ويحدوني الأمل هاشم حمادي

بقلم: رايسا غورباتشوف

في الاتحاد السوفيتي - الذي كان - كانت تكرهها النساء، ربما لفرط أناقتها التي كانت تصفع رقة أحوالهن، وربما لتكلف حديثها المتناعم إذا ما قورن بفورات حديث الروسيات المثقلات بعبء التاريخ وعبء البيوت وعبء غموض المستقبل. أما في الغرب فقد كانت الصورة مختلفة، أطروا أناقتها، وامتدحوا ثقافتها، وأثنوا على عذب حديثها. امرأة مختلف عليها إذن، لكن المتفق عليه: أنها زوجة الرجل الذي تغير معه، أو به، وجه التاريخ في نهاية هذا القرن. ومن ثم فهي مرآة لزوجها، وفي قراءتها بعض قراءة له. وهذا بيت القصيد في قراءة كتابها ذلك.

في كتابها "ويحدوني الآمل" الصادر عن دار نوفوستي في موسكو في نهاية العام الماضي، تحاول رايسا غورباتشوف الغوص في أعماق الماضي لانتقاء قطع الفسيفساء المختلفة الأشكال والألوان، لتكون بها لوحة تمور بالحياة، تصور الماضي والحاضر، وتحاول أن تستشف المستقبل من خلال المقابلات الحية والصريحة مع الكاتب غريغوري برياخين. والكتاب، كما تقول صاحبته "ليس مذكرات ولا ذكريات، بترتيبها وتفاصيلها الدقيقة، وليس سردا منظما للأفكار والمواقف، وإن كان لهذه وتلك حضورها في الكتاب، بل إنه حديث صريح، عاطفي، فسيفسائي عن نفسي في الماضي والحاضر وعن الأحداث والانطباعات ... وصداها المباشر..."

تتحدث عن نفسها بنفسها

أما لماذا هذا الكتاب وصاحبته ليست كما تقول بالنجمة السينمائية، ولا الفنانة، ولا الموسيقية ولا عارضة الأزياء، ولا السياسية، ولا رجل الدولة. إنما زوجة الرئيس السوفييتى...؟ ولماذا خرجت الكاتبة عن الصمت المطبق، الذي لاذت به منذ عام 1985، وهي التي تلقت الكثير من العروض من الصحف والمجلات ودور النشر الأجنبية على مدى سنوات لإجراء مقابلات معها، أو للحصول على مذكراتها، فرفضتها وظلت ترفضها، لماذا نزلت أخيرا عند رغبة الناشرين الأجانب فأدخلت القاصي والداني إلى حياتها الخاصة والعامة، فكسرت بذلك الستار الحديدي، الذي كان مضروبا على زوجات كبار القادة السوفييت، وخرجت على التقليد البالي والذي كان يخطر على هؤلاء الزوجات إجراء أي مقابلات، أو إصدار أي كتب؟ .. على هذه الأسئلة وغيرها ترد الكاتبة في مقدمة كتابها بقولها: " إنني أخل ب"نذر الصمت" الذي لذت به منذ عام 1985 إن منطق الحياة نفسه هو الذي قادني إلى ذلك، كما دفعني إليه اللقاءات بالناس والاحتكاك بهم ... وفي خضم اللقاءات التي دفعتني إلى فكرة الكتاب رويدا رويدا، كانت اللقاءات على الأرض الأمريكية .. أضف إلى ذلك أن هذه السنوات شهدت ظهور العديد من الكتابات الصحفية عني، والتي تفتقر أحيانا إلى حسن النية وتنقصها سعة الاطلاع . مما يفتح الباب على مصراعية امام الأوهام والخرافات وحتى النميمة .. كل هذا جعلني أغير رأيي في نهاية المطاف .. وأتحدث عن نفسي بنفسي. عن فهمي للحياة ومظاهرها عما مررت به، عما هو قريب مني، وما هو غال علي.." . ولدت رايسا في عام 1932 في أسرة كان ربها يعمل في السكك الحديدية، مما كان يضطر الأسرة إلى التنقل باستمرار، أما الأم فكانت، ككل الأمهات الريفيات، غارقة في الأعمال المنزلية فهي تخيط، ترفع، تطبخ، تطرز، تنظف وتمارس أعمال التصليح والبستنة وحين تسمح الظروف كانت تقتني بقرة أو عنزا لتؤمن الحليب للأفراد.

عروس بحذاء مستعار

في عام 1949 تنتقل رايسا إلى موسكو للدراسة في الجامعة، وعلى مقاعد الدراسة تلتقي برفيق العمر، الذي كتب له ان يغير مجرى التاريخ .. كانت حياة الطلاب آنذاك في غاية التواضع إن لم نقل الفاقة والفقر. فقد كانت الغرفة الواحدة في المدينة الجامعية تضم بين 8 - 14 طالبا، وعلى الرغم من البرد القارس (حتى ناقص 40 درجة) تقول رايسا: "لم يكن لدينا - باستثناء قلة قليلة - الحذاء الشتوي الدافئ، ولا البياض الدافئ، ولا الجوارب ولا أعطية الرأس الشتوية، حتى ان الكثيرين كانوا بدون معاطف شتوية. وكنا نقتر في الإنفاق في كل مجال، في الطعام والتنقل. كيف؟ لم نكن ندفع في وسائط النقل .. وكنا نشتري أرخص البطاقات إلى المسارح ... كنا طلبة كادحين، فكنا نعمل حيث أمكن، نفرغ العربات المحملة بالخضار والفحم ... تزوجنا في خريف عام ثلاثة وخمسين، وكان ميخائيل سيرغيفيتش قد عمل في الحصاد طيلة الصيف لجمع نفقات العرس ... ولكن النقود لم تكف لشراء حذاء، فاستعرت حذاء صديقي".

الامتحان الصعب

وحتى بعد التخرج لم تتحسن أمور الزوجين المادية، فالزوجة رايسا ظلت بدون عمل دائم طيلة أربع سنوات، وراتب الزوج ألف روبل بالعملة القديمة، أي مائة روبل. في عام 1957 رزق الزوجان بباكورة زواجهما "إيرينا".

ومن خلال عملها كباحثة اجتماعية تعرفت رايسا غورباتشوف ميدانيا على الكثير من المشاكل التي كانت ولا تزال تواجه تطور المجتمع السوفيتي.

يقول الكاتب برياخين في تقديمه لكتاب رايسا: "كانت تطوف القرى والدساكر في حذاء من المطاط، إذ لم يكن بالإمكان الوصول إلى قرانا آنذاك في موسم الأوحال إلا بمثل هذه الأحذية، وبينما تحاول انتشال حذائك من الطين إذا بقدمك في الجورب الصوفي هي التي تخرج. وكانت تشرب الشاي مع العجائز ومن حارب على الجبهة، ومع الأرامل. إن مهنة المشي هي مهنة الباحث الاجتماعي في الريف".

أما رايسا غورباتشوف فتتذكر تلك الأيام الخوالي والغصة في قلبها، وعن إحدى النسوة التي التقتهن كتبت تقول: ".. وصلت بيتها في وقت متأخر من المساء ومعي ورقة الاستبيان الطويلة ذات الثلاثين سؤالا. وبعد الحديث، والرد على أسئلتي الكثيرة والدقيقة، تنهدت وسألت:

- ما بالك يا ابنتي نحيفة إلى هذا الحد؟

- ماذا تقولين. كلا إنني طبيعية ...

- لابد أنك بدون زوج؟

- بل عندي ..

- لابد أنه يضربك!

- كلا

- هل يشرب؟

- ماذا تقولين؟ كلا بالطبع

- ما بالك تخدعينني يا ابنتي. لقد عشت طويلا وأعرف أن السعيد في حياته لا نتقل من دار إلى دار.

وتضيف رايسا: حين أتذكر الماضي غالبا ما أفكر في هذه المرأة التي ترمز بالنسبة لي إلى الكثير: مصير البلاد وحياة الكادحة الريفية".

ثم تتحدث رايسا بكل ألم عن الأجواء الإدارية البيروقراطية في إقليم ستافروبول وعن البطالة المقنعة بين الاختصاصيين وحملة الشهادات العالية وعن سياسة التدريس غير الواقعية، إن من حيث مستوى التدريس، وإن من حيث نظامه وبنيته، وعن تجربتها في التدريس الجامعي تقول رايسا: "ما زلت أذكر محاضرتي الأولى في تاريخ الفلسفة في معهد الطب في ستافروبول .. كنت آنذاك أفتقر تماما إلى التجربة، ولم يكن لدي الإحساس اللازم للتنسيق بين زمن المحاضرة ومادتها كما لم تكن لدي مواضيع احتياطية للحوار مع الطلاب في حال انتهاء المحاضرة قبل الوقت المحدد ... كانت القاعة تضم حوالي 200 مستمع، بالإضافة إلى لجنة التفتيش، التي كانت تضم رؤساء الكليات وأشهر علماء الاجتماع في المدينة .. ولكم أن تتصوروا مدى اضطرابي ومدى قلقي، وقد أنهيت المحاضرة قبل نصف ساعة من قرع الجرس. يالنصف الساعة ذاك؟ لم أعرف كيف أقضيه، ولا ماذا أفعل وكم شعرت بالحرج أمام الطلاب وأمام اللجنة".

ولادة البيريسترويكا

وبكل ألم تشير الكاتبة إلى أن رحيل بريجينيف وقدوم أندروبوف ومن ثم تشيرنينكو لم يغير في وضع البلاد شيئا. ولكن النصف الأول من الثمانينيات كان يبشر بأن البلاد على أبواب الإصلاحات. وتتذكر رايسا الليلة التي سبقت تعيين زوجها أمينا عاما للحزب فتقول: ".. العاشر من آذار - مارس - 1985توفي قسطنطين تشيرنينكو. وفي العاشرة مساء عقد المكتب السياسي جلسة طارئة، ولم يعد ميخائيل سيرغيفيتش إلا في وقت متأخر ... خرجنا إلى الحديقة ... وكان ميخائيل سيرغيفيتش متعبا جدا. في البداية لاذ بالصمت، ثم لم يلبث أن قال: غدا سيعقد الاجتماع الكامل. وقد تطرح مسألة رئاستي للحزب. كان هذا الحديث مفاجئا لي، لا بل وصدمة إلى حد ما. والأكثر من ذلك أنني أدركت أن ذلك كان مفاجئا لزوجي أيضا ولم يسبق لنا أن تحدثنا في هذا الموضوع من قبل.

كنا نتمشى في الحديقة، وكان الثلج لا يزال يغطي الأرض، وعاد زوجي إلى صمته، ولكنه لم يلبث أن استأنف كلامه، وكأنه يفكر بصوت عال: " كم سنة عملت في ستافروبول، وهنا في موسكو أعمل للعام السابع، ولكن لا سبيل إلى تنفيذ أي شيء ضخم، واسع النطاق وملح لكأنك امام جدار، في الوقت الذي تتطلب فيه الحياة ذلك ومنذ عهد بعيد، كلا لا يجوز الاستمرار في العيش على هذا النحو..".

وفي اليوم التالي أصبح غورباتشوف أمينا عاما للحزب، وبدأت مسيرة الإصلاحات التي عرفت فيما بعد باسم / البيريسترويكا / (إعادة البناء) في المجالين الاقتصادي والسياسي، وإشاعة الديمقراطية والقضاء على الهياكل الإدارية والبيروقراطية البالية، وترسيخ مبدأ التفكير الجديد في العلاقات الدولية الذي يعني تفوق السياسة على القوة، كما يعني عدم التدخل في شئون الآخرين والحيلولة دون حدوث الكارثة النووية والبيئية العالمية.

سنوات "البيريسترويكا" أعطت الكثير: إشاعة الديمقراطية في مجمل حياتنا، ظهور التفكير الجديد في السياسة الدولية .. الثقة الوليدة بإمكان الحياة بدون حرب.. ومع ذلك فإن ما أعطته قليل، فالبلاد تعاني وتقاسي، والمشاكل تراكمت منذ عشرات، بل مئات السنين.

وهناك مصاعب إحلال التفكير الجديد، ونقص السلع الاستهلاكية. كما ان هناك شيئا آخر في غاية الأهمية، ففي الزمن الانتقالي العكر تظهر - كما يقول دستويفسكي - مختلف أشكال القمامة. ومع الأسف فإن البيريسترويكا لم تكن بمنجاة من هذه القمامة الخطيرة والهدامة، ولكن هل كان للأمور أن تجرى على نحو آخر؟ إنه زمن الآمال والمخاوف، زمن التحولات والتكسير، زمن التأملات والشكوك"

ثورة من نوع جديد

ثم تتحدث الكاتبة طويلا عن صدى سياسة غورباتشوف بين الجماهير، وتستشهد على ذلك بمقاطع من آلاف الرسائل، التي كانت ترد باستمرار، وبكميات كبيرة(93 ألف رسالة خلال كانون الثاني وشباط من عام 1991م). وتعتبر الكاتبة أن هذه الرسائل تشكل المرآة الأكثر صدقا ودقة، والوثيقة الأكثر نزاهة عن عصر البيريسترويكا فهي تؤرخ لها، وتضع أفكارها على طاولة التشريح، تسدي النصائح، وتدلي بالآراء، وتعرب عن التأييد وتمور بالأمل والتفاؤل.

وفي خاتمة كتابها تشير رايسا إلى أن البيريسترويكا غالبا ما توصف بأنها ثورة وإذا كانت كذلك فإنها بالنسبة لروسيا الغنية بالثورات، ثورة من نوع جديد، لم يسبق له مثيل لأن غورباتشوف وضع منذ البداية نصب عينيه القيام بها في قالب ديمقراطي، بدون دماء وتنكيل، وتعترف الكاتبة بألم بأن البيريسترويكا لم تتم بدون ضحايا، لكنها كشفت عن الرياء والنفاق وتعدد الوجوه والمهارة في استبدال الأقنعة ... وتتحدث بأمل عن الوقت الذي ستشعر فيه النفوس بمزيد من الطمأنينة.