًا ذا أبعاد اجتماعية فئوية. هنا نجد المفكر الفرنسي جاك دريدا يطور مفهومًا شديد التركيب للاختلاف ضمن فلسفته التقويضية، مثلما نجد مفكري مدرسة فرانكفورت أو بعض مفكريها يصرون على أهمية الاختلاف دينيًا وثقافيًا وعرقيًا. وحين نتذكر أن مجمل أعضاء مدرسة فرانكفورت من ذوي الأصول اليهودية سندرك أهمية التشابه بالنسبة لفئة تدرك صعوبة الانتماء، وتخشى الاضطهاد.

لقد اهتمت مدرسة فرانكفورت بالاختلاف وطوّرته من حيث هو مفهوم، لكن إلحاحهم عليه متصل في تقديري بموقعهم الثقافي والاجتماعي والعرقي، أو الإثني بتعبير جامع، أو نابع من إحساسهم بذلك الموقع وما يمليه من انتماء، ويستدعيه من ظروف ويحمل من سمات سواء كانت إيجابية أم سلبية. ومع أن إلحاحهم عليه جاء من زوايا مختلفة، فإنه لم يكن إلحاحًا فلسفيًا أو فكريًا خالصًا، أي لم يكن مجرد انشغال بقضية تؤرق الفلاسفة الآخرين أو تشكل قضية كبرى في تاريخ الفلسفة أو الدراسات الاجتماعية والنفسية، مع أن الجانب الفلسفي لم يغب عنه. يقول المؤرخ الأمريكي تود مي، في كتاب له حول الاختلاف لدى أربعة فلاسفة هم: نانسي ودريدا وليفيناس ودولوز، إن أولئك الفلاسفة ومعهم مدرسة فرانكفورت - أدورنو وفروم وهوركهايمر ضمن آخرين - اهتموا بالاختلاف من حيث هو نوع من المقاومة الإثنية التي تضعها جماعة ترى اختلافاتها في وجه السلطوية والجوهرانية (إسأنشياليزم Essentialism) والكليانية (التوتاليتارية) المستبدة التي تفرضها الأكثرية.

هذه المقاومة الإثنية هي ما تبذله جماعات مختلفة كثيرة في أزمنة مختلفة وفي سياقات ثقافية متنوعة، وقد رأينا كيف يحدث ذلك في مقاومة الموريسكيين للهيمنة الثقافية الإسبانية في المرحلة، التي تلت خروج المسلمين من الأندلس. أما في العصر الحديث، فالنماذج لهذا أكثر من أن تحصى وهي ليست دائمًا بين ثقافات متباينة، بل إن بعضها يحدث داخل النسيج الثقافي الواحد حين تحاول فئات ذات توجهات فكرية معينة أو ذات أصول إثنية مختلفة أن تحتفظ باختلافها بعيدًا عن الذوبان في الفكر الجمعي أو الرؤية الجمعية، وما يتصل بها من تقاليد وعادات ومعتقدات.

الاختلاف الثقافي إذن موضوع يصعب التشكيك في أهميته فضلا عن وجوده، وهو هنا بحاجة إلى المزيد من البحث والتأمل، الأمر الذي سعت هذه الملاحظات إلى وضعه موضع الاهتمام انطلاقًا من الفرضية التي تشير إلى صحتها الدراسات والمقولات المطروحة في ثنايا المناقشة إذ تتضمن أننا، على أقل تقدير، إزاء قضية ليست مهمة فحسب، وإنما شديدة التركيب وذات أبعاد إشكالية يصعب حسمها بإجابة وحيدة البعد مثل الرفض أو القبول.

 

سعد البازعي