الإسلام السياسي في المغرب نصر حامد أبوزيد

.. نظرة محايدة
المؤلف: فرانسوا بورجا

الإسلام السياسي، خاصة في المغرب العربي، قضية شغلت الرأي العام العربي والعالمي.. ومع أحداث الجزائر الأخيرة اقتضت الظاهرة ، وحتمت تناولها وفرضت نفسها على المفكرين والباحثين. وهنا نعرض لهذا الكتاب المهم الذي كتبه أحد الباحثين البارزين.

هذا الكتاب الذي نقدمه اليوم للقارئ العربي كتاب مهم من عدة زوايا: الأولى: أنه يقدم ظاهرة " الإسلام السياسي" من منظور المراقب الغربي، أي الباحث الخارجي الذي تتمتع رؤيته بدرجة من الموضوعية قد لا تكون متاحة بالقدر نفسه من الوضوح للباحث العربي المسلم، سواء كان هذا الأخير متعاطفا مع الظاهرة أم كان معارضا لها. الباحث هنا في هذا الكتاب محايد إلى حد كبير، أي بقدر ما تسمح به حدود الموضوعية الإنسانية.

الزاوية الثانية أنه عن ظاهرة الإسلام السياسي في المغرب العربي. ورغم أن الظاهرة في مجملها تتمتع بخصائص متشابهة في كل أنحاء العالم العربي والإسلامي، فإن الخصوصيات المحلية غائبة إلى حد كبير، وذلك بسبب عمليات التعتيم الإعلامي في كل إقليم عربي لما يحدث في الإقليم الآخر، خاصة إذا كان مرتبطا بظاهرة الإسلام السياسي، إلا فيما يرتبط بأحداث "العنف". ومن هذه الزاوية يتطابق الإعلام العربي مع الإعلام الغربي - والفرنسي خاصة - في تصوير الظاهرة في صورة "العفريت" أو "الشيطان" الذي يهدد التقدم والحضارة والمدنية.

الزاوية الثالثة أن الكتاب ليس بحثا في الأيديولوجيا، أو اشتباكا مع مقولات ومفاهيم، بقدر ما هو بحث في الفعالية الحركية السياسية والاجتماعية وهو أمر مفتقد إلى حد كبير في الكتابات العربية التي تدخل مباشرة في سجال فكري مع أو ضد، ولا تهتم إلا قليلا بجانب الفعالية السياسية. وليس معنى ذلك أن الباحث في هذا الكتاب يتجاهل البعد الأيديولوجي تجاهلا تاما، لكنه يتعرض له بالقدر اللازم لتفسير الفعالية السياسية والقدرة على التعبئة التي يتمتع بها الإسلاميون.

الزاوية الرابعة أن الكتاب يعتمد اعتمادا أساسيا على شهادات زعماء الحركات الإسلامية في دول المغرب العربي. وهي شهادات مسهبة حرص المؤلف على إيرادها كاملة، الأمر الذي يضيف للكتاب بعدا وثائقيا يجعله مهما للباحثين المتخصصين.

الظاهرة بين النشوء والاكتمال

فالكتاب بالإضافة إلى ذلك كله يكاد يتناول الظاهرة من جوانبها المتعددة فيبدأ منذ الفصل الأول بمناقشة "صعوبة التسمية" متناولا كل الأسماء ودلالاتها. وفي الفصل الثاني يكشف عن أسباب ميلاد الظاهرة ونموها في صيرورة المجتمع العربي ذاته حال انتقاله من تقليديته إلى خضوعه للاستعمار والالتقاء بأوربا، ثم نضاله ضد هذا الوجود الاستعماري بكل ما يمثله من قيم ورموز، ثم ميلاد الدولة القومية وفشل المشروع القومي، وميلاد الإسلام السياسي مشروعا بديلا. ويخصص الفصل الثالث لمناقشة الآليات الخاصة لظاهرة الإسلام السياسي، وكيف انتقلت من الخطبة (المسجد) إلى الانتخابات (الحياة السياسية).

وتعتبر هذه الفصول الثلاثة بمثابة محاولة لاكتشاف القوانين العامة المؤسسة لصيرورة الظاهرة بصرف النظر عن خصوصيات كل إقليم من الأقاليم العربية، من هنا تأتي خصوبة التحليل وعمق التناول - فالظاهرة ليست نبتا دخيلا طارئا كما يحلو للإعلام أن يصور، بل هي محصلة طبيعية ناشئة عن مناهضة الاستعمار أولا، ومتطورة عن فشل الخطاب النهضوي القومي ثانيا. هذا التحليل يعطي للظاهرة عمقها الطبيعي في بنية الخطاب العربي من جهة، وفي آليات المقاومة الاجتماعية والسياسية ثانيا. لذلك حين ينتقل المؤلف في الفصول الثلاثة الأخيرة لتحليل الظاهرة في أقاليم المغرب العربي (تونس والجزائر والمغرب وليبيا) يستطيع إبراز الخصوصيات المحلية بطريقة دقيقة. هذا الإدراك من جانب المؤلف للقوانين العامة المؤسسة للظاهرة والمحركة لها، مع عدم إهدار خصوصيات كل تجربة محلية يعطي للكتاب عمقا يؤكد أهميته القصوى لفهم ظاهرة الإسلام السياسي، لا في المغرب وحده، بل في المشرق كذلك.

العنف: غياب الديمقراطية

في سياق هذا الفهم العميق يناقش المؤلف ظاهرة "العنف"، التي تلصق عادة بالإسلام السياسي وحده، لكنه بوعي نافذ يردها بلى أمرين: الأمر الأول غياب الديمقراطية الحقيقية في الوطن العربي كله، وهو أمر يلغي إمكان الحوار ويفضي إلى القمع من جانب الدولة. هذا القمع يولد عنفا "مضادا". وهذا التحليل لظاهرة العنف برده بلى غياب الديمقراطية أكدته أحداث الجزائر الأخيرة، والتي توقعها المؤلف. إن الديمقراطية في عالمنا العربي مرتهنة غالبا بشرط أن يظل الخصوم محصورين في إطار هامش المعارضة. وسرعان ما يتم إلغاؤها عسكريا إذا حققت بآلياتها الطبيعية تفوقا جماهيرها للخصم عبر صناديق الاقتراع. إنها ديمقراطية ديكتاتورية إذا صح التعبير، أو ديمقراطية "المستبد العادل" الذي كان يحلم به الشيخ محمد عبده. والأمر الثاني المولد للعنف - إلى جانب غياب الديمقراطية وقمع الدولة - الركود الاقتصادي والاجتماعي، خاصة بعد تحول الأنظمة العربية عن توجهاتها الاشتراكية والانتقال إلى آليات الانفتاح الاقتصادي والسوق الحرة، بكل ما صاحب هذا الانتقال من فساد يتنامى يوما بعد يوم. إن ما يحدث في العالم العربي الآن من استقطاب حاد بين معسكر الأغنياء ومعسكر الفقراء، حيث يزداد الأغنياء ثراء وانحلالا ويزداد الفقراء فقرا وتدينا، يجعل من "العنف" ظاهرة طبيعية يقوم الدين فيها بدور هامشي. وهل كان العنف المصاحب لثورات "الخبز" في مناطق عربية كثيرة عنفا دينيا؟! وهل ازدياد حوادث قتل الأزواج والزوجات وهتك العرض والاعتداء على الفتيات صغيرات السن، جنبا إلى جنب حوادث الفساد وتهريب الأموال وسرقة البنوك.. إلخ إلا "عنف" طبيعي في واقع يصيب الإنسان بالإحباط واليأس! من هذه الزاوية يبدو دفاع المؤلف عن الإسلام السياسي ضد إلصاق "العنف" به وحده دفاعا مشروعا إلى حد كبير.

قداسة الإسلام التاريخي

وينتهي قارئ الكتاب إلى نتيجة مهمة جدا وجوهرية، وإن كانت مدرجة في ثنايا الكتاب بطريقة ضمنية، وهي أن "الإسلام" - التاريخي المدون في النصوص المقدسة - ليس هو وحده المولد لظاهرة الإسلام السياسي، كما يحلو لزعماء الاتجاهات الإسلامية أن يقولوا، بل الظاهرة متولدة عن واقع مركب معقد أسهب في شرحه وتحليله كما سبقت الإشارة. والظاهرة ذاتها - ظاهرة الإسلام السياسي - هي التي تصنع الإسلام الراهن. وبعبارة أخرى يرى المؤلف أن استخدام "شفرة الإسلام" في خطاب الإسلام السياسي هي عملية تتم على مستوى اللغة لمناهضة شفرة أخرى غربية استعمارية أساسا، وهي شفرة قامت الأنظمة الحاكمة بإعادة إنتاجها في خطابها القومي العلماني. وإذا كان الصراع يدور على مستوى الشفرة - في مستوى الخطاب - لمناهضة الاستعمار الغربي من جهة ولمناهضة القومية العلمانية التابعة له من جهة أخرى فالإسلام في هذه الحالة مجرد "هوية" يتسلح بها الإسلام السياسي، هوية تتجاوز العقيدة وتعلو عليها.

خطاب الإسلام السياسي

وعلى أساس هذا التحليل يتوقع المؤلف - بطريقة تفاؤلية مفرطة تعتمد على التمني أكثر مما تعتمد على تحليله الدقيق - أن يتوازن خطاب الإسلام السياسي في مرحلة تالية، فيصل إلى استيعاب الشفرة الغربية التي يرفضها الآن كرد فعل على محاولة طمس الشفرة الثقافية المحلية. وفي تقديرنا أن معطيات الكتاب لا تفضي إطلاقا إلى هذه النتيجة. إن التفكير القائم على التمني سمة أيديولوجية يهمنا الكشف عن أسبابها في منظور المؤلف، وذلك في محاولة من جانبنا لإضاءة بعض الجوانب الغائبة عن الكتاب. إن كتابا على هذه الدرجة من الأهمية والعمق يستحق النقاش بقدر ما يسمح به المجال، والنقاش نوع من التحية الحقيقية.

وفي بداية النقاش نقول إن المؤلف في توجهه "الموضوعي" إلى حد كبير لدراسة الظاهرة يستحضر دائما - بشكل مباشر أحيانا وغير مباشر في معظم الأحيان الخطاب الإعلامي الغربي عامة، والفرنسي خاصة، وذلك لكي ينازله ويساجله. ومنطق المنازلة والسجال هذا يفضي بالضرورة إلى موقف متحيز نقيض للتحيز الكامن في الخطاب الإعلامي الغربي. وقد سبق أن قلنا في البداية إن عين المراقب الغربي (المؤلف) تتمتع بمميزات في رؤية الظاهرة، لكن الموقف الدفاعي - الذي يقترب من حد التطهر من إثم الغرب في التعامل مع الظاهرة - أوقع المؤلف في التسليم بكثير من أطروحات الإسلام السياسي دون فحص دقيق لمدى مطابقة هذه الأطروحات للواقع. بعبارة أخرى لم يميز المؤلف في أطروحات الإسلام السياسي بين ما هو أيديولوجي وما هو وصفي للواقع الخارجي، التاريخي أو الراهن.

من هذه الأطروحات مسألة علمانية المشروع القومي كما عبرت عنه الأنظمة السياسية العربية التي يناهضها الإسلام السياسي، وهي أطروحة يعتبر "سيد قطب" في مصر أول من أشاعها وأطلقها. وما زال خطاب الإسلام السياسي يعتمد عليها تشويها للمشروع القومي واتهاما له بالتبعية للغرب المعادي للإسلام والمسلمين. يسلم المؤلف بهذه الأطروحة تسليما شبه تام فيصف العقيد القذافي - مثلا - بأنه نقل العروبة من العلمانية إلى الإسلام، كما يسهب في تعداد مظاهر العلمانية التي حاول بورقيبه أن يرسخها في الواقع التونسي.

حول المشروع القومي

إن مسألة علمانية المشروع القومي تحتاج إلى مراجعة بالعودة إلى عناصر المشروع القومي ذاته، والتي يعد "الإسلام" عنصرا مؤسسا أصيلا منها. إن "الناصرية" التي تعد من منظور الإسلام السياسي أيديولوجية علمانية قومية لم تتخل قط عن الأساس الأيديولوجي الإسلامي، كما يبدو ذلك واضحا في "فلسفة الثورة" وفي "ميثاق العمل الوطني" وعبد الناصر قبل ذلك كله هو صاحب مشروع إصلاح الأزهر بإضافة الكليات العملية إلى الكليات الدينية، وهو الذي أنشئت في عصره "إذاعة القرآن الكريم". إن ما حدث في عصر السادات على مستوى بنية الخطاب ليس إلا الكشف عن البنية العميقة في الخطاب الناصري وإزاحة القشور الخارجية ذات الرنين الإعلامي: الاشتراكية والقومية والوحدة.

وإذا تعمقنا في التحليل قليلا لوجدنا أن المشروع القومي النهضوي كان مشروع الطبقة الوسطى للاستقلال عن الاستعمار "التركي العثماني" أولا و"الغربي الأوربي" ثانيا. وقد تحقق هذا الاستقلال إلى حد كبير على المستويين السياسي والاقتصادي في بعض البلدان العربية، وفي مقدمتها مصر. لكن الطبقة الوسطى العربية عانت ازدواجية حادة في علاقتها بالغرب - على مستوى الفكر وعلى مستوى السياسة على حد سواء - فعلى حين كانت تستقل عنه اقتصاديا وسياسيا، كانت تعيد إنتاج خطابه - في مرحلة زمانية مغايرة - فكريا.وبعبارة أخرى كانت تعاني من ازدواجية التبعية والرغبة في الاستقلال في الوقت نفسه. وكان الغرب السياسي - من جهة أخرى - يحارب بعنف وضراوة كل محاولاتها للاستقلال من منطلق مخزون الثروة المستكن في الأرض العربية من ناحية ( وهو مخزون مهم لعجلة الإنتاج الرأسمالي ) ومن منطلق ضرورة الحفاظ على المنطقة سوقا مستهلكا للمنتج الغربي من ناحية أخرى.

هذه الازدواجية في طبيعة الطبقة - إلى جانب شراسة الصراع - أفضت إلى تفكيك وحدة الطبقة الوسطى مع الطبقات الأخرى، فانحازت - أو انحاز الفصيل الأكبر منها - إلى الغرب انحيازا كاملا على المستوى السياسي والاقتصادي. لكنها - وهذا مكمن المفارقة - أخذت تنتج خطابا إسلاميا تبرر به هذا الانحياز للرأسمالية ضد الشيوعية الملحدة الكافرة..ليست المسألة إذن "إسلاما سياسيا" ضد مشروع "قومي علماني" - بل الإسلام السياسي هو ذاته امتداد المشروع القومي كما قال المؤلف حين أطلق على الإسلاميين اسم "القوميون الجدد" - العلاقة إذن علاقة تولد لا علاقة تعارض وتقابل، وتنتفي من ثم أكذوبة العلمانية المدعاة. إن الديكتاتورية العسكرية المصاحبة لنهضة المشروع القومي تنفي علمانيته، وخطابه على مستوى بنيته العميقة - لا السطحية - ينفي تلك العلمانية، ويؤكد حضور الإسلام أيديولوجيا داخل بنية المشروع. هذا يفسر انقلاب القذافي وانقلاب صدام حسين، بل يفسر انقلاب كثير من المفكرين الذين بدأوا ماركسيين ثم انتهوا إسلاميين في كل أنحاء الوطن العربي. الانقلاب والارتداد المفاجئ ظاهرة فقط - وإنما المسألة عودة إلى "الأصول".

موقف الإعلام الغربي

ومن مظاهر التحيز العجيبة ضد الإعلام الغربي، والتي تضع المؤلف مباشرة في خانة التحيز مع الخطاب الإسلامي مناقشته المستفيضة لمسألة الديمقراطية في الغرب ومحاولته إنكار وجود الديمقراطية بالمعنى الحقيقي المتوهم في الغرب ذاته. يستند المؤلف في هذا الإنكار إلى أنه حتى في الغرب توجد دائما سلطة أعلى من سلطة الشعب، وأن ما يسمى "القانون الطبيعي" يخضع للقوانين والأعراف الدولية، وينتهي إلى أن "الشريعة" التي يعتبرها الإسلام السياسي أصلا للتشريع لا يصح الخروج عنه تقوم بدور "القانون الطبيعي" في الغرب. ولا يقف تحيز المؤلف عند هذا الحد بل يتماهى مع خطاب الإسلام السياسي في الاستشهاد ببعض مظاهر الاضطهاد الفكري والسياسي التي حدثت في تاريخ الغرب، كما حدث في فترة المكارثية في أمريكا مثلا، (الفصل الثالث).

هل يحاول المؤلف أن يقنعنا بصواب أطروحات الإسلام السياسي في مسألة الديمقراطية؟! أغلب الظن أنه الموقف التطهري من إثم الغرب في تعامله مع ظاهرة الإسلام السياسي، والمؤلف هنا يتوجه بخطابه إلى الغرب السياسي في تعامله مع العالم العربي خاصة، والعالم الثالث عامة. الديمقراطية وما استتبعها من صياغة "حقوق الإنسان"، وما قامت عليه من مساواة بين البشر بصرف النظر عن الجنس واللون والعقيدة، إنجاز إنساني ساهمت في صياغته البشرية كلها منذ فجر التاريخ، منذ ثورات الفلاحين ضد الكهنة في مصر القديمة، مرورا بثورة سبارتكوس ضد عبودية نظام أثينا، ودعوة محمد بن عبد الله (صلى الله عليه وسلم) للمساواة بين البشر، إلى مبادئ الثورة الفرنسية.. إلخ وربطها بالغرب - كما هو شأن الخطاب الديني - تزييف للوعي بالمنجز الإنساني العظيم الذي ينتهك هنا وهناك أحيانا، لكن انتهاكه لا يعني الاستسلام والتخلي عنه. ولنلاحظ أن انتهاك المكارثية للحرية تم القضاء عليه بالحرية ذاتها، وأن القضاء على عنصرية النازية تم بآليات النضال الحر. إن الغرب الذي حدثت فيه هذه الانتهاكات هو ذاته الذي حاربها وقضى عليها. ومن الجدير بالذكر أن السلطة الأعلى المتمثلة في المؤسسات الدولية، والتي تتدخل في صياغة القوانين الداخلية للدول، هي سلطة من صنع البشر أنفسهم بالاتفاق، وليست سلطة هابطة من السماء.

الشريعة شفرة إلهية مقدسة

مفهوم "الشريعة" في الخطاب الديني مفهوم مغاير تماما لمفهوم "القوانين الطبيعية" فالشريعة شفرة إلهية مقدسة تحدد حدود حركة الإنسان، الذي يجب أن يصوغ واقعه طبقا لمعطياتها. فإذا أضفنا إلى ذلك أن "الشريعة" في الحقيقة واقعة تاريخية، لأنها نتيجة "الوحي" الذي هو واقعة تاريخية، لأدركنا أن التسوية بينها وبين "القانون الطبيعي" المتغير والمتحرك مسألة تحتاج للمراجعة. وعلاوة على ذلك فإن الشريعة تتحول إلى قوانين - أو إلى فقه - بالاجتهاد الإنساني، لكن الاجتهاد الإنساني هذا يكتسب قداسة بدوره، مما يجعل الأمر على درجة عالية من التعقيد، إذ ينتهي إلى حكم طبقة الشعب كله، لكن باسم الدين المقدس، أي نعود للثيوقراطية من باب خلفي. يعتمد المؤلف في حديثه عن ديمقراطية خطاب الإسلام السياسي - ضمن ما يعتمد - على مقالة لعادل حسين في جريدة "الشعب" لسان حال حزب العمل. والحقيقة أن المقالة تتحدث عن تعددية - يشارك فيها المسيحيون - لكن تحت غطاء "الإسلام". ويبقى السؤال: وماذا عن الملاحدة في مثل هذه التعددية، وهل هناك إمكان لتداول السلطة بين المسلمين والمسيحيين؟! هذه أسئلة يتجاهلها المؤلف بالطبع في سياق دفاعه المنحاز عن الخطاب الديني، لأنه يسلم - بداهة - بمفهوم المجتمعات الإسلامية.

تبقى قضية أخيرة يهمنا مناقشتها في هذا الكتاب المهم، تلك هي قضية المرأة وعلاقتها بالإسلام السياسي. يستند المؤلف إلى شهادة المستشار المصري الأستاذ طارق البشري، كما يلجأ إلى قدرة الإسلام السياسي على الحشد الجماهيري، لكي يؤكد أن الإسلام السياسي لا يعادي المرأة. وهنا مرة أخرى نلاحظ أن الخطاب موجه إلى من، إلى الإعلام الغربي الذي يتهم الإسلام بمعاداة المرأة. ونحن هنا لا نعترض على توجه المؤلف، فالكتاب موجه أساسا للقارئ الفرنسي، لكننا نريد أن نحدد: أي امرأة تلك التي لا يعاديها الإسلام السياسي، إنها دون تردد المرأة المنخرطة في نشاطه، والمندرجة بزيها وهيئتها ومفاهيمها في أيديولوجيته. وماذا عن المرأة المتبرجة السافرة المتحررة من أيديولوجيته؟ وماذا عن حدود الدور المحدد للمرأة في خطاب الإسلام السياسي: الإنجاب ورعاية الرجل والقيام ببعض الوظائف دون بعضها الآخر؟

والغريب أن المؤلف في سياق آخر يفسر انضمام الشباب والشابات على الأخص إلى قضية الإسلام السياسي بأنه يمثل أحدث وسائل الاندماج - أو إعادة الاندماج - في المجتمع. إنه الوسيلة المثلى في سياق سيطرة خطاب الإسلام السياسي - للحصول على زوج ولتأسيس أسرة. بل يقارن بين هذا الانضمام وبين الانضمام في الغرب إلى نوادي الديسكو مثلا، بمعنى أنه انضمام غير قائم على أي قناعة أيديولوجية. لكنه يعود مرة أخرى ليقرر أن الدافعية عند المرأة للانضمام إلى قضية الإسلام السياسي هي نفسها دافعية الرجل. ومرد هذا الاضطراب في مناقشة قضية المرأة وعلاقتها بالإسلام السياسي في تقديرنا يعود إلى المدخل السجالي للمؤلف، المدخل الذي جعله يقف أحيانا موقف الدفاع عن بعض أطروحات الإسلام السياسي.