سيف الدولة الحمداني.. شجاعة وكرم وفروسية عادل زيتون

سيف الدولة الحمداني.. شجاعة وكرم وفروسية

تحتفل حلب هذا العام باختيارها عاصمة ثقافية للعالم الإسلامي. وبهذه المناسبة تتذكر (العربي) بطل هذه المدينة وفارسها, سيف الدولة الحمداني الذي دافع عن حدودها, وجعل منها عاصمة للثقافة والعلم والأدب في العالم الإسلامي قاطبة.

ينتسب الحمدانيون إلى قبيلة (تغلب) العربية, التي أنجبت - في الجاهلية والإسلام - عدداً كبيراً من الفرسان والشعراء, وانتقلت من الجزيرة العربية, كما هو حال الكثير من القبائل العربية, إلى ضفاف الفرات. ولعب الحمدانيون دوراً مهماً على مسرح الحياة السياسية في العصر العباسي الثاني, حيث أقاموا دولتين إحداهما في الموصل والأخرى في حلب.

ومؤسس الدولة الحمدانية في حلب علي بن عبد الله بن حمدان, الذي لُقب بسيف الدولة. وقد ولد عام 303 هـ /915 م في مدينة ميافارقين (أشهر مدن ديار بكر), ودرس على أيدي علماء الموصل الآداب والعلوم, كما تعلّم الصيد والرمي وركوب الخيل, ولكن قلبه كان قد تعلّق من صغره بالأدب والشعر. وبعد وفاة والده عاش سيف الدولة في كنف أخيه ناصر الدولة, ثم انخرط في الجهاد ضد البيزنطيين بصحبة أخيه حيناً وقائداً مستقلاً حيناً آخر. وأظهر سيف الدولة, خلال المرحلة العراقية من حياته, بطولات خارقة دفاعاً عن الخلفاء العباسيين الذين كانوا يعانون الاضطهاد والمذلة على أيدي القادة الأتراك, الذين هيمنوا على مقاليد الحكم منذ قيامهم بقتل الخليفة المتوكل على الله عام 247 هـ /861 م.و كان سيف الدولة على دراية كاملة بأن ما يجري في العراق من فوضى وصراعات بين القوى الإسلامية, إنما هو لمصلحة البيزنطيين الذين لم يترددوا في الإغارة على مدن شمال الجزيرة وبلاد الشام, مستغلين الظروف الصعبة التي تمر بها الخلافة العباسية.و لهذا كله يمكن القول إن ذلك كله مهّد لظهور الدولة الحمدانية في حلب لمواجهة التحدي البيزنطي, وهذا يذكرنا بقيام الدولة الأيوبية, في أواسط القرن السادس للهجرة (الثاني عشر للميلاد) لمواجهة التحدي الفرنجي (الصليبي).

تلقى سيف الدولة - الذي كان آنذاك والياً على نصيبين- دعوة من بعض رجالات حلب التي كانت - مثل بقية بلاد الشام ومصر- تحت حكم الإخشيد. فلبى الدعوة, واتجه إليها مدعوماً من أخيه ناصر الدولة, أمير الموصل, بالرجال والمال, ودخلها عام 333 هـ/944 م, ورحب به أهلها أيما ترحيب. وهرع جيش الإخشيد لاسترداد حلب, ودارت معركة حامية الوطيس عند الرستن (شمالي حمص) بين الحمدانيين بقيادة سيف الدولة والقوات الإخشيدية بقيادة كافور, حيث انتصر فيها الحمدانيون انتصاراً باهراً, ومن ثم وقّع الطرفان معاهدة صلح نصّت على أن يكون للحمدانيين حلب وما يليها من بلاد الشام شمالاً, وأن تدفع الدولة الإخشيدية إتاوة سنوية لسيف الدولة مقابل احتفاظها بدمشق. وتعزز هذا الصلح بالمصاهرة حيث تزوج سيف الدولة ابنة عبد الله (شقيق محمد بن طغج الإخشيدي). ولا شك في أن هذه المصاهرة أفادت سيف الدولة, حيث

يستطيع والحالة هذه, مواجهة البيزنطيين وهو مطمئن إلى حدوده الجنوبية مع الدولة الإخشيدية. وقد اشتملت دولة سيف الدولة, وهي في أقصى اتساع لها - بالإضافة إلى العاصمة حلب - على: حمص وحماه وقنسرين وإنطاكية ومنبج ومعرة النعمان وغيرها, وكذلك على مدن ديار بكر مثل: آمد وميا فارقين, وعلى مدن مضر مثل الرقة, وعلى الثغور مثل: طرسوس والمصيصة وآذنة والحدث, وعلى العواصم مثل مرعش وزبطرة وملطية وغيرها.

صفات نادرة

ُيجمع المؤرخون على أن سيف الدولة كان ينفرد بسمات لم تتوافر عند أحد من الملوك والأمراء المعاصرين له, منها: الشجاعة التي شهد له بها الأعداء قبل الأصدقاء, وسجّلها بإعجاب شديد المؤرخون البيزنطيون والعرب على السواء. والكرم الذي لمسه القاصي والداني, الأقرباء والغرباء, في داخل دولته وخارجها, المسلمون وغير المسلمين, والنزعة العربية التي جدد بها شباب العروبة في عصر سيطر فيه الأعاجم على مقاليد الخلافة العباسية, فأقام دولة عربية ووقف إلى جانب الخلافة العربية في بغداد في محنتها ضد الفرس والترك والديلم وغيرهم, ودفاعه عن أرض العرب وكرامتهم. وقد أشار المتنبي إلى ذلك عندما خاطب سيف الدولة قائلاً:

رفعت بكَ العربُ العمادَ وصيرت قمم الملوك مواقد النيران
أنساب فخرهم إليك وإنما أنساب أصلهم إلى عدنان


والفروسية التي تجلت في القيم الإنسانية الرفيعة, التي كان يتعامل من خلالها مع أصدقائه وأعدائه على السواء, ومع المسلمين وغير المسلمين, في أيام السلم وأيام الحرب. فعندما انتصر على الإخشيديين في معركة الرستن, كما ذكرنا, أمر رجاله بألا يقتلوا أحداً من جنودهم وقال لهم: (الدم لي والمال لكم). ثم لم يلبث أن أطلق الأسرى منهم دون مقابل وكانوا نحو أربعة آلاف. كما ظهرت فروسيته مع أعدائه البيزنطيين, فلم يعرف عنه أنه غدر بهم أو نكث عهداً أو حنث وعداً قطعه لهم. ونزعته الأدبية التي لم يستطع أحد من الملوك والأمراء المعاصرين له مجاراته فيها, والتي تجلت في شغفه بالشعر والأدب ورعايته للشعراء والأدباء والعلماء. وفي ضوء هذه السمات فقد كان المتنبي على حق عندما قال عنه:

تشرف عدنان به لا ربيعة وتفخر الدنيا به لا العواصم


ضد بيزنطة

إن جهاد سيف الدولة ضد البيزنطيين يُعد من أهم الصفحات المشرقة في تاريخه, فقد تولى منفرداً مسألة حماية الثغور (الحدود), بعد أن ثبت فشل كل القوى الإسلامية المعاصرة له في النهوض بهذه المهمة. وتؤكد المصادر على أن سيف الدولة اشتبك مع البيزنطيين أكثر من أربعين مرة, فالثعالبي يقول في كتابه (يتيمة الدهر) إن سيف الدولة (غزا أربعين غزوة له وعليه) كما قال صاحب (الوافي بالوفيات): (وله مع الروم أربعون وقعة له وعليه, ومع غيرهم ما لا يحصى). وتروي المصادر أن ابن عمه وهو الشاعر أبو فراس الحمداني دعاه ليلة ليسمع غناء أبي عبد الله المنجم, وكان قد أحضره من أجله, فأجاب سيف الدولة بهذه الكلمة الرائعة (أنا مشغول بقرع الحوافر عن المزاهر).

عندما تصدى سيف الدولة للبيزنطيين كانت إمبراطوريتهم تمر في عصرها الذهبي في ظل الأسرة المقدونية (867 -1081 م), فقد عاصر أعظم أباطرتها وهم: قسطنطين السابع ورومانوس الثاني ونقفور فوكاس, كما خاض أشد المعارك مع أشهر قادتها أمثال: برداس فوكاس ونقفور فوكاس والشمشقيق. وقد ذاع صيت سيف الدولة في أرجاء الإمبراطورية البيزنطية, بحيث لا يخلو مصدر بيزنطي, من المصادر التي دونت في القرن العاشر الميلادي (الرابع للهجرة), من ذكر سيف الدولة باعتباره أقوى بطل واجهته بيزنطة في ذلك العصر.

في الواقع لا يسعنا المجال لذكر تفاصيل المعارك التي دارت بين سيف الدولة والبيزنطيين, ولذا سنكتفي بالإشارة إلى بعضها. فمن المعروف أن سيف الدولة كان قد انتصر في الكثير من المعارك, كما أنه هزم في أكثر من معركة. فمن المعارك التي انتصر فيها نذكر معركة (مرعش) التي وقعت عام 342هـ /953 م, وكان يقود الجيش البيزنطي فيها القائد العام للقوات البيزنطية في الشرق وهو برداس فوكاس. وكانت نتيجتها أن فر الأخير من المعركة ونجا بنفسه بصعوبة بالغة, بعد أن أصيب بجرح بالغ في وجهه تاركاً ابنه قسطنطين أسيراً في أيدي الحمدانيين.

ومن المعارك التي انتصر فيها سيف الدولة أيضاً كانت معركة (الحدث), التي وقعت عام 343 هـ/954 م, وهي المعركة التي كان يقود الجيش البيزنطي فيها برداس نفسه, وكانت معركة مشرفة للعرب والمسلمين, وأسر فيها صهر القائد البيزنطي وابن ابنته.

إن الهزائم التي لحقت بالقادة البيزنطيين على يد سيف الدولة دفعت بعضهم إلى التخلي عن الحياة العسكرية والدخول في سلك الرهبة أمثال القائد برداس, الذي تخلى عن أرفع منصب عسكري في الإمبراطورية البيزنطية ولجأ إلى الدير ليقضي بقية حياته راهباً.

لم يتخل سيف الدولة, سواء وهو في ذروة انتصاراته أو انكساراته, عن تقاليد الفروسية وآدابها, وقد تجلت هذه الفروسية, على سبيل المثال, في موقفه من الأسرى العرب والمسلمين والبيزنطيين جميعاً, فبالنسبة إلى الأسرى العرب والمسلمين فقد انفق سيف الدولة جزءاً كبيراً من ثروته من أجل افتدائهم من أسر البيزنطيين. بل نجده يرفض افتداء ابن عمه, الشاعر أبي فراس, من الأسر دون الآخرين على الرغم من القصائد التي كان يبعث بها من أسره يسأله فيها المفادة, وعلى الرغم من تضرع والدة أبي فراس له بأن يفدي ابنها. والواقع لم يستجب سيف الدولة إلى ذلك لأنه وجد من غير اللائق أن يستثني ابن عمه دون الأسرى العرب الآخرين, وإنما كان يرغب في افتدائهم جميعاً دفعة واحدة, وهذا ما حدث عام 355/966م, حيث أشرف سيف الدولة بنفسه على عملية تبادل الأسرى. أما بالنسبة إلى البيزنطيين الذين كانوا في أسر سيف الدولة, فقد عاملهم سيف الدولة معاملة طيبة, فمثلاً عندما وقع الأمير البيزنطي قسطنطين أسيراً بيده عامله بنبالة وفروسية وهو في سجنه في حلب, فعندما مرض في سجنه بعث له سيف الدولة من يسهر على تمريضه, وعندما مات في سجنه حزن عليه سيف الدولة حزناً شديداً, وسلم جثمانه إلى مسيحيي حلب الذين قاموا بدفنه في إحدى كنائسهم باحتفال مهيب كما أرسل إلى والده رسالة تعزية رقيقة.

والواقع لم تكن حروب سيف الدولة ضد البيزنطيين كلها انتصارات, وإنما تعرض للهزيمة أكثر من مرة, وهذا أمر له ما يبرره, إذ يجب ألا ننسى أن سيف الدولة كان يواجه إمبراطورية مترامية الأطراف, وذات إمكانات عسكرية وبشرية واقتصادية كبيرة. هذا فضلاً عن أن سيف الدولة كان ينشغل في كثير من الأحيان بالمعارك الداخلية التي يضطر إلى خوضها مثل معاركه مع القبائل العربية, التي كانت تستغل حروبه مع الروم فتعيث في أطراف دولته فساداً, هذا بالإضافة إلى معاركه ضد القرامطة أحياناً. ولكن كان أكثر ما يحز بنفس سيف الدولة هو أنه بدلاً من أن تقف القوى الإسلامية في الشام والعراق معه في صراعه مع البيزنطيين كان بعض الأمراء المسلمين في العراق يحرضون البيزنطيين على غزو سيف الدولة حتى يشغلونه عن التدخل في شئون العراق وانتزاع السلطة منهم.

ولا شك في أن دخول البيزنطيين, بقيادة نقفورفوكاس, حلب عام 351 هـ/961 م. كان أكبر صدمة تعرض لها سيف الدولة طوال حروبه مع البيزنطيين, وبالرغم من أنه أُخذ على حين غرة, فقد تصدى بشجاعة نادرة للقوات الغازية خارج حلب, ولكن عدم التوازن في قوات الطرفين كان هو السبب الرئيس الذي مكن البيزنطيين من الانتصار وجعل سيف الدولة يتقهقر لتجميع قواته. فقوات سيف الدولة كانت نحو أربعة آلاف مقاتل في حين كانت قوات البيزنطيين - كما يقول ابن الأثير - نحو مائتي ألف مقاتل. وبعد أن قام البيزنطيون بنهب قصر سيف الدولة وتخريبه اقتحموا مدينة حلب واستباحوها أياماً يقتلون ويسلبون ويحرقون. وعندما علم نقفور باقتراب الجيوش العربية لإنقاذ المدينة انسحب بقواته على عجل حاملاً المنهوبات ومصطحباً آلاف الأسرى ومخلفاً وراءه آلاف القتلى.

مجلس سيف الدولة

من المعروف أن سيف الدولة كان قد ورث عن أجداده شغفهم بالأدب والشعر. وقد أكد هذه الحقيقة الثعالبي بقوله: (كان بنو حمدان.. ألسنتهم للفصاحة وأيديهم للسماحة وعقولهم للرجاحة, وسيف الدولة مشهور بسيادتهم وواسطة قلادتهم وحضرته مقصد الوفود ومطلع الجود وقبلة الآمال ومحط الرحال وموسم الأدباء وحلبة الشعراء). وقد تجسد ذلك في المجلس الأدبي والعلمي الذي كان يعقد في قصره بحلب, والذي ضم فئات كثيرة من رجال العلم والأدب الذين وفدوا إليه من أرجاء العالم العربي والإسلامي. وقال الثعالبي في هذا الصدد: (ويقال إنه لم يجتمع قط بباب أحد من الملوك, بعد الخلفاء, ما اجتمع ببابه (أي باب سيف الدولة) من شيوخ الشعر ونجوم الدهر, وإنما السلطان سوق يجلب إليها ما ينفق لديها, وكان أديباً شاعراً محباً لجيد الشعر شديد الاهتزاز لما يمدح به).

وكان في مقدمة الشعراء الذين ضمهم مجلس سيف الدولة الشاعر أبو الطيب المتنبي (ت 354 /965). وكان المتنبي قد استقر في حلب لا يمدح إلا سيف الدولة على امتداد تسع سنوات تقريباً (337 -345 هـ). وقد رافقه في معظم حروبه مع البيزنطيين, وكتب فيها أروع قصائده, وقد ارتبط اسم المتنبي بسيف الدولة ارتباطاً وثيقاً لما بينهما من سمات مشتركة, لا سيما اعتزازهما بالعروبة في عصر طغت فيه العناصر الأعجمية على بلاد العرب.

كما كان أبو فراس الحمداني (ت 357 هـ/968 م) من ألمع الشخصيات وأبرز الشعراء في مجلس سيف الدولة. وقد وصف الثعالبي أبا فراس بقوله إنه (فرد دهره وشمس عصره أدباً وفضلاً وكرماً ونبلاً ومجداً وبلاغة وفروسية وشجاعة) وقد خاض أبو فراس معارك كثيرة ضد البيزنطيين, تحت قيادة سيف الدولة حيناً وقائداً مستقلاً حيناً آخر. ووقع أبو فراس في أسر البيزنطيين وكتب فيه قصائد رائعة عرفت (بالروميات), ومن رومياته مناجاته للحمامة الطليقة التي وقفت تنوح على غصن بالقرب منه حين كان في الأسر, والتي جاء فيها:

أقول وقد ناحت بقربي حمامة أيا جارتا لو تشعرين بحالي
أيا جارتا ما انصف الدهر بيننا تعالي أقاسمك الهموم تعالي


وكان من شعراء سيف الدولة أيضاً: السري الرفاء (ت 362 هـ) والصنوبري (ت 390هـ) والنامي (ت 399 هـ) وأبو الفرج الببغاء (ت 398 هـ) وغيرهم مما لا يتسع المجال لذكرهم. وكان أن ضم مجلس سيف الدولة عدداً من علماء اللغة والنحو أمثال ابن خالويه (ت 370 هـ) وابن جني (ت 392 هـ) وأبو بكر الخوارزمي وأبو علي الفارسي وغيرهم.

أما في ميدان الفلسفة فقد تزين هذا المجلس بفيلسوف الإسلام الفارابي (ت 339) الذي عرف بالمعلم الثاني, أي ثاني أرسطو. وكان الفارابي أيضاً عالماً بالموسيقى, وهو واضع آلة القانون, ويقال إنه حضر مرة مجلس سيف الدولة, فأخرج عيداناً لعب فيها فضحك كل من كان في المجلس, ثم ضرب بها لحناً آخر فبكى كل منهم, ثم غير ترتيبها وضرب ضرباً ثالثاُ فنام كل منهم حتى البواب. وضم مجلس سيف الدولة أيضاً عدداً من الأدباء والخطباء, ومنهم على سبيل المثال, مؤرخ الأدب العربي اللامع: أبو الفرج الأصفهاني (ت 356 هـ/967م), الذي أهدى إلى سيف الدولة كتابه الشهير (الأغاني) الذي أمضى خمسين عاماً في تأليفه والذي أطلق عليه ابن خلدون اسم (ديوان العرب), وقد أعطاه سيف الدولة ألف دينار واعتذر إليه. كما ضم هذا المجلس نحو أربعة وعشرين طبيباً, فضلاً عن عدد من علماء الفلك والمنجمين والجغرافيين.

وقد كان هؤلاء الأدباء والشعراء والعلماء جميعاً موضع احترام وتقدير سيف الدولة, ولم يكن هذا التكريم يقتصر على الجانب المعنوي فحسب وإنما شمل الجانب المادي أيضاً, فالمتنبي,مثلاً, كان يتسلم من سيف الدولة ثلاثة آلاف دينار سنوياً مقابل ثلاث قصائد, عدا ما كان يمنحه له في المناسبات, فقد أقطعه, مثلاً, ضيعة قرب حلب مقابل قصيدة أعجب بها. كما منح سيف الدولة أبا فراس ضيعة في منبج مقابل بيت من الشعر. كما سك سيف الدولة دنانير خاصة بالصلات عليها اسمه وصورته في كل دينار منها عشرة مثاقيل.

والواقع لم يقتصر احترام سيف الدولة وكرمه على الشعراء والأدباء الذين كانوا يكيلون له المديح فحسب وإنما شمل كل من تردد على بلاطه ومجلسه, والذين لم يكتبوا بيتاً في مدحه, فهذا أبو بكر الخوارزمي, الذي كان إماماً في اللغة والأدب والأنساب, لم يمدح سيف الدولة ببيت واحد من أشعاره, بل نجده في إحدى رسائله يوجه لوماً شديداً للمتنبي لأنه بالغ في مدح كرم سيف الدولة عندما جعله خاتم الكرماء بقوله:

لا تطلبن كريماً بعد رؤيته إن الكرم بأسخاهم يداً ختموا


الأمير الشاعر

لم يقف سيف الدولة متفرجاً إزاء ما كان يجري في مجلسه من مناقشات أدبية وعلمية, وإنما كان عنصراً فاعلاً فيه, وتؤكد المصادر الأدبية هذه المسألة بالإشارة إلى الحقائق التالية: كان سيف الدولة ذواقاً للشعر والأدب, ولم يكن يعتمد في تقويم الشعراء ومواهبهم على وزرائه ورجال حاشيته, كما هو حال معظم الملوك والأمراء المعاصرين له, وإنما كان يعتمد على ذوقه الخاص وثقافته الأدبية. كان سيف الدولة نفسه شاعراً, حيث قال شعراً جميلاً ولا سيما في ميدان (الشعر الوجداني), وفي (الأخوانيات). وقد روى الثعالبي أبياتاً كثيرة من شعره, منها ما قاله في زوجته الرومية الأصل التي أسكنها في بعض حصونه:

راقبتني العيون فيك فأشفقت ولم أخل قط من إشفاقي
رب هجر يكون من خوف هجر وفراق يكون من خوف فراق


ومن (الإخوانيات) ما كتبه سيف الدولة إلى أخيه ناصر الدولة:

رضيت لك العليا وقد كنت أهلها وقلت بيني وبين أخي فرقٌ


وكان سيف الدولة نقاداً للشعر, في مبناه ومعناه, فمثلاً كان معجباً بميمية المتنبي التي خاطبه فيها بعد انتصاره في معركة (الحدث) والتي جاء فيها:

وقفت وما في الموت شك لواقف كأنك في جفن الردى وهو نائمُ
تمر بك الأبطال كلمى هزيمة ووجهك وضاحٌ وثغرك باسم


فقال له الأمير لقد انتقدنا عليك هذين البيتين واقترح عليه أن يكون الشطر الثاني في البيت الأول هو الشطر الثاني من البيت الثاني وأن يكون الشطر الثاني من البيت الثاني هو الشطر الثاني من البيت الأول. فرد المتنبي على سيف الدولة إن (الثوب لايعرفه البزاز معرفة الحائك).

كان سيف الدولة يحرص على إثارة روح التنافس الأدبي والعلمي بين علماء مجلسه, وذلك عن طريق طرح أسئلة محددة. فمثلاً سأل مرة جماعة من العلماء بحضرته: هل تعرفون اسماً ممدوداً وجمعه مقصوراً?..فقال ابن خالويه إني أعرف اسمين لا أقولهما إلا بألف درهم وهما: صحراء وصحارى, وعذراء وعذراى.

كان سيف الدولة على دراية بأدب العرب وأسرار لغتهم, وقد شهد على ذلك ابن خالويه, حيث قال: دخلتُ يوماً على سيف الدولة, فلما مثلت بين يديه قال لي: اقعد, ولم يقل اجلس فتبينت بذلك اطلاعه على أسرار كلام العرب لأن المختار عند أهل الأدب أن يقال للقائم اقعد وللنائم والساجد اجلس.

غيرة وحسد

بالرغم مما كانت تحفل به (ندوة) سيف الدولة من مودة وفعاليات أدبية وعلمية فإنها لم تخل من بعض المثالب, ولا سيما ما كان يدب بين بعض الشعراء والأدباء من غيرة وحسد, والتي كانت تتحول أحيانا إلى مشاعر عدائية ودسائس. ويبدو أن المتنبي كان أكثر الشعراء موضعاً للحسد في بلاط سيف الدولة, وذلك لما كان يتميز به من نبوغ في الشعر والحكمة من ناحية, ولما كان يحظى به من مكانة خاصة عند سيف الدولة من ناحية أخرى. وقد كشف ذلك المتنبي نفسه عندما خاطب سيف الدولة قائلاً:

أزل حسد الحساد عني بكبتهم فأنت الذي صيرتهم لي حسّداً


والواقع أن معظم خصوم المتنبي كانوا من الأعاجم وفي مقدمتهم ابن خالويه وأبو علي الفارسي وغيرهما, وربما السبب في ذلك أن المتنبي كان يظهر احتقاره لغير العرب وتفوقه عليهم في المناقشات اللغوية والأدبية أمام سيف الدولة. كما لم يخف المتنبي رفضه تسلط الأعاجم على مقاليد الخلافة بقوله:

إنما الناس بالملوك وما تفلح عرب ملوكها عجم


وتروي كتب تاريخ الأدب الكثير من الوقائع التي تعكس هذه المشاعر العدائية بين المتنبي وخصومه, منها أن ابن خالويه كان يناقش المتنبي في قصيدة نحوية فقال المتنبي: اسكت ويحك فإنك أعجمي فمالك والعربية, فأخرج ابن خالويه من كمه مفتاحاً حديداً وضرب به وجه المتنبي فشج وجهه وسال دمه. كما تذكر المصادر أن من أبرز خصوم المتنبي كان أبو فراس الحمداني نفسه, الذي ما انفك يحاول تأليب ابن عمه سيف الدولة على المتنبي, فقد قال له مرة: (إن هذا المتشدق (أي المتنبي) كثير الإدلال عليك, وأنت تعطيه كل سنة ثلاثة آلاف دينار عن ثلاث قصائد, في حين يمكن أن تفرق مائتي دينار على عشرين شاعرا يأتون بما هو خير من شعره). ولكن المتنبي ظل ثابت الجنان لفترة طويلة, ولم يكترث كثيراً بكل أشكال التجريح والحسد, بل كان يسخر بكل خصومه ويهزأ بشعرهم وفكرهم ونقدهم.

نهاية حزينة

لقد شكل استيلاء البيزنطيين على مدينة حلب بداية النهاية في حياة سيف الدولة, فقد حزن على ما أصابها حزناً شديداً, وترك في قلبه جرحاً عميقاً, بحيث لم يمض عام على هذه (النكبة) (352هـ /962 م) حتى أصيب سيف الدولة بشلل نصفي, وكان هذا من المؤشرات على نهاية هذا الأمير الشجاع.

توفى سيف الدولة على فراشه في عام 356 هـ/ 967م, ونقل إلى مسقط رأسه في مدينة ميافارقين, حيث دفن في مقبرة أمه, بعد أن وُضع رأسه - بناء على وصيته - على لبنة كانت قد صنعت من (نفض غبار غزواته) الذي كان يجتمع عليه في معاركه ضد البيزنطيين.

لقد أفل نجم الدولة الحمدانية في حلب بعد وفاة سيف الدولة, لأن أولاده وأحفاده لم يحافظوا عليها كالرجال, وانتهى أمرها بالخضوع إلى الفاطميين في مصر عام992هـ/1003 م.

وهكذا هوى النسر الذي كان قد جدد شباب العروبة, وحمى أرضها, ورعى آدابها وعلومها. حقيقةً كان سيف الدولة أميراً استثنائيا في فترة مهمة من تاريخ العرب وحضارتهم.

 

عادل زيتون