معارضات مسرحية

معارضات مسرحية

لم يجد الشاعر الكبير مكانًا يظهر فيه معارضته السياسية إلا المسرح، وسلك في ذلك طريقًا فنيًا مملوءة بالرموز والأقنعة

من المؤكد أن صلاح عبدالصبور قرأ مسرح إليوت، وترجم واحدة من مسرحياته، هي «حفل كوكتيل» وترجم بعدها بسنوات، وبعد مرور ما يقرب من عشرين عامًا على نشر «مأساة الحلاج» سنة 1964، مسرحية «جريمة قتل في الكاتدرائية» بمراجعة الصديق أمين العيوطي في عدد أول يناير 1982، ولكن المؤكد أن صلاح عبدالصبور لم يكتب «مأساة الحلاج» محاكاة لمسرحية إليوت، ولم يُقبل على المسرح الشعري بسبب إليوت وحده، فقد كان عميق الاقتناع أن الشعر أصل المسرح، وأن عودة المسرح إلى الشعر هي العودة إلى النبع الذي بدأ منه هذا الفن الحواري، ولاشك أنه وجد في المسرح بوجه خاص مجالاً أوسع لصياغة احتجاجه السياسي إبداعيًا، وكان هذا الاحتجاج يتجه ضد عبدالناصر بالدرجة الأولى، ولذلك لاحظ البعض، ومنهم مترجم المسرحية إلى الإنجليزية، العلاقة بين «مأساة الحلاج» والاحتجاج على ما أسموه «ديكتاتورية عبدالناصر».

ولا أجد ما يدفعني كثيرًا إلى الاختلاف حول هذا الرأي، فقد عرفتُ من صلاح عبدالصبور نفسه، بعد أن توثقت علاقتي به، أنه كان يكره في عبدالناصر ديكتاتوريته، وأنه كتب قصيدته «عودة ذي الوجه الكئيب»، بعد أحداث أزمة مارس 1954، وهي الأزمة التي انتهت بانهزام الديمقراطية التي كان يمثلها جناح محمد نجيب، وانتصار الديكتاتورية العسكرية التي قادها عبدالناصر، وكان انتصار عبدالناصر في أزمة مارس 1954، هزيمة للديمقراطية فيما رأى كثيرون، ومنهم صلاح عبدالصبور، فكتب قصيدته «عودة ذي الوجه الكئيب»، ونشرها في مجلة «الآداب» البيروتية في شهر يونيو 1954، أي بعد انتهاء الأزمة بشهرين على وجه التقريب، احتجاجًا على ما حدث، وتنفيثًا عن غضب ظل دفينًا إزاء توجه معاد للديمقراطية.

ويبدو أن موقف صلاح عبدالصبور من عبدالناصر تغير بعض الشيء خصوصًا بعد خروج عبدالناصر منتصرًا من العدوان الثلاثي على مصر، وتحوّله إلى بطل قومي عند العرب جميعًا، أو لعل صلاح حرص على نوع من التقية عندما نشر قصيدته عن عبدالناصر في ديوانه «الناس في بلادي»، الذي صدر سنة 1957، ولكن بعد أن كتب تحت العنوان «إلى الاستعمار وأعوان الاستعمار»، فمرّت القصيدة على الرقابة، وفهم الناس أن «عودة ذي الوجه الكئيب» هي «عودة الاستعمار وأعوان الاستعمار».

وقد عادت كراهية صلاح عبدالصبور لديكتاتورية عبدالناصر لتكشف عن وجهها في «مأساة الحلاج»، خصوصًا من منظور اضطهاد المثقف ومحاولة تدميره من قبل سلطة الدولة، وذلك على نحو يمكن أن نقيم معه توازيًا بين كتابة «مأساة الحلاج» ونهاية محنة اليسار المصري الذي خرجت رموزه من السجون الناصرية سنة 1964، بعد صدور العفو العام والاتفاق على حل الحزب الشيوعي المصري، ولذلك يمكن فهم «مأساة الحلاج» في سياق أعمال سابقة عليها في الرواية مثلا، خصوصًا أعمال من طراز رواية «العسكري الأسود» التي كتبها يوسف إدريس ونشرها سنة 1961.

وأتصور أن مأساة العام السابع والستين قد أوصلت كراهية صلاح عبدالصبور لديكتاتورية عبدالناصر إلى أوجها، فلم يكتف بكتابة قصائد ديوانه «تأملات في زمن جريح»، الذي نشره سنة 1970، وأتبعه بديوانه «شجر الليل» الذي أصدره سنة 1972 بعد وفاة عبدالناصر، وإنما أضاف إلى ذلك كتابة مسرحية «مسافر ليل» من فصل واحد، ونشرها في عددي شهري يوليو وأغسطس سنة 1969 في مجلة المسرح» المصرية، كما نشرها في بيروت في العام نفسه. وأتبع هذه المسرحية بمسرحية «الأميرة تنتظر» التي نشرها في عدد واحد في مجلة المسرح نفسها، أكتوبر - نوفمبر 1969، قبل نشرها في كتاب عن «دار الآداب» في بيروت. وبعد ذلك، جاءت مسرحية «ليلى والمجنون» التي نشرها سنة 1970 عن «دار العودة» وأخيرًا، نشر مسرحية «بعد أن يموت الملك» سنة 1973.

وقد تم إخراج كل هذه المسرحيات على المسرح بعد وفاة عبدالناصر، مستغلة هامش الحرية الذي سمح به السادات، ولم يكن من قبيل المصادفة أن تدور كل المسرحيات حول موضوع واحد، هو موضوع الكائن الإنساني الذي يتم قمعه من قبل السلطة أو الحاكم، في الدول التسلطية فيموت الكائن، كما في مسرحية «مسافر ليل» القصيرة، أو يتمرّد على الأميرة التي أسلمت نفسها لمن اغتصبها واغتصب مدينتها، وقادها إلى خيانة ميراثها العظيم، فانتهى بالمدينة إلى الدمار، فكان لابد من الثأر الذي تنتهي به مسرحية «الأميرة تنتظر» وتأتي مسرحية «ليلى والمجنون» لتعود إلى الموضوع نفسه، حيث المثقف «الشاعر» وحيدًا في مواجهة السلطان، لا يملك سوى كلماته، ولا يستطيع سوى أن يحلم بنبي يحمل سيفا. ويختم صلاح تتابع مسرحياته بمسرحيته الأخيرة «بعد أن يموت الملك» التي لا تفارق دائرة العلاقة بين المثقف ورمز السلطة، وتبدأ من حيث انتهى الملك، في إشارة رمزية إلى موت عبدالناصر، وتضع المُشاهد موضع الخيار بين حلول ثلاثة، أكثرها إيجابية التمرّد على بطانة الملك التي تريد أن تُبقي كل شيء على حاله، والخروج بالملكة من سجنها إلى الحياة التي لا تتحقق فيها الحرية لطالبيها إلا بالسيف، السيف الذي لابد أن يرفعه ثائر ينطوي في داخله على شاعر أو نبيّ رسالته: الحرية والعدل.

لقد بدأ صلاح عبدالصبور تميزه في الشعر الحر بقصيدة «الملك لك» التي يعارض بها قصيدة إليوت «الرجال الجوف» فيستبدل بالنزعة التي تنطوي على مفهوم الخلاص بالمعنى المسيحي النزعة المقابلة التي تنطوي على المفهوم المضاد بالمعنى الواقعي الاشتراكي (الذي لم يخل من بعد وجودي)، أقصد الاستبدال الذي يحيل صيغة «لأن لك الملك» عند إليوت إلى صيغة الملك للإنسان الذي هو حضور خلاق على الأرض لا تحتها.

وفي تقديري، أن نزعة المعارضة هذه استمرت مع اقتحام صلاح لعالم المسرح، فهو قد توقف عند شخصية تاريخية ذات بعد ديني إسلامي مقابل شخصية تاريخية ذات بعد ديني مسيحي، وكما قام القديس توماس بالتضحية بنفسه لكي يبقى على قداسة الكلمة التي هي شرف الله (وهو العنوان الذي اختاره جان أنوي عندما كتب المسرحية عن هذا الموضوع) فإن صلاح يختار الحلاج، لكن في مدى المعارضة الضدية نفسها، ويصوغ مأساة الحلاج التي ينطوي دمار البطل فيها على «السقوط» بالمعنى الأرسطي، ولكن سقوط الحلاج كان على مستويين، أولهما يؤدي إلى ثانيهما، والعكس صحيح بالقدر نفسه، فالحلاج يعرض حياته للقتل بتخلّيه عن حفاظ الصوفي على سره الذي يقود زهوه العلني به إلى حتفه، وهو في الوقت نفسه ينزل بالصوفية من توحدها وتعاليها على حياة البشر إلى الناس البسطاء في الطرقات، فيخلع خرقة العارفين ليمضي في الطرقات، داعيًا أبناء الله إلى مواجهة الشر الذي استولى في ملكوت الله، مضحيًا بحياته كي تتحول دماؤه إلى بذور للعدل الذي يمكن أن يتحقق.

منطقة المعارضة

الغريب أن منطق المعارضة استمر مع صلاح عبدالصبور وكان - في هذه المرة - نوعًا من الموازاة مع مسرح العبث، أو اللامعقول، الذي فتن به صلاح بعد أن شاهد مسرحية «الكراسي» ليونسكو (1909 - 1994) على خشبة مسرح الجيب في القاهرة، فأثارت إعجابه إلى الدرجة التي جعلته يلتهم كل ما طالته يداه من أعمال يونسكو، وهو الأمر الذي دفعه في الأفق الذي كتب فيه مسرحية «مسافر ليل» لكن بما أحال اللامعقول من معناه الوجودي الميتافيزيقي إلى معناه الاجتماعي السياسي، ماضيًا في الاتجاه نفسه الذي سبقه إليه توفيق الحكيم في مسرحيات من مثل «يا طالع الشجرة»، و«بيت النمل»، و«في سنة مليون»، و«الدنيا رواية هزلية» وغيرها. وأضف إلى ذلك نجيب محفوظ بقصصه القصيرة التي غلبت على مجموعة «تحت المظلة»، حيث كان اللامعقول قناعًا معقولاً (أو مقصودًا) للتورية السياسية الاجتماعية التي لا تخلو من أبعاد وجودية أو ميتافيزيقية، وذلك في الاتجاه نفسه الذي مضى فيه الحلاج، فأهدر السلطان - بلسان العامة - دمه، فبطل المسرحية راكب لا نعرف له اسمًا ولا وصفًا يستقر في قطار ليلي إلى هدف لا نعلمه، ولكن القرينة في التورية تدلنا على معناها الثاني الذي يجعل المسافر رمزًا للمواطن الأعزل المسكين في مواجهة سلطة غاشمة تتركز في فرد عشري السترة، فيه الكثير من ملامح هتلر وموسوليني وستالين، وكل طغاة العالم بوجه عام، وعالم صلاح عبدالصبور بوجه خاص.

والمؤكد أن لجوء صلاح عبدالصبور وغيره إلى تقنيات أدب اللامعقول بوجه عام، ومسرح اللامعقول بوجه خاص كان منطويًا - في بعض دوافعه - على ما يوازي دوافع «تيار اللامعقول» الذي انتشر في باريس على وجه الخصوص، وكان تعبيرًا عن رفض واقع ما بعد الحرب العالمية الثانية، وكل ما لازمها ولزم عنها من دمار كابوسي الوقع، أفقد العالم معناه، وقضى على البقية الباقية من المعتقدات الواضحة المطمئنة، أو القيم الثابتة والصالحة أخلاقيًا واليوتوبيات السياسية التي سرعان ما تكشفت عن ديكتاتوريات بشعة. وكان ذلك كله قرين الخواء الروحي في مجتمعات أوربا والولايات المتحدة، بل غيرها من عوالم الكوكب الأرضي الذي وجد نفسه فجأة، أمام واقع مخيف وغير منطقي، سقطت فيه جميع أحلام الغد الأبهج، وحلت محلها كوابيس كون خلا من الوسامة، ليكسب العائش فيه التعتيم والجهامة، كما قال صلاح عبدالصبور، وكانت دوافع اللامعقول، من هذه الزاوية، شبيهة بالدوافع التي قادت إليه، وشجّعته على تجسده في أدب ما بعد نكسة 67 الذي أحال الأحلام إلى كوابيس، واليوتوبيا إلى جحيم، والاطمئنان إلى فزع، واليقين بتحقيق بستان الاشتراكية، مقرونة بتحقيق أحلام الحرية والعدل، إلى تشظي العالم العربي، وقسوة اليد الباطشة للدول التسلطية التي أفقدت العقل توازنه، والعالم انسجامه، فانقلب العقل إلى جنون، وأصبح مغتربًا يوقفه الجند عند الحدود، وتسحب منه الحكومات جنسية الوطني، وتدرجه في قوائم من يكرهون الوطن، فيما يقول أمل دنقل الذي يمضي قائلاً في قصيدته «سفر التكوين»:

قلت: فليكن العقل في الأرض، لكنه لم يكن

سقط العقل في دورة النفي والسجن... حتى يجن

هكذا توازت الدوافع التي جعلت من كتابة اللامعقول في أدبنا العربي استجابة إلى عدد من الدوافع نفسها التي تولدت عنها الحركة في الغرب بعد الحرب العالمية الثانية. ولذلك وجد صلاح عبدالصبور نفسه مندفعًا إلى هجر المسرحية التقليدية ذات الطابع الواقعي المنطقي المتفائل إلى المسرحية اللامعقولة، المناقضة للعالم المنطقي المتفائل الذي استبدلت به عالمًا مليئًا بالخوف والرعب والقمع الذي لا يفارق صفات الكابوس، وكانت النقلة من «مأساة الحلاج» إلى «مسافر ليل» نقلة من الاستجابات الإبداعية لعالم ما قبل العام السابع والستين الذي لم يخل من بقايا حلم إمكان الإصلاح إلى العالم الكابوسي لما بعدها. أعني العالم الذي استبدل التشاؤم بالتفاؤل مهما صغر. وفي الوقت نفسه، انطفأت قطرة الضوء الذي كان يمكن أن يخترق جدار القمع الذي يقود إلى الظلمة الحالكة، وساد المشهد الظلام الذي لا ينفع معه منطق أو عقل، ولا سبيل إلى التعبير عنه إلا بواجهته الإبداعية التي لا تدعو إلى ترسيخه، أو الاستسلام له، بل تجعل من تصويره استفزازًا للوعي المذعن، ووضعا للمشاهد (أو القارئ أو المتلقي) موضع المساءلة التي تقرع المشهد الذي تراه بالأسئلة الحاسمة: كيف؟ ولماذا؟ وما الحل؟

وكما فعل يونسكو الذي وضع المشاهد في مسرحية «الكراسي» التي كانت بداية انجذاب صلاح عبدالصبور إلى «اللامعقول» في مسرحه، حيث جعل يونسكو المسرحية حوارًا بين شخصيتي زوج عجوز جدًا وزوجة مثله وخطيب، يتجهان بحديثهما إلى كراسي خاوية، كأنها نحن المتفرجين، مؤكدين - على لسان الزوج - أن المنطق المحض ضرب من الخيال لا وجود له، كما أنه لا وجود للكرامة الإنسانية التي انقلب وجهها إلى قفاها، وأن الإنسان ليس هو هو، وإنما هو آخر، أولهما داخل ثانيهما، والعكس صحيح بالقدر نفسه، وأن الأصدقاء صاروا أعداء والأعداء صاروا أصدقاء، وأن الواحد يتعدد ويتحول إلى عشرات من الأغيار الذين هم إياه، يفعل صلاح عبدالصبور ما يوازي ذلك في مسرحيته التي يؤدي كابوسها الدرامي، أو ملهاتها السوداء، مبنى ومغزى مسرحية «الكراسي».

ويعني ذلك أن «مسافر ليل» تمضي في الاتجاه نفسه الذي تمضي فيه «الكراسي»، وبداية أوجه التوازي ما يقوله الزوج - في الكراسي - من أن الزمن يمضي سريعًا كالقطار، ولقد رسم على بشرتنا قضبانًا، وأنه رجل عسكري، والعسكر شباب دائم، أما الماريشالات فأشبه بالآلهة، وفي مسرحية صلاح «مسافر ليل» تدور الأحداث في قطار، بطلاها اثنان يحفر الأول منهما في وعي الثاني قضبان قمعه، كما لو كان يقوم بسجنه، أما هو فيظل قامعًا، مفردًا بصيغة جمع، أو جمعًا يتجسد في مفرد، علامته السترات العشر التي يرقد أصغرها مقاما فوق أكبرها الذي يتعدد إلى أن يغدو أشبه بالآلهة. الأول قاطع تذاكر من حيث الظاهر، والثاني راكب قطار، (وهو رمز يومئ إلى إعجاب مضمر بتوفيق الحكيم الذي يرمز القطار عنده إلى الحياة في عمومها من ناحية، وإلى الواقع السياسي الاجتماعي في خصوصيته من ناحية موازية)، مواطن بسيط، مثال لملايين غيره من الذين يرميهم حظهم العاثر بين براثن قمع قاطع التذاكر الذي يوازي الزوج، في مسرحية يونسكو، الزوج الذي يتكشف عن مستبد، يتصور نفسه حاملاً لرسالة، يمكن أن تنقذ البشرية، ولا يبدي احترامه العميق إلا بما يجعله يتماهى مع الشخصيتين الوهميتين للكولونيل والإمبراطور، فهو رجل عسكري، يحدد لنفسه رسالة مزعومة هي من صنعه هو نفسه، ولم يبايعه عليها أحد من الجالسين الوهميين على الكراسي التي تظل فارغة طوال العرض، فالضيوف الوهميون لا وجود لهم على سبيل الحقيقة بل المجاز، فهم مدعوون إلى حفل يقوم فيه «الخطيب» بعرض رسالة الزوج الذي أخرجها إلى النور منهجًا كاملاً، تستفيد منه الإنسانية إذا أطيعت تعليماته، ولا يتردد في أن يأمر ضيوفه الوهميين على الكراسي بأن يطيعوه، فقد تنزّل عليه الوحي فأدرك أن عليه إنقاذ العالم، وتنوير الأجيال القادمة بفلسفته، كي يموتوا وهم في قمة المجد، وأخيرًا... أخيرًا يحاول الخطيب الذي أتى به الزوج النطق ليشرح للضيوف فلسفة رسالته الخالدة، فلا يستطيع النطق، وعندما شعر بعجزه التام عن الكلام، ربما بسبب الخوف، يكتب على سبورة بأحرف كبيرة «أنا جبان؟!». وهي الجملة التي تنتهي بها المسرحية وتكشف عن اكتمال معناها. وهو معنى يوازي نهاية الحوار, وعامل التذاكر في مسرحية صلاح عبدالصبور «مسافر ليل» التي لا يوجد فيها سوى ثلاثة ممثلين مثل كراسي يونسكو، وهم: الراكب، عامل التذاكر والراوي، أما عامل التذاكر الذي يختزل في حضوره كل طغاة العالم، ابتداءً من الإسكندر وهانيبال إلى هتلر وجونسن، وبالطبع - على نحو مضمر - ما يوازيهم في الزمن العربي الذي ينتمي إليه الراكب، فإن اختزال عامل التذاكر للطغاة يتمثل في ستراته العشر. وهي توازي في تعددها رمزيًا تحولات السترة الصفراء لعامل التذاكر التي لا تفارق لون زي العسكر، هؤلاء الذين لا يتوقفون عن قمع الرعايا - لا المواطنين الذين يختزلهم الراكب ابتداء من اسمه: عبد عبدالله عابد عباد، واسم الأسرة عبدون، وانتهاء بتحوله إلى مفعول لقمع، علاماته درر قول من أمثال: «جوّع كلبك يتبعك»، و«عندما أسمع كلمة الثقافة أتحسس مسدسي»، أو «علمهم الديمقراطية حتى لو اضطررت إلى قتلهم جميعًا»، وأخيرًا، قول الحجاج: «إني أرى رءوسًا قد أينعت وحان قطافها»، وكلها تجذّر القمع وتشيع ترسّخه في شعار عشري السترة:

حقق في رحمة
ثم اضرب في عنف

ولا يبقى في ثلاثية أشخاص «مسافر ليل» إلا الراوي الذي يبدو في مدى علاقات النص، ومن منظور العلاقة بالجمهور (المتلقي أو القارئ) المضمر، كما لو كان قناعًا للشاعر الذي يكتفي بدور الراوي الذي تعلم أن يزن كلماته بالميزان، وإلا وقع فريسة للقمع، وذلك في فعل لا يخلو من إشارة إلى الخطيب في كراسي يونسكو الذي لا ينطق، فلا يملك سوى أن يصف نفسه، كتابة، بالجبن، لكن راوي صلاح أكثر حيلة، فهو شاعر يعرف كيف يتقنع بالألفاظ والمجازات والتوريات التي كشفت جسد الواقع المتجسد في قطار الحياة، الواقع الذي يلفتنا إليه الراوي في حركات تشبه حركات المهرج أو البهلوان، أو كليهما معًا، كالسائر على حبل من شوك في عالم خاصمه الله، فلم يعد يميز بين الصدق والكذب، الموت والقتل، الحلم والكابوس، العقل والجنون، فلا يؤدي الموقف إلى اغتيال الراكب، أمام الراوي، الشاهد الذي لا يملك سوى كلماته، لكنه لا ينصحنا بأن نلتزم مثله، بالصمت المحكم، وكأنه ينطق الكلمات التي كتبها الخطيب في كراسي يونسكو: على لوم - أشبه بالسبورة: أنا جبان. ولكن بفارق مهم مؤداه أن الراوي يختم المسرحية كلها بتوجه إلى المشاهدين بالقول - لا الخط:

ماذا أفعل?
ماذا أفعل?
في يده خنجر
وأنا مثلكم أعزل
لا أملك إلا تعليقاتي
ماذا أفعل؟
ماذا أفعل؟

وهو سؤال يستفز وعينا على نحو جارح، ويدفعنا إلى رؤية ما لم نتعود أن نراه في مدى آليات دفاعنا عن أنفسنا، فينقلنا من خدر الوعي إلى يقظته التي تدفعنا إلى التحديق في عالمنا، حقا، وإلى وضع هذا العالم وأنفسنا موضع المساءلة التي تنقلنا من سلب المشاهد إلى إيجابه الذي يشعر بضرورة الفعل الذي لابد أن يحرر نفسه، ويحرر غيره، من ثنائية القامع والمقموع، السيد والعبد، على الأقل في مدى الدافعية التي لا تنتهي إلى جبرية وأبدية العلاقة التي أقامت عليها مسرحية يوسف إدريس - الحرافيش - بناءها، في علاقات فاعلية تضاد الحضور والغياب.

 

جابر عصفور