في بعض الرجوع تقدم .. بيئي

في بعض الرجوع تقدم .. بيئي

تخضع الحياة إلى نظام بالغ الدقة والتوازن، حيث توجد الكائنات الحية المختلفة في طبقة رقيقة من الكرة الأرضية تدعى المحيط الحيوي (BIOSPHERE)هو المجال الذي يحدث فيه نشاط مكثف للكائنات الحية وهذا المحيط ليس واحدا بل يمكن تقسيمه إلى"غابات" وصحاري وبحيرات وبحار وأنهار وغيرها، ويعرف كل قسم بالنظام البيئي (ECOSYSTEM) الذي يحتل مساحة من الطبيعة وما تحويه من كائنات حية: نباتية وحيوانية، إلى جانب المواد غير الحية.

وتكون تلك الكائنات الحية والمواد غير الحية في تفاعل مستمر مع بعضها البعض، وكل العلاقات المتبادلة بين مكونات النظام البيئي مبنية على تبادل المواد والطاقة فيما بينها.

فالأنظمة البيئية هي الطبيعة بكل مكوناتها: بجبالها وسهولها، بأزهارها وثمارها، لذلك فالمتأمل بعالمها غالبا ما تقوده الخطوات لنزهة في عوالمها، وعلى الرغم من بزوغ الفجر وسطوع الشمس نشعر وكأنها رحلة في عالم الخفاء، وننتظر الليل الكثيف لنتكلم عن تأملاتنا ولكننا لا نسمع سوى الصمت حيث سريعا ما تقودنا الأفكار إلى ما وراء الأشياء لتصل بنا إلى باطن الأرض، لنكتشف وبشكل واضح أن كل التطورات العلمية التي أحدثها الإنسان في العصر الحديث لا تعني أن ينبت العشب في الربيع وقد فقد لونه الأخضر وليس الهدف منها قطع ذرية الفراشات ولا مصادرة تغريد العصافير ولا أن نتجه بمعاولنا لنفتح ثقبا في جدار الأوزون، ولا أن يرفع الإنسان يده عن الطبيعة، بل يعنى أن نبذل الجهد لتحسيسه بمسئوليته عنها، باعتبار أن كلا منهما شريك للآخر شراكة وجود وحياة ولا مستقبل لأحدهما دون الآخر.

حق الأجيال القادمة

من أحد أسباب أزمة العلاقة ما بين الإنسان المعاصر وبيئته أن مجتمعاتنا لا تدرك للآن طبيعة التكامل ما بين كل مكونات البيئة المحيطة به، ومرد ذلك إلى النظرة السطحية التي تعتبر المكونات البيئية وحدات منعزلة غير مترابطة ترابطاً حقيقيا . ولا حل لذلك إلا باتباع التنمية البيئية المستمرة، التي تتطلب المحافظة على الموارد البيئية مع تلبية الاحتياجات المتزايدة للقطاع الأوسع من المجتمع عن طريق وضع سياسات تتسم بالاستقرار والاستمرار والتواصل، ولتحقيق ذلك لابد من تنظيم الإنتاج والمجتمع بصورة تؤدي إلى تناغم التفاعل بين المجتمع وبيئته الطبيعية، فهي تنمية تأخذ فى حسبانها البعد الزمني، أي أنه من حق الأجيال القادمة التمتع بجمال الأرض وخيراتها، لذلك فهي تنهض بالأرض ومواردها وتنهض بالبشر وتقوم بهم ولهم.

فمن الواضح أن جوهر التنمية المستديمة هي المحافظة على الموارد المتجددة وأن تكون معدلات استهلاكها ضمن حدود نموها الطبيعي وتعمل علي تقرير إمكان الحاضر واحتياجات المستقبل بشكل منسجم ومتناغم.

إن تنظيم مجتمع قادر على إحداث تنمية بيئية قابلة للاستمرار هو الذي سيمنح المجتمع وحدته وتنوعه وطبيعته الإنسانية التي ستمكنه من التفاعل الرشيد مع البيئة الطبيعية المختلفة والمتوحدة في الوقت ذاته.

ولا شك أن من أهم عناصر التنمية البيئية المستمرة هي الحفاظ على توازن النظم البيئة الزراعية فالزراعة التي أسست الحضارة البشرية ، وأتاحت للإنسان تعلم المعرفة والحكمة طيلة نحو 10 آلاف عام تعود اليوم من جديد لتفتح طريقا جديدا إلى المستقبل.

فالثورة الخضراء التي أحدثتها العلوم والتكنولوجيا في الزراعة خلال فترة الستينيات والسبعينيات من هذا القرن ، بدأت تواجه خطر الثورة المضادة بدعوة جديدة للعودة إلى الطبيعة وإقامة أنظمة زراعية بيئية تحاكي الطبيعة، وتدعو إلى التعلم من الفلاحين طرق الانتاج التقليدية.

فالباحثة الهندية فانداناشيفا تعتبر "الثورة الخضراء" تخبطا علميا أوقع أضراراً فادحة اقتصادية وبيئية وحتى ثقافية ، وتصبح الثورة على الثورة الخضراء قفزة نحو المستقبل في نظر العالم الإيطالي ميغويل التييري، حيث يعلن أن التنمية البيئية المستديمة غير ممكنة التحقق من دون تغيير الأحكام الأساسية التى تحدد ما ينتج وكيف ينتج ولمن ينتج.

الزراعة المستديمة

إن أحد أهداف التربية البيئية المستديمة هي القيام بتطوير أنظمة زراعية- بيئية- (Ecosystem agro) لتصل لمفهوم "الزراعة المستديمة" وهي نوع من الزراعة يحقق التوازن الصحيح ما بين الإنتاج والتربة والمغذيات وضوء الشمس والرطوبة والكائنات الحية الدقيقة المتماشية معها، ويصبح التنوع البيولوجي في هذه الزراعة هو التقنية الأولية لتحقيق أهداف هذه الزراعة، وكذلك يرتبط تحقيق الاستقرار في الإنتاج الزراعي داخل نطاق التنظيم الاجتماعي الذي يحمي سلامة الموارد الطييعية ويغذي التفاعل المنسجم ما بين البشر والنظام الزراعي والبيئة.

وهنا تكمن الفكرة الأساسية وراء الثورة الزراعية الجديدة بتصميم نظام زراعي- بيئي يحاكي هياكل ووظائف أنظمة البيئة المحلية الطبيعية.

وعلى الصعيد الاقتصادي والاجتماعي تركز الثورة الجديدة على المزارعين، وبهذا الأسلوب تصبح الزراعة الجديدة متوافقة ثقافيا لأنها تبني مشروعها على أساس الجمع بين المعرفة التقليدية للمزارعين وعناصر العلوم الزراعية.

هذا بالنسبة للأنظمة البيئية الزراعية، أما بالنسبة للمجتمع فهناك العديد من الجماعات البيئية المختلفة التي أصبحت حركات عالمية واستطاعت في وقت من الأوقات أن تجد لنفسها تمثيلا في عدد من البرلمانات الأوربية، وتعتبر حركة السلام الأخضر أوسع هذه الحركات الاجتماعية انتشاراً، وتتميز بأنها حركة شعبية عميقة، ذات قاعدة عريضة ومتنوعة، إنها حركة مظلية للعديد من الحركات والمنظمات التي تغطي العمل في مختلف القطاعات الاقتصادية والبنيوية والحزبية وغيرها في المجتمع المعاصر ، يؤمن أفراد هذه الحركة بأنه لايمكن حل المشكلة العامة بالتركيز على عنصر واحد وإنما السيطرة على كل جوانب المشكلة لتصبح المحافظة على البيئة بندا ثابتا ينعكس على سلوكنا اليوم وجزءاً أصيلا من حياتنا. ويزداد توجه جماعة الخضر في العالم نحو الجمع بين العقل الشعبي والعمل البرلماني. كما تجدر الإشارة على أن الخضر لا يتبنون أيا من الأيديولوجيات السائدة بل يقرون بالاقتراب من الطبيعة لإقامة التوازن البيئي ما بين الإنسان والطبيعة لبناء النوع الإيكولوجي، مع المطالبة بالبحث عن تكنولوجيا بديلة غير مضرة بالطبيعة والإنسان ، أنهم يعبدون طريقا للخروج من الأزمة التنموية ذات النزعة الاستهلاكية المبددة للطاقات البشرية والموارد الطبيعية على حد سواء، مقتنعين في النهاية- من أمرمحدد وهو أن الأرض لا تعود إلى الإنسان بل إن الانسان هو الذي يعود للأرض.

كما أن العلوم الطبيعية يجب أن تلعب دورا قيادياً ورائداً في التنمية البيئية المستمرة إلى جانب مشاركة العلوم الإنسانية الأخرى في جهد تكاملي ومشترك .

فالعلوم الطبيعية تمتلك ذخيرة ضخمة من المعلومات والبيانات والإحصاءات عن البيئة ومواردها الطبيعية والبشرية ومدى تطور هذه الموارد، ونمط تنوعها المكاني، واستغلالها لمختلف الأغراض وفي مختلف الأنشطة وخاصة الأهداف الاقتصادية لتلبية احتياجات المجتمع البشري المتزايدة.

العودة إلى الينابيع

وتتعدد الفروع العلمية للدراسات البيئية، لكن أهمها على الإطلاق هو عملية الرصد وتتم بالمراقبة المنتظمة والمستمرة لكل ما يحدث في البيئة، من تغيرات، نتيجة لتفاعلات طبيعية ، وكذلك، وبدرجة أهم- نتيجة لمختلف نشاطات الإنسان، وخاصة النشاطات الإنتاجية.

وتشكل عملية الرصد مصدر معلومات عن الحالة الراهنة للبيئة، وستمكن هذه المعلومات بدورها من تحديد التغيرات البيئية الحادثة والمتوقعة، كما ستمكن من تطوير وسائل التنبؤ بمسار تطورها وبحالتها المستقبلية .

فعلى العلم أن يوجد أنماطاً من النشاطات الإنتاجية لا تحدث أدنى معدلات الضرر للبيئة ، من خلال تدخله المنظم والمخطط في العمليات الطبيعية، عن طريق تصميم وإنشاء بيئات مناسبة لحياة وعمل الإنسان ، وهذا من إحدى المهام التي يجب أن يساهم فيها البحث العلمي معتمداً على الخبرة المتراكمة، وعلى المعرفة الشاملة للقوانين التي تحكم تنظيم وعمل البيئة الطبيعية ، مما يسهل معه التنبؤ بمستقبل مشرق عن صورة العالم في الألف الثالث الميلادي الذي اقتربنا من عتباته .

وكلما ازدادت مشاكل العالم تعقيداً، شعرنا بحاجتنا للعودة إلى ينابيعنا الأولى التي يستحيل أن تنضب مهما حاصرها الجفاف ، ينابيع السعادة الداخلية، والسلام الداخلي ، ينابيع الروح التي لا تهجع.

وكلما اشتدت الأزمة، ازداد الأمل الكامن في جوهر الإنسان وجوهر الوجود. لكي يظل فينا الحنين متقداً أبداً نحو المستقبل المنشود.

 

 

سيف الدين الأتاسي

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات




جمع الثمار يحتاج إلى مهارة خاصة حتى لانتلف الأشجار ونصيبها بالعقم





البيئة هي التفاعل المنسجم بين البشر وكل عناصر الحياة من حوله





الثورة الزراعية يجب ان تتوافق مع المعارف التقليدية للفلاح عن أرضه