إنها نتاج نكبة عربية أخطر

إنها نتاج نكبة عربية أخطر

وقعت نكبة فلسطين عام 1948 والمجتمعات العربية في لحظة تاريخية حرجة كانت أثناءها احوج ما تكون إلى الاستقرار لمواصلة مسيرة التنمية والتطور والتحديث، فأصابت النكبة تطور هذه المجتمعات في مقتل، وذلك بما جلبته مضاعفاتها من عدم استقرار وتقلبات وانقلابات وانجراف نحو التسييس الانفعالي والأيديولوجي قبل أو أن النضج وقبل بلوغ سن الرشد السياسي الذي لا يبلغه أي مجتمع إلا عندما يجتاز الحد الأدنى من بناء المجتمع المدني / الوطني القائم على اندماج العناصر السكانية في بنية مدينية تتجاوز البنى التقليدية من طائفية وعشائرية .

هكذا أجهضت تفاعلات النكبة في العمق العربي التكون الجنيني للمجتمع التعددي الليبرالي والتوجهات الديمقراطية المدنية التي تنامت منذ بدايات القرن واكتسبت الانقلابات العسكرية " شرعية " جماهيرية وتم الاندفاع نحو " عسكرة " المجتمعات العربية و "أدلجتها" عن طريق الحركات الشمولية الكلية ذات النهج شبه الفاشين وتم الإجهاز على التراكم الحضري والتعليمي المتفتح الذي شهدته المجتمعات العربية- قبل النكبة- في العقود الأربعة الأولى من القرن العشرين.

في مجتمعات عربية تقليدية ذات تشكيلات مجتمعية متخلفة تركيباً وقيماً وثقافة وإنتاجا- كانت الأولوية- للتنمية والتطوير والتحديث في ظل أوضاع مستقرة نسبياً تساعد على التراكم الحضاري واستيعاب المتطلبات الأساسية للعصر الحديث من دينامية اجتماعية وتطور سياسي وإنتاجه اقتصادية عن طريق استيعاب العلم والتقنية والتفكير العلمي ، التحليلي والنقدي. " لخلفيات هذه المسألة يراجع كتاب المؤلف : تكوين العرب السياسي ومغزى الدولة القطرية وغيره من مؤلفاته في هذا الموضوع ".

غير أنه في ظل الأوضاع المتوترة التي أحدثتها تفاعلات النكبة في صميم المجتمعات العربية تمت التضحية بتلك الحاجة المصيرية التطويرية فلم تعد لها الأولوية، بل صارت في درجة ثانوية، أن لم يتم التغافل عنها ، وأصبحت الأولوية القصوى للتعبئة العسكرية والاحتشاد السياسي الآني والمرحلي، وتم القفز على أوجه القصور الذاتي في المستويات الحضارية والإنتاجية والعلمية والفكرية للمجتمعات العربية ، وسيطرت- إلى حد الهاجس العُصابي المتضخم- فكرة المؤامرة " الإمبريالية- الصهيونية " التي لا تنكر بطبيعة الحال، ولكن ما كان لها أن تحدث آثارها المتفاقمة إلى اليوم، لولا القابلية العربية الذاتية لمفعولها المدمر في معظم البنى المجتمعية- السياسة العامة سواء على صعيد السلطات أو المعارضات وعلى الصعد الرسمية أو الشعبية، وبذلك تحولت المعركة من المعركة ضد التخلف إلى المعركة ضد وجه من أوجه ذلك التخلف وعرض من أعراضه، أعني : تمكن القوى الصهيونية والقوى الاستعمارية المساندة لها من إقامة إسرائيل على أرض فلسطين.

ولا يوجد حل سحري للخروج من هذا المأزق التاريخي، إلا بالعودة إلى استئناف مسيرة التطور الحضاري الشامل، بمشروع نهضوي متكامل ، وبنفس طويل، لا يحرق المراحل ، ولا يحرق نفسه بالطفرات والمغامرات والحلول المرتجلة الآنية سلماً أو حرباً.

ولن يحدث هذا إلا بتحرير الوعي العربي الإسلامي العام من كثير من الأوهام والتصورات المغلوطة وإعادة تأسيسه على التفكير المستقل، الناقد، الحر، المنفتح لكل معطيات الحقيقية، أيا كانت، حيث لا يصح إلا الصحيح . بعد هزيمة يونيو، من الدروس المستفادة، وخاصة في مصر العربية- جبهة العرب الأولى والكبرى- كان التنبه أنه لا يمكن خوض حرب عصرية بجنود وضباط ينتمون إلى تكشيلات مجتمعية تقليدية متخلفة، فالحرب التكنولوجية الحديثة تحتاج إلى كوادر متعلمة، متدربة، واعية من صميم المجتمع المدني المتحضر .

وهكذا كان بالنسبة للإعداد الحرب أكتوبر و " ملحمة العبور " وأثبت الفرد العربي المتعلم والمتدرب كفاءته العالية في الحرب الحديثة. هكذا فإن كانت قضية فلسطين هي قضية العرب الأولى فإن التخلف العربية الراهن هونكبة العرب الأولى ن وأي محاولة لإنكاره بأي عذر من الأعذار والمبررات ، لن تؤدي بنا إلا إلى المزيد من الضياع، بل إلى فقدان الوجود والحضور في هذا العصر .

 

محمد جابر الأنصاري

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات