وكان المترجم
يراجع الدكتور عبدالحميد صبرة في بعض ما يرد في هذا الكتاب من معلومات أو آراء
لتكون الترجمة متكاملة، ولست في حاجة إلى القول إن علم الفلك علم جاف لا ينسجم معه
إلا من كانت له هو اية فيه، لكن صاحبنا المترجم وجد في نفسه ميلا قويا إلى هذا
الكتاب، فأقبل على ترجمته كل الإقبال، ذلك أنه وجد مؤلف الكتاب أمينا منصفا لعلماء
المسلمين، وكدليل على ذلك نقف عند هذه الفقرة التي جاءت في مقدمة المؤلف يقول:
"يبدو أن تراث الإسلام في العصر الوسيط كان غنيا - على وجه الخصوص - بنشأة بعض
مؤسسات مهمة للعلم والمعرفة، وهي تشكل جزءا متمما لمجتمعنا الحديث ولحضارتنا، ويبدو
أن الدور الذي قام به إسلام العصر الوسيط في نشأة هذه المؤسسات وتطورها كان عظيما،
وهذه المؤسسات هي البيمارستان (أي المستشفى) والمدرسة والمرصد والمكتبة العامة.
ويرجع المؤلف هذا الخصب في الاهتمام بعلم الفلك إلى ظهو ر الدين الإسلامي، لأن
الإسلام يطلب من معظم معتنقيه أن يهتموا بأهلة الشهو ر لما لها من علاقة بحج بيت
الله الحرام وصيام شهر رمضان، كما أن القرآن الكريم يوضح أن للقمر منازل مقدرة،
يتنقل فيها من يوم إلى يوم وهذا يعني أن المسلمين لا بد أن تكون لهم علاقة تختلف
قوة وضعفا حسب شغف الأفراد بهذا العلم، لكنهم على أي حال يحاولون أن يتعلموا كل ما
له علاقة بعلم الأفلاك، ولعلهم قد أدركوا أن للقمر بصورة خاصة علاقة بنماء الزرع،
ويؤكد المؤلف في هذه المقدمة أن المدرسة التي تعطي الشهادة لم توجد إلا عند علماء
المسلمين، ولم توجد عند اليونان الذين اهتموا بعلم الفلك، وأن هذا النهج التعليمي
كان نهجا إسلاميا، والحق أن وجود المرصد معبر عن الحضارة الإسلامية، وهذا الإنصاف
والتجرد من المؤلف هو من أكبر العوامل التي دفعت الأستاذ المترجم إلى بذل جهده في
ترجمة هذا الكتاب، وأنت حين تقرأ مسيرة حياة الدكتور صاييلي، تثبت لك مشاركته في
عدد كبير من المؤتمرات العلمية المنعقدة في برشلونة ومدريد وطوكيووباريس والولايات
المتحدة الأمريكية وغيرها كثير. وفي هذا توضيح واستبانة لمكانة الدكتور العلمية.
جدوى علم الفلك
وحين يبدأ
المؤلف في حديثه عن المراصد الفلكية في الإسلام يوضح لقرائه أن جدلا واسعا حدث بين
علماء المسلمين حول جدوى علم الفلك، فهل في تعليمه نفع للذين ينفقون أو قاتهم في
الحصول عليه أم لا ؟، وقال بعضهم إن في تعليم علم الفلك تعزيزا لتفهم الإنسان
للدين، فإن كل شيء يأتي عن علم، يكون ثابتا فيه كثير من النفع وعلى كل حال فإن ما
أبرزه علم الفلك من فهم عجائب صنع الله كان هو الحاسم في دفع العلماء إلى هذا العلم
ويبدو أن هناك خلطا في زمن صنع الأرصاد الفلكية ولكن أكثرها تأكدا هو أنها رصدت
في أيام الخليفة المأمون، وإن كان هناك من يقول إنها رصدت في دمشق قبل هذا
الخليفة، ولكن حركة في علم الفلك كانت تجري من الشام قبل الحركة العلمية في أيام
المأمون.
وكان ليحيي بن
أكثم قاضي المأمون شغف بعلم الفلك، وربما كان من جملة الذين ذهبوا إلى مدينة سنجار،
وقد اختيرت هذه المدينة لارتفاعها، لأنها كانت تقع في جانب جبل هناك، ونعني بها
موقع الجزيرة، ومدينة سنجار والجزيرة تقعان بين الشام والعراق من الشمال، وهما
مكانان معروفان لدى الفلكيين والجغرافيين القدامى، ولقد أسهم في صنع الأرصاد
الفلكية أشخاص لا يعرف الناس عنهم إلا أن لهم مكانة في عالم الأدب مثل أبوالفضل بن
العميد وقابوس وشمكير وعمر الخيام وأبي إسحاق الصابئ، هؤلاء الأشخاص أثروا المكتبة
العربية بما لهم من نشاط أدبي معروف، وقد شاركوا كلهم في صنع الأرصاد الفلكية، وهذا
كله يدل على أن معظم المثقفين المسلمين في تلك الحقبة يأخذون من كل علم بطرف،
وكثيرا ما تكون لهم القدرة في إغناء الأطراف العلمية والأدبية والفلسفية والرياضيات
والجبر والهندسة، وما إلى ذلك من مختلف العلوم بخلاف الكثير من أهل هذا العصر، فإن
معظم المتخصصين لا يكادون يعرفون شيئا إلا فيما تخصصوا فيه من العلوم، وقد يكون
أصحاب الاتجاه الحديث من المتخصصين أكثر قدرة على العطاء في تخصصهم من المثقفين
السابقين، لكننا نلاحظ أيضا أن بعض المثقفين المعاصرين يكونون قادرين على الإبداع
في أكثر من جانب، كما نجد ذلك في علي محمود طه من حيث إنه شاعر مبدع ومهندس قدير،
ويقال مثل ذلك في كثيرين كابن سينا من أن له مكانة في عالم الطب والفلسفة، ولكن
تبين أن له يدا في صنع الأرصاد الفلكية أيضا، كما أن الدينوري أحمد بن داود معروف
بأنه عالم في الهندسة والنبات، صاحب التصانيف الكثيرة، ومن أشهر كتبه الأخبار
الطوال في التاريخ. يقول عنه الدكتور صاييلي مؤلف هذا الكتاب إنه ممن ساهم في صنع
الأرصاد الفلكية، ومن المعروف أن جميع المؤرخين قد أسهموا في ذم الحاكم بأمر الله
لأنه اتخذ إجراءات مخالفة للعقل والمنطق، ولكنه مع ذلك اتخذ ابن يونس أحد
العلماء نديما له، وقد طلب منه أن يصنع مرصدا فلكيا على جبل المقطم، كما أن المؤلف
قد أشار بصورة موجزة إلى ما قام به بنوموسى في أيام المأمون من مساهمة كبيرة في صنع
الأرصاد الفلكية.
مرصد المراغة
ويبدو أن
المؤرخين المتخصصين في الحديث عن هذه الخطوة الحضارية لم يتحدثوا مفصلا لتكون
الصورة واضحة، فنرى المؤلف ينقل عن المؤرخين إشارات موجزة لا توضح كيفية صنع المرصد
فهو ينقل على سبيل المثال ما قاله ابن الأثير في حوادث سنة 467 (1074 - 1075 )
وفيها جمع نظام الملك و السلطان ملكشاه جماعة من أعيان المنجمين، وجعلوا النيروز
أول نقطة من الحمل، وكان النيروز قبل ذلك عند حلول الشمس نصف الحوت، وصار ما فعله
السلطان مبدأ التقاويم، وفيها أيضا عمل الرصد للسلطان ملكشاه، واجتمع جماعة من
أعيان المنجمين في عمله منهم: عمر بن إبراهيم الخيامي، وأبوالمظفر الإسفزاري وهو
الأسفرائيني عند أبي الفدا، وميمون بن النجيب الواسطي وغيرهم، وأنفق عليه من
الأموال شيء عظيم، وبقى المرصد دائرا إلى أن مات السلطان سنة خمس وثمانين
وأربعمائة، فبطل بعد موته.
هذه عينة من
نقول المؤلف من كتب الذين أرخوا لصنع المراصد الفلكية وهي لا تبين لنا بصورة دقيقة
كيفية صنع المراصد من حيث الكبر والصغر والأدوات التي تستعمل والمدة التي
استغرقتها، ومعظم ما نقله المؤلف الدكتور صاييلي يأتي على هذه الشاكلة إلا حين يأتي
إلى مرصد المراغة فإنك تجد فيه حديثا مفصلا يشفي الغليل، ذلك أن هذا المرصد يمثل من
جهة السمات الرئيسية والجوهرية قمة تطور هذه المؤسسة في الإسلام في رأي المؤلف ص
277، ومما يدعوإلى الفخر أن هذا المرصد العظيم أنشئ نشأة إسلامية دون أن يعتمد على
الصين أو غيرها من الأمم الأجنبية، والغريب أن هذا المرصد قد أنشئ إبان ضعف الصلات
الثقافية بين العالم الإسلامي والغرب إلى حد كبير في نهاية فترة الترجمات التي تمت
من اللغة العربية إلى اللاتينية.
ويرى المؤلف أن
مرصد المراغة أهم مرصد بني في تلك الحقبة وقد بدأ بناء هذا المرصد في شهر جمادى
الأولى من عام 657. أي في إبريل 1259 م - مايوسنة 1259، ويقع مرصد المراغة على تل
في ضاحية مدينة المراغة في إيران ويمتد هذا التل في طوله بحذاء منتصف النهار، ولهذا
التل قمة مسطحة طولها نحو400 متر وعرضها نحو150 مترا، ويتم رفع الماء إلى تل المرصد
عن طريق آلات خاصة وسواق، وقد بنيت لهذا المرصد قبة ومكتبة للرصد فيها أكثر من 400
ألف مجلد، وهو بذلك قد أصبح مرجعا للعلماء والباحثين في شتى المعارف الإسلامية،
وهناك فتحة في أعلى القبة تنفذ منها أشعة الشمس، والخيال الحادث عن ذلك يعين على
قياس حركة الشمس البطيئة بالدرجات والدقائق، وبهذه الوسيلة يمكن أيضا تحديد زاوية
ارتفاع الشمس عبر الفصول المختلفة وأو قات النهار المتعددة.
ولما كان
الإنفاق باهظا على هذا المرصد العظيم مما جعل هو لاكو، وهو الحاكم المطلق، يرى أن
لا داعي لكل هذا الإنفاق فقد تساءل ذلك الحاكم عن المنفعة التي ترجى من هذا المرصد،
فما كان من نصير الدين الطوسي، وهو عالم معروف مشهور بالفلسفة والشجاعة الأدبية،
ما كان من هذا العالم إلا أن قام بفعل مؤثر مجمله أن الطوالع تقول إن شيئا ما سيحدث
لهو لاكو، وأن الإنفاق على هذا المرصد ربما يكون فيه نجاة وتحذير له، في خبر طويل
لا يسع المقام ذكره بالتفصيل "ص 284" وبذلك نجا هذا المرصد العظيم من التلف، ولقد
أصبح لهذا المرصد مكانة مرموقة جعلت حكام المغول يرون أنه من الأفضل لملكهم أن
يغدقوا عليه ويعينوا له مديرين ليستمر المرصد في عطائه الذي يمكنهم من رؤية الطالع،
ولقد طال عمر هذا المرصد إلى سنة 1336، أي أن عمره كان حوالي 77 سنة، ويتردد
المؤلف في تحديد عمر هذا المرصد بسبب ما جاء من اختلاف في روايات المؤرخين الذين
ذكروا عمر هذا المرصد.
ولقد أطلت
الوقوف عند هذا الإنجاز الحضاري لأنه من أعظم المنجزات الفلكية في القرن الثالث عشر
للميلاد الموافق للقرن السابع الهجري، وعلى كل حال فإن هذا السفر البالغة صفحاته
سبعمائة صفحة يتحدث بالتفصيل عن المراصد الفلكية في الإسلام من بداية القرن الثالث
للهجرة حتى نهاية القرن الثامن للهجرة، وكان بحث المؤلف دقيقا مستفيضا يدل على أنه
قد بذل فيه جهودا عظيمة.
مستشرق منصف
ويقتضي منا
الإنصاف أن نشير إلى الترجمة المطولة للدكتور آيدين صاييلي مؤلف هذا الكتاب التي
كتبها الدكتور أكمل الدين إحسان أو غلي، فقد ألم كاتب الترجمة بحياة الدكتور آيدين
إلماما ممتازا، حيث ذكر كل صغيرة وكبيرة مما يخص مكانة الدكتور آيدين ونشاطه في
تاريخ العلوم ومشاركاته في كثير من المؤتمرات العلمية التي عقدت في الولايات
المتحدة الأمريكية وتركيا وطهران كما أشار كاتب الترجمة إلى ما يتمتع به الدكتور
آيدين من حدة ذكاء عجيبة، اتضحت في أول امتحان في آخر صفوف المرحلة الثانوية،
ويتبين في هذه الترجمة ما يتصف به الدكتور آيدين من ميل قوي إلى التعريف بعلماء
الإسلام أمثال ثابت بن قرة والخوارزمي وابن سينا، ولعل الكتاب الذي حاولنا عرضه
في هذه المقالة أنصع دليل على إنصاف الدكتور آيدين لعلماء المسلمين، ولقد أحسن
الدكتور عبدالله العمر مترجم الكتاب حيث أضاف هذه الترجمة المفصلة لمؤلف الكتاب في
مقدمة الكتاب. ولا بد لي من أن أبين بعض ما بذله المترجم من جهد في نقله هذا الكتاب
من الإنجليزية إلى العربية ويكفي أن نعرف أنه أنفق سبعة أعوام ليخرج الكتاب على هذه
الصورة اللائقة وما أكثر ما ينفق كان الساعات الطوال مهاتفا الدكتور عبدالحميد
صبرة في أمريكا يستفسر منه عن بعض ما يغمض من الأمور، حيث تقرر أن يكون الدكتور
صبرة مراجعا للكتاب، وكان يرسل ما يترجم إلى العربية من ملازم الكتاب إلى مراجعة
الدكتور عبدالحميد صبره وهو أستاذ كرسي في جامعة هارفارد، وقد رجع الدكتور عبدالله
العمر مترجم الكتاب إلى 371 مصدرا على وجه التقريب، لأن المترجم أراد أن يقف على
مصادر المؤلف، إذ إن المؤلف كثيرا ما يأخذ المعنى من المصادر العربية والإسلامية،
وكان المترجم يحب أن يتأكد من صحة نقل المؤلف وفهمه للمعنى، وهو أمر مرهق حقا، خاصة
إذا علمنا أن مترجم الكتاب أستاذ في جامعة الكويت، يحرص أشد الحرص على أن يكون
تدريسه لطلابه في الجامعة تدريسا متقنا، وكان من الأساتذة الذين يجتمعون بطلابهم
ليرى ما يصعب عليهم في دروسهم. على أن مؤسسة الكويت للتقدم العلمي لم تطلب من
الدكتور عبدالله العمر ترجمة هذا الكتاب إلا لتأكدها أن صاحبنا حريص كل الحرص على
تأدية واجبه على خير وجه، ولكم أغنت مؤسسة الكويت للتقدم العلمي الثقافة العربية
بما تصدره من كتب مؤلفة ومترجمة في شتى أنواع الثقافة.