دعوة إلى علوم عربية إسلامية علي القريشي
دعوة إلى علوم عربية إسلامية
الأيديولوجيا في العلوم بادئ ذي بدء، لا بد أن نشير - ونحن نقف أمام هذه القضية - إلى أن الإشكاليات المثارة في حقل العلوم الإنسانية، لا تنجومنها العلوم الطبيعية، ولوعلى مستوى بعض مسلماتها ونظرياتها وحقائقها وغاياتها. فأيديولوجيا يمكن أن نتذكر عالم الأحياء المشهور "ليسنكو" في العهد الستاليني حين حاول التوفيق بين النظريات البيولوجية وبين الفلسفة المادية الديالكتيكية. وميتافيزيقيا يمكن القول إن عددا غير قليل من المفاهيم والتفسيرات العلمية مبني على افتراضات مسبقة وغير تجريبية، فنظرية داروين - مثلا - على الرغم من تجريبيتها كانت تصدر عن النظرة الميكانيكية التي لا ترى في حركة الوجود إلا حركة آلية وليس من ورائها أية قوة عليا. ومن ناحية المطلق والنسبي، فإنه مع ثورتي الكم (Quantum) والنسبية (Relativity) يمكن لكل حقيقة مطلقة في الطبيعة أن تتحول إلى حقيقة نسبية في مرحلة علمية تالية. أما على مستوى الغايات فليس بخاف أن بعضا من معطيات العلوم الفيزيائية والكيميائية والبيولوجية أخضعت للتحكمات السياسية والأغراض النفعية واللا إنسانية أحيانا. إلا أنه - مع ذلك - لا يبلغ الإشكال في إطار هذه العلوم حدود الأزمة التي يبلغها في إطار العلوم الإنسانية، نظرا لطبيعة الاختلاف بين هاتين المجموعتين، إذ إن أبرز ما تتميز به العلوم الطبيعية - على الرغم مما ذكرناه - هو الموضوعية واللا معيارية إلى حد كبير، إذ لا تسمح أكثر مفاهيمها ونظرياتها بالتحكم الأيديولوجي أو إدخال عنصر القيمة فيها، ولهذا ترتفع في مجالها نسبة الحقائق التجريبية، على خلاف العلوم التي مجالها الفرد والمجتمع، حيث لا تمثل الحقائق المنضبطة في مكوناتها إلا القليل، بينما يغلب على تلك المكونات البعد الفلسفي والتنظير الفكري والتضمين الأيديولوجي والإنحيازات التي يحكمها الاختلاف، على الرغم من ادعاء أصحابها الحياد والموضوعية، وسعيهم إلى محاكاة مناهج البحث الطبيعي، واتخاذهم بعض أدواته. من هنا تبرز إشكالية الأيديولوجيا في العلوم الإنسانية، أكثر مما تبرز في حقل العلوم الطبيعية. علوم إنسانية واحدة أم متعددة؟ وضمن هذا السياق نشير إلى أن العلوم الإنسانية الغربية ما نهضت إلا على أسس فلسفية مستمدة من المدارس "العقلية" و"التجريبية" و"الوظيفية" و"البراجماتية" و"المادية الديالكتيكية". وهي على المستوى الاجتماعي قد تمخضت عن واقع له أيديولوجيته ونظمه ومؤسساته التي شكلت إطارا لانبثاق مفاهيمها ونظرياتها والانشغالات التي تداولها المتخصصون في حقولها. والعلم الإنساني الغربي - بخاصة في تياراته الليبرالية المحافظة - كان أداة لصون البناء الاجتماعي، وتعبيرا عن أيديولوجيته السائدة، سواء في إطار بحوثه الداخلية أو الخارجية. خذ مثلا كيف يدرس العالم الغربي مجتمعات الآخرين في آسيا وإفريقيا، إنه لا يدرسها بموضوعية العالم الطبيعي حين يتناول الظاهرة الطبيعية، ولا في ضوء الالتزام المحكم بما تمليه المعطيات الحقيقية للواقع المدروس وظواهره الخاصة، بل تتحكم في حركة بحوثه نزعة "التمركز حول الذات" (Euro-Centrism) التي تجعل من مقاييسه الفكرية ونسقه الحضاري الذي ينتمي إليه معيارا لقياس الآخرين. وليست الدراسات الاستشراقية والأنثروبولوجية ونظريات التخلف والتنمية إلا نماذج صارخة لهذا المنهج. وهذه الحقائق التي تفرضها طبيعة العلوم الإنسانية وظروف تكونها والتباسات حقلها لم تعد محل جدل كبير. فالكثير من المفكرين والعلماء والباحثين في الغرب نفسه أقر جانب "اللا موضوعية" فيها. ومن هنا يمكن القول إن الجذور الفلسفية لهذه العلوم ونشأتها كانعكاس لواقع معين، ووظيفتها التنظيرية في سياق بناء اجتماعي، وخدمتها لغايات اجتماعية، كل ذلك قد جعلها محكومة باعتبارات معيارية ونفعية وجغرافية، تخرج بها في أكثر الأحيان عن مفهوم العلم (Science) بمعناه العالمي المحدد الذي نعرفه في حقل العلوم الطبيعية، الأمر الذي أخذ يخلع عليها إقليمية من نوع ما، دفعت البعض إلى القول: إنه لا توجد هناك علوم إنسانية اجتماعية واحدة، بل توجد علوم مختلفة. علومنا: أزمة نمو أم أزمة شرعية؟ ونحن إزاء هذه الإشكالية نتساءل: لماذا العلم السائد في مجالنا العربي والإسلامي لم يتعد بعد في حدوده النظرية الحدود التي تم اكتشافها من طرف "كونت" و"دور كايم" و"سان سيمون" و"باريتو" و"فيبر" و"بارسونز" وحتى "الإمبيريقيه" بالنسبة لعلم الاجتماع. و"واطسن" و"بافلوف" و"فرويد" و"يونج" و"أدلر" و"بياجيه" و"جون ديوي" و"فروبيل" و"بستالوتزي" بالنسبة لعلم النفس والتربية. و"دي سوسيير" و"جاكسون" و"شومسكي" بالنسبة لعلم اللسان. وغيرهم من أقطاب العلوم الإنسانية الغربية الأخرى ؟. وما جدوى استمرارية الاعتماد المطلق على هذه المصادر ومنحها السيادة على مجالاتنا الأكاديمية والثقافية ؟ وإذا كانت "اللا موضوعية" في هذه العلوم من منظور النقد الغربي لا تمثل إلا إشكالية ذات طابع أكاديمي في الغالب، فإنها في إطارنا العربي والإسلامي، تتجاوز هذا البعد لتثير إشكاليات معرفية وأيديولوجية وتربوية، ذلك أن هذه العلوم - ونحن نتداولها ثقافة وتدريسا وبحثا وتطبيقا، هي في المحصلة النهائية، لا تمثل إلا تكبيلا للعقل العربي والمسلم، وتكييفا له على نحويضعف ارتباطه بالهو ية، ويلغي عنده اعتبارات الخصوصية، ويدفع به نحوشباك التقليد والتبعية. وتلعب جامعاتنا ومعاهدنا دورا أساسيا في تشكيل هذه الظاهرة حين تكتفي بتقديم العروض التجريدية للمفاهيم والنظريات التي تضعها في صلب مناهجها التعليمية دون أي نقد يذكر، حتى أن وظيفة الكثير من أعضاء الهيئات التدريسية أضحت مجرد إعداد الملخصات المترجمة عما كتبه الغربيون في هذا الفرع أو ذاك، وتلقينها للطلاب وكأن مضامينها حقائق علمية مطلقة لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها. وتلك منهجية خطيرة أسهمت كثيرا في تغريب الذهن واصطناع المعرفة المشوهة، وإحداث حالة من الانفصام بين العلم والواقع. ولعل هذه النتائج تتجلى على نحوآخر لا يقل خطورة عند تطبيق تلك الفروع على صعيد النظم والحياة الاجتماعية العامة. إن السبب الجوهري لأزمة العلوم الإنسانية هو الذات العارفة التي لم تعرف نفسها، ولم تستوعب معادلتها الاجتماعية، مثلما لم تستوعب الآخر، ولم تدرك أن لعلومه أبعادها الفكرية وخصوصياتها الاجتماعية وحقائقها النسبية. ولهذا فإن نقل تلك العلوم والتعاطي معها كمعطى جاهز لم ينتج - عندنا - أية علوم حقيقية. ومن هنا يصح القول إن أزمة العلوم الإنسانية - الاجتماعية في مجالنا، ليست أزمة نمو بقدر ما هي أزمة وعي وأزمة شرعية. وبناء على ذلك فإن الدعوة إلى علوم خاصة في المجال العربي والإسلامي هي دعوة ذكية ومشروعة، لأن جعل العلم نظاما معرفيا متداخلا مع الواقع الاجتماعي ومؤثرا في تاريخيته من شأنه أن يحوله إلى قوة فاعلة في سيرورة التغيير. وهذا ما كنا نسلكه بالفعل في إطار الخبرة التاريخية، حيث كانت العلوم العربية والإسلامية غير منفصلة عن المضامين الثقافية للمجتمع، كما كانت تعكس حالة الحوار بين الفكر والواقع. إن العقل العربي والإسلامي لم يوصد نوافذه أمام التيارات الفكرية، ولم يعرض عن العلوم الأجنبية، بل تقابل معها، وتعقلها، وتفاعل معها، واستفاد منها، و"أسلم" ما يقتضي منها "الأسلمة" ولم تذهله السباحة في روافدها عن اتخاذ الموقف الذي يقتضي التمييز بين مستويات الحقيقة المتفاوتة التي كانت تحتويها. ففي مناظرة جرت عام 327هـ . بين العالمين العربيين أبي سعيد السيرافي وأبي بشر القناتي، أثيرت إشكالية المطلق والنسبي في المنطق اليوناني، على الرغم من أن المنطق هو أقرب ما يكون للرياضيات، فكيف سيكون الاستعداد النقدي للعقل العربي الإسلامي حين يواجه علوما كالعلوم الإنسانية الحديثة ؟ !. المشهد النقدي ومقومات البديل واليوم، ونحن نعيش حالة التراجع، ونفكر بالخروج من المأزق، ونحاول الاجتهاد في البحث عن بديل علمي مناسب، نجد أن المشهد النقدي الراهن قد انتهى إلى اتجاهين رئيسيين: الأول: إصلاحي يسلم بالإنجازات الغربية في الفروع المختلفة للعلوم الإنسانية، ويدعوإلى إقرارها، مع الأخذ بمبدأ التطويع والتكييف الذي يناسب مجالنا الاجتماعي وظروفنا الحضارية. والثاني: جذري ينطلق من مبدأ التأصيل والتأسيس ويدعوإلى إيجاد "العلمية الخاصة"، مع التعامل النقدي مع المعطيات العلمية الغربية وتقبل ما هو مطلق وإيجابي فيها دون الاستنكاف عن أي استعارات مفيدة. ونحن إذ نرى عدم جدوى الاتجاه الأول، لأسباب علمية وتربوية وحضارية ألمحنا إليها، فإن الاتجاه الثاني هو الأجدر بالتبني في إطار من الجهو د الفردية والمشتركة. ولا بأس أن نشير هنا إلى أبرز المقومات التي ينبغي الأخذ بها لبلورة هذا الاتجاه: أولا: تطوير الموقف النقدي إزاء العلوم الغربية على النحوالذي يقود إلى امتلاك القدرة على التمييز بين ما هو علمي موضوعي، وبين ما هو قيمي أيديولوجي، مع الاستفادة مما توصل إليه، علماء الغرب من حقائق ومعارف علمية نتفق نحن وإياهم على موضوعيتها أو إطلاقها. ثانيا: العكوف المسبق على توضيب المسلمات الميتافيزيقية والأفكار القيمية التي تأخذ صفة الثوابت في إيماننا، واعتبارها الأساس الفلسفي لبنائنا المعرفي (يشار هنا إلى جهو د بعض المفكرين الإسلاميين، والجهو د التي يبذلها المعهد العالمي للفكر الإسلامي بواشنطن). ثالثا: بذل الجهد العلمي المتواصل لاكتشاف الحقائق والمعارف الموضوعية المرتبطة بالفرد والمجتمع في مجالنا العربي والإسلامي. وصياغة النظريات التي تفسر ظواهره الكلية والجزئية، وذلك من خلال دراسات وبحوث نظرية واستقصائية وحقلية وتجريبية (يشار هنا إلى بعض جهو د مركز دراسات الوحدة العربية في بيروت، وبعض البحوث الجامعية في مصر بوجه خاص) يمكن استخدامها في مزيد من فهم الواقع، واستنباط قوانينه المطلقة أو النسبية. رابعا: استلهام التراث العربي والإسلامي نصا وخبرة في بناء المفاهيم والنظريات أو تطويرها، مع ضرورة الحذر من التعامل مع معطياته بمنهجية الإستنساخ التي من شأنها أن تقود إلى حفر "الأفكار الميتة" (التي كانت حية في إطارها التاريخي أو الاجتماعي، ثم فقدت فاعليتها في خضم المتغيرات) - كما يوضح ذلك مالك بن نبي. خامسا: الإسهام في اكتشاف الحقائق والمعارف الإنسانية المطلقة التي لم يتوصل إليها العلم الإنساني المعاصر، وتسجيل أي نتيجة موضوعية دقيقة تتمخض عن ذلك وإضافتها إلى صرح المعرفة العلمية العامة، مع اعتبارها جزءا لا يتجزأ من منظومتنا العلمية الخاصة. سادسا: اكتشاف وتطوير مناهج بحثية وأساليب وأدوات نابعة من الواقع، وتتناسب مع القضايا والإشكاليات المثارة ضمن هذا الواقع. مع إمكان الاستفادة من المناهج والأساليب والأدوات الغربية المناسبة. إسلامية المعرفة والبديل مما تقدم، وحيث يتبين لك حضور الرؤية الإسلامية في صلب البديل المقترح واستراتيجية دعمه وتطويره، فإن ثمة حقيقة أساسية لا بد أن نشير إليها وهي: إن ظواهر الخطأ والمحدودية العقلية، وفقدان اليقين المطلق، كصفات تلازم الجهد البشري في حقل المعرفة، تجعل من الحاجة إلى الوحي - بما يقدمه من يقين معرفي، وإجابات إلهية لأسئلة الإنسان وملابسات حياته الفردية والاجتماعية - ضرورة حيوية وعلمية في المطلق، مثلما هي ضرورة علمية خاصة في إطار المجتمع الذي يؤمن بذلك الوحي ومقرراته. غير أن ثمة تحفظا في هذا الخصوص ينبغي مراعاته وهو: أن المداخلة الإسلامية في عملية تأصيل العلم وبنائه، ينبغي أن تتم في إطار من الوعي بمقولة إن الإسلام "مذهب" لا "علم". أي أنه إذا كان بإمكان "المذهبية" الإسلامية أن تنعكس على بعض مسلمات العلم الأولية وتؤثر على صياغة بعض مفاهيمه وبناء نظرياته الاجتماعية - كما تسمح بذلك الطبيعة المعيارية لبعض أنشطة العلوم الإنسانية - فإن ذلك ينبغي ألا يؤثر على حيادية العملية العلمية بصفتها بحثا "منهجيا" في أسباب الظواهر ووصفا دقيقا لخصائصها وتحليلا لعلاقاتها ورصدا ماديا واجتماعيا لتكراراتها وانتظامها، وبالتالي استنباطا لقوانينها العامة أو النسبية. إن المعيارية (أحكام القيمة وما ينبغي أن يكون) لا يمكن استبعادها - على خلاف ما يزعم - عن مكونات العلم الإنساني "فالعلوم التي تظل تنطوي على القيمة هي العلوم التي تنطوي موضوعاتها على القيمة". والمنهجية الإسلامية إذ تستوعب المعيارية في بنائها العلمي، تشترط أن تكون هذه المعيارية مقرونة بالموضوعية في تلازم وثيق،. وأخيرا يمكن القول - مع كل ما قدمناه - إن دعوة البديل العلمي في مجالنا العربي والإسلامي تمثل في حقيقتها ظاهرة صحية.
|
|