300 عام على ميلاد فولتير أحمد درويش

300 عام على ميلاد فولتير

عشق الشرق ولكنه هاجم الإسلام

عندما حمل فولتير لدى عودته من إنجلترا سنة 1729، اسم شكسبير، وقدمه لقراء الأدب في فرنسا وجنوب أوربا، وساعد على الانتشار الواسع لعبقريته المسرحية، فقد سمح هذا لعبقرية كبرى مثل شكسبير بأن تعبر إلى شاطئ البحر المتوسط والمياه الدافئة تحت معطف فولتير، وقد جاءت لحظة أخرى مماثلة بعد قرن كامل عندما حمل الشيخ رفاعة الطهطاوي 1801 - 1873 عند عودته من بعثته إلى فرنسا اسم فولتير، وأن تعبر عبقرية الشاعر الفرنسي، البحر المتوسط وتدخل إلى الشرق العربي، تحت جبة الشيخ رفاعة الطهطاوي عندما تحدث عنه في كتابه "تخليص الإبريز في تلخيص باريز" فقال: "وقرأت مع مسيوشواليه كتابا صغيرا في المعادن، وترجمته، وقرأت كثيرا من كتب الأدب، فمنها مجموع نوبل، ومنها عدة مواضيع من ديوان فولتير وديوان راسين، وديوان روسو، خصوصا مراسلاته الفارسية التي يعرف بها الفرق بين آداب الإفرنج والعجم وهي أشبه بميزان بين الآداب المغربية والمشرقية". وفولتير هنا يضاف إلى ثقافة رفاعة وثقافة المشرق العربي من بعده باعتباره شاعرا مثل راسين وروسو، وهو يقدم مثلهم باسم شهرته دون ألقاب. ولكن رفاعة عندما يتقدم في سرد قراءاته في الفرنسية فيذكر ما قرأه من كتب المفكرين، سوف يخص فولتير بلقب لا يمنحه لأحد سواه وهو لقب "الخواجة فولتير".

وربما كان سر إيثار فولتير بلقب الخواجة، هو ما ارتبطت به دلالات اللقب في العامية المصرية حتى الآن من الدلالة على شخص أجنبي له اتصال بنا أو نراه بيننا، ورفاعة من خلال هذا الإطلاق يعطي مفتاح سر الإعجاب بكتابات فولتير، التي تحمل في الكثير منها طابعا شرقيا، سواء في الموضوعات أو التكتيك. وكأن كثيرا من المادة الخام التي صاغها فولتير من خلال مسرحياته ورواياته وأشعاره، مجلوبة من بازارات الشرق، وقد أعيدت صياغتها وطرحت من خلال الأسئلة الجذرية التي فجرت موجات من التفكير والتعبير لم تتوقف في الأدب والفكر العالمي حتى الآن.

مطالع الشموس

ولقد تمثلت هذه النزعة منذ بداية اختيار مترجمات لفولتير إلى العربية، وهي البداية التي تمتد الآن أكثر من قرن ونصف القرن وتعود إلى سنة1842م عندما اختارت مدرسة رفاعة للترجمة رواية "مطالع الشموس Histoire de Charlesx " السيارة في وقائع كارلوس الثاني عشر وأصدرتها مطبعة بولاق بترجمة محمد مصطفى أحد تلاميذ رفاعة الطهطاوي، وكان جزء مهم من دوافع الترجمة، هذه الصفحات التي وردت فيها والتي تمجد الشرق من خلال اتصال كارلوس الثاني عشر أو شارل دوز ملك السويد بدولة الخلافة الإسلامية في تركيا، عندما كان أسيرا بها.

وإذا كان ملك السويد الأسير في بلاد المسلمين قد شكل موضوعا لمسرحية كتبها فولتير سنة 1731 م، فإنه لم يمض عام واحد، حتى كانت "Zaire زائير" الطفلة المسيحية الأسيرة في بلاد المسلمين موضوعا لعمل آخر كتبه فولتير سنة 1732م. وصور من خلاله حريم السلطان، ومناخ الشرق خلال القرن الثاني عشر عصر الحروب الصليبية، والالتقاء الواسع بدرجاته المختلفة بين الشرق والغرب، فزائير طفلة مسيحية يأسرها المسلمون في صباها وتنشأ على العقيدة الإسلامية وهي لا تعرف الكثير عن فرنسا غير أنها مسقط رأسها وهي تقيم في حرم سلطان المسلمين في بيت المقدس أو روزمان، ويتبادلان المحبة وهما على وشك الزواج، لكن أسيرة مسيحية أخرى هي "فاتيما" تؤنب "زائير" على أنها نسيت مسيحيتها، وترد عليها "زائير" بأن اعتناق دين ما هو إلا عادة تتحكم فيها ظروف تاريخية وجغرافية وبشرية تحيط بنشأة الإنسان، أما السلطان أو زومان فيصوره فولتير على أنه رجل فاضل لدرجة أنه يعاهد "زائير" على إلغاء نظام "الحريم" الذي يشتهر به أمراء الشرق، وأن يكتفي بها زوجة واحدة. ويصور فولتير أسيرا آخر هو "نير ستام" وهو أخوزائير، لكن السلطان لا يعرف ذلك، ويحاول نير ستام الذي حظي بفك أسره أن يثني أخته عن فكرة الزواج بالسلطان ولكنها تتمسك به، فيحاول على الأقل أن يعيدها إلى المسيحية قبل أن يسافر وتوافقه بعد طول ممانعة، ويعطيها موعدا يلتقيان فيه لإعادة تعميدها، ولكن السلطان الذي كان يتابع الأمر، ظن أنه موعد بين عشيقين، فتربص لهما وطعنهما بخنجره، وعندما علم بحقيقة الأمر وأنه قتل حبيبته التي تمسكت به طعن نفسه أيضا، بخنجره ومات.

وقد ترجمت "شارل دور" سنة 1842 م وترجمت "زائير" إلى العربية سنة 1943 على يد نجيب فرج الله.

تأثير ألف ليلة وليلة

وإذا كان "شارل الثاني عشر" و"زائير" شخصيتين غربيتين عكستا رؤيتهما للمشرق في كتابات "الخواجة فولتير" فإن كثيرا من الشخصيات المشرقية المنبع والملامح والأسماء قد شكلت أدب فولتير، وأثبتت شدة تأثره بالقصص الشرقية، وخاصة "ألف ليلة وليلة" التي كانت ترجمة أنطوان جالون، قد قدمتها للقارئ الفرنسي منذ أو ائل القرن الثامن عشر، ولم يتردد فولتير في الاعتراف بأنه قرأها أربع عشرة مرة قبل أن يمارس كتابة القصص، ويبدو أن طه حسين أراد أن يرد له جانبا من الجميل، فقال في مقدمة ترجمته لقصة "زاديج" "قد قرأت هذه القصة مرات توشك أن تبلغ عشرا، وأكبر الظن أنني سأقرؤها وأقرؤها وقد وجدت فيها متعة العقل والقلب والذوق.

وفي مقدمة هذه القصة أيضا، يشير طه حسين إلى استيراد فولتير لحكايته من "بازارات" الشرق فيقول: " وقد مر بفولتير طور من أطوار حياته الأدبية قرأ فيها ترجمة "ألف ليلة" فشاقته وراقته ووجهته إلى دراسة أمور الشرق فغرق في هذه الدراسة إلى أذنه، وأخرج للناس قصصا شرقية بارعة كثيرة، منها هذه القصة، وأرجوأن يتاح لي أن أترجم لقراء العربية طائفة من قصصه الشرقية الأخرى.

لقد استغل فولتير مسرح الحضارات العريقة في الشرق الممتدة زمانيا آلاف السنين، والممتدة مكانيا على ربوع بابل وبلاد العراق وبلاد الصين وجزيرة العرب، لكي يختبر موقف القوة الإنسانية في مواجهة القدر وليمتحن في شكل روائي الفرص المتاحة أمام الحرية الفردية في مواجهة شبكة القدر، وهي فرضية شكلت أحد أسس المسرح الإغريقي القديم في أساطيره وصراعاته مع الآلهة، ولكن فولتير اختار شخصية "زاديج" أو "صديق" البابلية لكي يعرضها لمجموعة من المواقف القصصية الممتعة والفلسفية الدافعة للتأمل. فزاديج يحب "سميرة" حبا عميقا على استحياء، وهي تبادله المحبة ويحلمان بيوم الزواج ويعدان له، وفي إحدى نزهاتهما حول حدائق المدينة، تتعرض سميرة لهجوم من شاب طائش يتبعه عبيده، فينقض زاديج للدفاع عنها والتضحية بنفسه لإنقاذها، ويصارع أربعة من الرجال وينجح في إنقاذها من مخالبهم بعد أن يصاب هو بجرح غائر في عينه اليسرى، ويزداد إعجاب سميرة بصديق، ويزداد حزنها على ما أصاب عينه وتصر على أن يدعى أمهر أطباء العصر، وهو الطبيب هرمس من ممفيس لمعالجته، وحين يصل هرمس يعلن على الفور، أنه كان يستطيع شفاء الجرح لوأنه كان في العين اليمنى، أما اليسرى فلا شفاء لها ويجزم بأن زاديج سوف يعيش بقية عمره "أعور" وتحزن المدينة على زاديج وتعجب بشدة علم هرمس وتعلم سميرة بالأمر، وبعد يومين يفاجأ زاديج بأن جرحه قد برأ من تلقاء نفسه، فيهرع إلى سميرة لكي يزف إليها النبأ، فيقال له: إنها عندما سمعت كلام هرمس قالت إن أبغض شيء إليها هو منظر الرجل الأعور، وأنها تزوجت في اليوم نفسه من غريم زاديج الذي كان قد هاجمها وهاجمه منذ أيام قليلة، وتستمر حلقات "القدر" فيتزوج زاديج من فتاة بسيطة أخرى هي "عذورة" التي تعده ببذل أقصى درجات الوفاء، والتي تأتي له ذات يوم شاكية من أن الأرملة "قصروة" لم تحافظ على وفائها لزوجها الراحل، لأنها كانت قد أقسمت أن تقيم بجوار قبر زوجها، ما ظل الغدير القريب من القبر يجري، ولكنها بعد فترة بدأت هي نفسها تفتح ثغرات لكي يتسرب منها ماء الغدير حتى يجف وتستريح من نذرها الثقيل، وأراد زاديج أن يختبر قدرة الوفاء عند زوجته، فانتهز فرصة سفر سريع لها وأشاع خبر موته هو، وعند عودة زوجته است قبلها صديقه "قادور" وأبلغها الخبر وواساها، وظل قريبا منها يلاطفها حتى بدأت في نسيان الأحزان والميل إليه، وذات ليلة تظاهر بالألم الشديد فجزعت، فقال لها إن شفاءه يكمن في شم أنف ميت حديث الموت فقررت على الفور أن تنبش قبر زوجها وأن تقطع أنفه لكي يشمه الصديق الجديد فيشفى، وأمسك زاديج - المتظاهر بالموت - بالموسى في يدها قبل أن يمتد إلى أنفه فيقطعه، وذكرها بقصة تحويل الأرملة لماء الغدير. ويدرك زاديج بعد هذا الموقف أن الوفاء لا مكان له، فيقرر الرحيل والإقامة على شاطئ الفرات للتأمل والتفكير، ويتعرض لكثير من سخريات الأقدار فإذا أبدى العلم والخبر كوفئ بالإيذاء والسجن، وإذا أبدى المصارحة كانت العواقب غير سليمة، وخلال ذلك يلجأ إلى وسائل غير مباشرة في معالجة التواء النماذج البشرية فإذا وجد حاكما يحب الإطراء والنفاق في بلاد بابل سلط عليه المنافقين المحترفين الذين يلاحقونه ليل نهار بالنفاق حتى يدرك أن لا لذة في دوام اللذة فيعود إلى طبيعته، وإذا وجد حاكم جزيرة سرنديب في حيرة من اختيار خازن أمين لبيت المال، قدم له نصيحة مبتكرة تتمثل في دعوة المرشحين إلى حفلة رقص داخل القصر، ويدير ممرا صغيرا خافت الأضواء قبل صالة الرقص ويملؤه بالكنوز والجواهر الثمينة، وعندما يبدأ الرقص يلاحظ أن اثنين وستين مرشحا من بين ثلاثة وستين، كان رقصهم ثقيلا بسبب ما أخفوه في ملابسهم من جواهر سرقوها، وأن واحدا فقط كان رشيقا لأنه كان أمينا فلم يخف في ملابسه شيئا فوقع عليه الاختيار، وهكذا امتدت مغامرات زاديج فأحبته زوجة ملك بابل، ورحل إلى منف، واستعانت به امرأة مصرية جميلة لينقذها من رجل فظ يضربها، فلما دافع عنها هجم عليه الرجل فكاد أن يقتله، ونجح زاديج في النهاية في قتله فإذا بالمرأة تنقلب صارخة وتطالب الناس بأن يقتلوا زاديج وتمتد مغامراته إلى جزيرة العرب التي يساق إليها رقيقا مع أحد التجار، وإلى بلاد البصرة التي يرى فيها نقاشا حادا بين الهنود والصينيين والبابليين والمصريين القدماء حول عقائدهم الدينية المختلفة، وإلى مكر التجار اليهود حيث يواجههم زاديج بحيل ذكية تشبه حيل جحا في التراث العربي.

وعلى هذا النحوكانت "زاديج" نمطا للقصص الشرقي المستلهم في حل التساؤلات التي واجهت المفكرين والفلاسفة والروائيين في أوربا في عصر التنوير.

الراوي المجهول

وقد امتد تأثير القصص الشرقي على فولتير فتصور نفسه قصاصا شرقيا، حتى في قصصه الغربية، وكان في كثير من الأحايين يتقمص شخصية "الراوي المجهول" في حكايات ألف ليلة وليلة، ويسير على خطاه خاصة في تحديد لون العلاقة بين الحكاية ومؤلفها.

ولا شك أن هذه العلاقة تختلف في عمل مثل "ألف ليلة وليلة" عن العلاقة المعروفة قديما وحديثا بين المؤلف وكتابه، فعلى حين حرص التراث الأدبي والفكري في الشرق والغرب على أن يربط أثرا ما باسم سقراط أو أرسطو أو المتنبي أو شكسبير، فقد انقطعت العلاقة في ألف ليلة وليلة بين المؤلف والكتاب، واكتسبت من خلال هذا بعدا سحريا بانتمائها إلى مؤلف وهمي قديم أو بانتمائها إلى كل الناس.

وقد حرص فولتير في كثير من الأحيان أن يكسب قصصه هذا البعد، ويجعل نفسه كأنه مجرد "راو" أو مترجم. فقصة "زاديج" تطرح بين يديها رسالة شعرية من الشاعر الفارسي سعدي في القرن التاسع الهجري "الخامس عشر الميلادي" يهدي خلالها إلى السلطانة قصة زاديج، وكأن هذه الرسالة حلقة في رواية قصة عريقة، ترويها كل الأجيال، وقد تلقفها فولتير ليعيد روايتها فهو ليس مؤلفها، وإنما راويها.

ويتكرر الموقف نفسه في مدخل قصته الشهيرة كانديد التي كتبها سنة 1759. فقد كتب في مقدمتها أيضا أنها ترجمة لقصة ألمانية كتبها الدكتور رالف، مع الحلقات التي وجدت في جيب الدكتور حين توفي في مدينة مندان سنة 1759. وليست هذه العبارة إلا أحد الأقنعة التي اقتبسها فولتير من الراوي الشرقي في ألف ليلة، وأعاد تشكيلها بما يتلاءم وعصره، لأن شراح فولتير يؤكدون أن أفكار كانديد تعود أصولها إلى قصيدة زلزال لشبونة التي كتبها فولتير نفسه قبل ذلك بأربع سنوات سنة 1775.

"وكانديد" التي مثلت واحدة من أشهر قصص فولتير، عكست في ثوب روائي شائق، السخرية من الفلسفة التي كانت سائدة في عصره على يد القساوسة ومن ساندهم من الفلاسفة، والمتمثلة في عبارة لايبنتز: ليس في الإمكان أبدع مما كان". وقد تعرضت فلسفة التفاؤل هذه لمفارقات كثيرة على يد "كانديد" الذي كان يعيش في قصر خاله البارون، ولم تكن أم كانديد قد سمح لها بالاقتران رسميا بوالده الفارس لأنه لم يستطع أن يعد من سلالته أكثر من واحد وسبعين جدا من الفرسان، وكان الفيلسوف "بانجلوس" هو معلم القصر الذي يؤكد وجود العلاقة بين العلة والمعلول، وقد حاول كانديد تطبيق هذه العلاقة مع الفتاة الجميلة "كونجوند" ابنة البارون الشابة التي كانت تحبه ويحبها، فتبادلا قبلة سريعة طرد على أثرها من القصر، وتعرض بعد الطرد لمغامرات، فقد جند في جيش البلغار، ووجد نفسه يمارس القتل ويتعرض له دون سبب واضح، وآلاف الجنود يقتلون بلا هدف، وعندما تمكن من الهرب وكاد أن يهلك جوعا لجأ إلى أحد القساوسة الذي بادر إلى سؤاله عن رأيه في المسيح الدجال قبل أن يعطيه طعاما ولما لم يجبه طرده دون أن يجود عليه بلقمة ولجأ إلى رجل هو لندي علمه صناعة النسيج، والتقى بعد ذلك غيتسبول مشوه الوجه اكتشف أنه الفيلسوف بانجلوس الذي علم منه أن البلغار هاجموا قصر البارون وقتلوا أهله جميعا، وأن وجه الفيلسوف تشوه من مرض الزهري الذي أصابه من وصيفة في القصر كانت لها علاقة بقسيس كان من قبل عشيقا لكونتيسة عجوز التقطت المرض من كابتن في الخيالة، وظن كانديد أن الشيطان لا بد أن يكون أصل هذه السلسلة التي كان ضحيتها الفيلسوف بانجلوس الذي كان مصرا على أن الخير والتفاؤل هما الأصل في كل الأشياء.

ويرحل كانديد إلى لشبونة مع التاجر الهو لندي، بعد أن يقنعه بإلحاق بانجلوس في عمل كتابي عنده، وتهجم عاصفة شديدة على السفينة فيكاد يغرق بانجلوس لولا شهامة التاجر الهو لندي الذي يضحي بنفسه في سبيل إنقاذ بانجلوس، وما إن يهبطا برشلونة مع بحار عربيد حتى تزول المدينة من الوجود أمام زلزال عنيف، يروح ضحيتهثلاثون ألفا، ويستمر بانجلوس مع ذلك في الدعوة إلى التفاؤل ويجاهر بدعوته فلا ترضى عنه محاكم التفتيش التي كانت ترى أن الزلزال عقاب لأهل المدينة فتأمر بشنق الفيلسوف المتفائل، ويكتشف كانديد بعد فترة أن حبيبته كانجوند لم تمت في الهجوم البلغاري وإنما أفلتت هي وأخوها، وأن صديقه الفيلسوف بانجلوس لم يمت تماما في مشانق التفتيش وإنما ترك بين الحياة والموت فأفلت، فيقرر السفر إلى أمريكا للبحث عن حبيبته ويصطحب معه فيلسوفا متشائما هو مارتن الذي يرفع شعار: ليس في الإمكان أسوأ مما كان.

ثم يعود إلى البندقية، حيث يلتقي في أحد فنادقها ستة من الملوك المخلوعين من بينهم السلطان أحمد الثالث الذي خلع ابن أخيه السلطان محمود من عرش تركيا، وكذلك إمبراطور روسيا السابق، وملك إنجلترا، وملك بولندا، وملك كورسيكا الذي أصبح مفلسا ويعلم أن حبيبته أسيرة في بلاد الترك، فيرحل باحثا عنها وعن الحكمة ومعه فيلسوفان أحدهما متفائل والآخر متشائم، ويشتد الجدال المنطقي والسياسي والاجتماعي بينهما، ويجد ضالته من الحكمة أخيرا عند شيخ من دراويش الأتراك المسلمين يهتم بمزرعته الصغيرة التي يرعاها هو وأبناؤه وبناته ويأكلون من خيرها ويكرمون به صفوفهم، ولا يعلمون شيئا عن أسماء الوزراء في استنبول ولا يتجادلون في المنطق أو الفلسفة أبدا.

إن الملامح الشرقية في أدب فولتير لا تقف عند استلهام أساطير الشرق، والتقنيات الفنية لحكاياته، ولكنها تمتد أيضا إلى تاريخ الشرق، كما مدنا في روايته التي ترجمها إلى العربية جلال مظهر سنة 1947 بعنوان "أميرة بابل"، وقدمت مزيجا تاريخيا وأسطوريا من تاريخ مصر والهند وبابل والصين، ومظاهر الحياة في بلاط الملوك والأمراء، وغرائب السحرة ومعجزات الأنبياء.

الجهل بالإسلام

ولا شك أن المسرحية التي كتبها فولتير سنة 1742 م بعنوان "ماهو ميت" في تحريف واضح ومقصود لاسم نبي الإسلام محمد، مثلت أشد المواقف سخونة واصطداما في التعامل مع تراث الشرق واتخاذه طريقة للتعبير عن فكرة فولتير المحورية وعدائه لرجال الدين المسيحي في عصره، والهجوم عليهم من خلال رمز مواز، وكما يقول العقاد: لم يشأ فولتير أن يهجم على سلطان رجال الدين في الغرب هجمة صريحة، وكان يهمه عند كتابة تلك المسرحية أن يعلن آراءه ولا يتعرض من جرائها للسخط والحرمان، فاتخذ ذلك الأسلوب المنحرف، ولم يكترث لحقائق التاريخ ولا للأدب في الخطاب، ونسب إلى النبي صلى الله عليه وسلم، أمورا كان يريد أن ينسبها إلى الجامدين من رجال الدين في عصره، فلم يخف قصده على العارفين ولامه هؤلاء على التوائه وعلى نفاقه وريائه، وكان من هؤلاء اللائمين نابليون، في حديثه مع الشاعر الألماني جيته، فإنه أنكر تلك الصورة الشوهاء، وقال إنها لا تصدق على محمد، إن محمدا لرجل عظيم ولا يجمل تصوير العظماء بهذا الأسلوب، ويضيف العقاد: إن كلام فولتير عن الرسول يعتبر نمو ذجا للصراحة المبرقعة في الحملة على أنصار الجمود، وقد كان كل كلام عن الرسول من هذا القبيل يجمع بين الرياء والجهل بحقيقة الإسلام.

ورأي العقاد يدخل في دائرة رد الفعل المعتدل إزاء مسرحية فولتير لدى الكتاب العرب، والذي يفسر جانبا من بطء حركة فولتير لدى عامة المثقفين العرب، بالقياس إلى حركة أدباء فرنسيين آخرين من أمثال مونتسيكيو، أو راسين، أو فكتور هيجو، ممن لم تصطدم كتاباتهم مع أحد الأركان الرئيسية في الشعور الديني.

غير أن هذا التحديد النسبي للدائرة التي تحركت فيها ترجمات فولتير إلى العربية لم يمنع ترجماته من الوجود الحي المؤثر في مجالات مختلفة ولدى شرائح متعددة وأجيال متعاقبة من المفكرين والكتاب والأدباء العرب على امتداد أكثر من قرن ونصف القرن.

بل إن اسم فولتير أصبح رمزا لكثير من القيم، مثل قيمة التسامح التي شاعت في التعبير عنها عبارته المشهورة: " لا أشاركك آراءك ولكني مستعد أن أبذل عمري من أجل أن تعبر عنها وتحياها بحرية".

واقترن كذلك بفكرة الرغبة في تحطيم القيود التي تحد من حرية الفكر وتصادر على المفكرين آراءهم، أيا كانت الدوافع التي تقف وراء هذه المصادرة، كما أصبحت فكرة "التنوير" تجد مصادرها في الفكر الحديث راجعة إلى القرن الثامن عشر، الذي كان يطلق عليه "عصر التنوير" والذي كان فولتير واحدا من أبرز أعلامه إلى جانب مونتسكيو، وديدرو، وروسو، ومن هذا المنطلق فلم يكد يتوقف عقد زمني منذ أكثر من قرن ونصف القرن عن تقديم ترجمة جديدة لأحد أعمال فولتير إلى العربية، بل إن بعض أعماله أعيدت ترجمتها إلى العربية أكثر من خمس مرات مثل رواية "كانديد" ورواية "زاديج" وبعضها الآخر مثل على مسارح الأقاليم في مصر منذ أكثر من مائة عام كما حدث مع رواية "ميروب" التي ترجمها القاضي محمد عفت بعنوان: "تسلية القلوب في مسرحية ميروب" ومثلتها جمعية روضة الأدب في المنصورة سنة 1889.

ولم تتوقف رحلة فولتير مع القارئ العربي منذ أن أدخله رفاعة الطهطاوي تحت جبته إلى الشرق، واستمر حوار الفكر العربي مع معطيات فولتير تمثلا، أو مناقشة، أو قبولا، أو تحفظا وأصبح تراثه في مجمله يشكل جزءا من النسيج الأساسي لشريحة رئيسية في الفكر العربي الحديث.

 

أحمد درويش

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات