ثلاثية بيروت أفلام تكشف الوجوه والأرواح والمسالك

ثلاثية بيروت أفلام تكشف الوجوه والأرواح والمسالك

هنا، قراءة نقدية عامّة للسيرة السينمائية لغسان سلهب، من خلال ثلاثة أفلام روائية طويلة بدأ في إنجازها منذ مطلع الألفية الثالثة، إلى جانب تنويع بصري قدّمه في أفلام فيديو تجريبية قصيرة.

يُشكّل المخرج السينمائي اللبناني غسان سلهب حالة سينمائية مختلفة في لبنان والعالم العربي، تتمثّل بأسلوب جمالي يبحث في متاهة الذات الفردية في علاقتها بنفسها وبالآخر، ويرتكز على إيقاع هادئ يحتمل قدرا كبيرا من الغليان الداخلي في الذات والمجتمع والمدينة (بيروت)، وعلى لغة تجعل للصورة مكانة أولى في قراءة النصّ الاجتماعي والإنساني لبيروت.

يستكمل «أطلال»، الفيلم الروائي الطويل الثالث للمخرج اللبناني غسان سلهب (بعد «أشباح بيروت» و«أرض مجهولة»)، سيرة مهنية وحياتية خاصّة بمخرجها. وهي سيرة مفتوحة على أسئلة معلّقة، يحاول السينمائي المولود في السنغال قبل خمسين عاما أن يصنع منها عالمه البصري. السيرة هنا ليست ترجمة سينمائية لحياة شخصية أو لتجارب يومية، بل تفصيل ثقافي وفني أساسي، يعني النتاج السينمائي المتكامل، الذي يستمرّ سلهب في بنائه فيلما إثر آخر، سواء أكان الفيلم روائيا أم تجريبيا، طويلا أم قصيرا.

سيرة أوسع

بمعنى آخر، فإن السيرة التي يكتبها غسان سلهب في أفلامه لا علاقة لها بالمفهوم المتداول لتعبير «سيرة»: فهو لا يقتبس ذكرياته أو ذاكرته الفردية أو الجماعية، ولا يستلّ من محيطه الإنساني المباشر إلاّ ما يراه مناسبا لتغذية نصّه الإبداعي. إنه، ببساطة، يجعل أفلامه سيرة مستقلّة بحدّ ذاتها، تتّخذ من مدينة بيروت فضاء واسعا لطرح أسئلته الإنسانية العامة (الهوية، الانتماء، المشاعر، العلاقات، التفاصيل المعيشية اليومية، التحوّل الاجتماعي والإنساني والثقافي والروحي، إلخ.). إنه يدفع أفلامه إلى تخوم التماس الحميم بالمدينة، جاعلا إياها (أي المدينة) شخصية أساسية وفاعلة في السياق الحكائيّ بدل أن تكون ديكورا لأحداث درامية معينة. فالمدينة جزء من الحكاية، لها دور جوهري في صوغها وبلورة تفاصيلها وهوامشها. والفيلم الذي يصنعه غسان سلهب لا يُدرك شكله النهائي من دون أن تكون المدينة حاضرة في ثناياه ومساراته. بهذا المعنى، يُمكن القول إن المناخ العام الذي يُميّز أفلام سلهب يرتكز على التداخل الإبداعي بين فصول من السيرة الذاتية/العامّة والمدينة/الشخصية والفضاء الإنساني.

هنا أيضا، يختلف أسلوب غسان سلهب في كتابة نصّه السينمائي: فهو، باختياره بيروت وناسها مادة إبداعية لنتاجه الفني، يكسر السياق التقليدي في سرد حكاية. وهو، بكسره هذا التقليد في بناء الحكاية، يُحرّر عمله الفني من اللغة الكلاسيكية المعروفة في البناء القصصي في الاغلبية الساحقة من الأفلام العربية. إنه لا يعتمد التقسيم المتّبع في الرواية السينمائية، بل يُفكّك كل شيء، كي يبني نصّه بحدّة وجمالية واضحتين، تحرّضان على المُشاهدة والبحث في التفاصيل الصغيرة على ما يجعل المتلقّي مشاركا فعليا في إنجاز الفيلم. ألهذا أخفقت أفلامه الثلاثة في تنظيم علاقة ما بالجمهورين اللبناني والعربي، مكتفية بقلّة قليلة للغاية جعلت فعل المُشاهدة عملا ذاتيا في التلقّي وإعادة بناء النصوص السينمائية؟ ألهذا ظلّ التواصل بين الأفلام الثلاثة والجمهور مقطوعا أو متواضعا، لأن هذه الأفلام ارتضت كمخرجها أن تكون الترجمة الحقيقية لاقتناع السينمائيّ في صنع أفلامه، ولمقولة تحويل المتلقّي إلى مُشَارِك حيوي في السرد والمتتاليات البصرية والمشاهد الفنية؟ ألهذا نأت الأفلام الثلاثة بنفسها عن الجمهور، مكتفية بالاشتغال الحيّ على المفردات الجمالية الممتعة والحادّة في آن، والفاضحة بؤسا إنسانيا وشقاء روحيا في مدينة التحوّلات غير المنتهية التي تعانيها بيروت في بحثها عن صورتها أو معناها أو حضورها؟

نمط خاص

يأتي «أطلال» بعد تجربة طويلة أمضاها غسان سلهب في ابتكار نمط سينمائي لبناني يعتمد سردا جماليا في مقاربته الفنية والإنسانية أحوال بيروت وناسها. لكن «أطلال» يختلف قليلا عن المناخ المعتمد في فــــيلميه السابقين، إذ تــــمتـــّع

بـ «قصّة» (!) سَرَدَ تفاصيلها بلغة سينمائية أسلس من اللغة الموجودة فيهما. وهو يُسطِّر فصلا مستقلا من رحلة المخرج في بحثه عن خفايا الفضاء السينمائي وعوالمه المفتوحة، كما في اختباره معاني الصُوَر السينمائية، ذاهبا بها إلى تخوم التجريب والاختلاف، من دون التغاضي عن بحثه الثقافي والجمالي والدرامي في مآزق الفرد وعلاقته بذاته وموقعه في داخل الجماعة التي تحيط به، وارتباطه بالمدينة التي يقيم فيها هذا الفرد (وربما أيضا المخرج نفسه)، ومقاربته السلوك البشري الذي يعتري المدينة وناسها. بين انشغاله بالهمّ الجمالي للصُوَر السينمائية التي يصنعها، وتنقيبه الدرامي في تحوّلات المدينة وناسها، كشفت الأفلام كلّها التي أنجزها سلهب منذ نهاية تسعينيات القرن المنصرم عمق التحليل البصري والاختبار المتنوّع لأشكال العلاقات المفتوحة وغير المنتهية بين الصُوَر والحكايات، وشكّلت إحدى المرايا القليلة ذات المصداقية والشفافية الثقافيتين لهذه المدينة، التي (أي المرايا) أسقطت أقنعة وعرّت وجوها وأرواحا وأجسادا ومسالك وأزقّة وفضاءات عدّة، كي تستلّ من الباطن ما هو مخفيّ، فتسلّط عليه ضوءا كاشفا إن لم يكن فاضحا.

يُمكن التعاطي مع «أطلال» كثالث ثلاثية بدأها المخرج غسان سلهب بـ «أشباح بيروت»، ومنحها تطوّرا لافتا للانتباه (شكلا ومضمونا) في ثاني الثلاثية «أرض مجهولة»، قبل أن يبلغ حدّا شفّافا في إخضاعه المدينة وناسها لاختبار سينمائي جميل. يُمكن التعاطي مع «أطلال» كفصل ثالث من رحلة سينمائية خاصّة بالسينمائي، وبعلاقته العضوية والحميمة ببيروت. وفي مقابل هذا، يُمكن (ببساطة) تجريد الفيلم من هذه الصفة، ومُشاهدته كصنيع إبداعي يُحدّد سياقه الدرامي من خلال التطوّر الحاصل في حبكته المتحرّرة من تقنية السرد القصصي الكلاسيكي، من دون أن تتخلّى (الحبكة) كلّيا عن نسقها التقني. إن مشاهدة هذه الأفلام الثلاثة تكشف أن ما يجمعها كامنٌ في رغبة مخرجها في التعمّق السينمائي (لغة وأسلوبا وتحليلا بصريا وفهما جماليا وتقنيا) في بيروت المدينة والناس والتفاصيل اليومية المنبثقة من الحرب الأهلية (كما في الفيلم الأول)، والطالعة من أزمة ما بعد النهاية المزعومة للحرب اللبنانية في مطلع التسعينيات المنصرمة، ومن التفكّك الإنساني والاجتماعي والأخلاقي والثقافي في مرحلة السلم الأهلي الهشّ والمنقوص (الفيلمان الثاني والثالث). لكن، لا بُدّ من تأكيد مسألة مهمّة للغاية: لم يتطرّق غسان سلهب في أفلامه هذه للحرب كفعل يومي وكنصّ دموي وعنيف مباشر، ولم يصوّر المعارك والدمار والحواجز المادية الواضحة في جسد المدينة وروحها وبين الناس، بل غاص في خراب المرء وضياعه وتدميره الذاتيّ الداخلي، واهتمّ بالحواجز المعنوية الحادّة التي تفصل المرء عن ذاته وعن مدينته، والتي تمزّق روح المدينة وفضاءها المتّسع للخيبات والآلام والانكسارات.

شخصيات مرتبكة

في «أشباح بيروت»، تفتح عودة مقاتل «ميت» إلى الحياة ذاكرة مدماة، فتكشف أسرار العلاقات القائمة بين الناس، وتبحث في ثنائية الموت والحياة، وتتناول معنى الشبح وملامحه الخفية على أساس إسقاط هذا كلّه على موقع بيروت في ارتباط ناسها بها وبعضهم ببعض، والتبدّلات التي تصيبها وتصيبهم معا. هذان الأمران: الموقع والتبدّلات وما بينهما من تفاصيل يظهر في «أرض مجهولة» (مجموعة من الشباب اللبنانيين الذين يلتقون معا عند الأسئلة الصعبة عن العيش في هذه المدينة المنذورة للخراب، وعن العلاقات المتوترة والتمزّق الروحي والمعنوي، والتيهان العبثيّ بين البقاء فيها أو الخروج منها) من دون أن يكون ذلك استكمالا لمصائر شخصيات الفيلم الأول وممثليه (اعتمد سلهب في الفيلم الأول تقنية الوثائقي، حين دفع ممثليه أثناء السياق الدرامي إلى التحدّث أمام الكاميرا عن اختبارات حقيقية عاشوها وانفعالات حيّة ألمّت بهم، وعن علاقاتهم بأنفسهم وبالمدينة والحرب والـــذاكرة والــــتفاصيل اليوميـــة للـــعيش). فـ «أرض مجهولة» لا «يروي» سير شخصيات «أشباح بيروت»، ولا يستكمل مغامراتهم المعقودة على ثنائية الحياة والموت، بل يُقدّم شخصيات مختلفة، وأناسا يواجهون مأزق الآنيّ على ضوء الماضي. يتحدّث شباب «أرض مجهولة» عن فقدانهم حياتهم السوية في مدينة فقدت هي أيضا حياتها السوية، وعن انسداد أفق وعزلة حاضر. وهم، بهذا كلّه، لا يعتمدون كلاما مباشرا أو خطابية جوفاء، بل يعيشون آلامهم وخوفهم وخرابهم الداخلي، كما آلام المدينة وخوفها وخرابها الداخلي، أمام الكاميرا ومعها.

كما في الفيلمين السابقين، يدعو «أطلال» المشاهدين إلى طرح أسئلة عدّة: الوجود في هذه المدينة ووجود المدينة أيضا، العلاقة بها، المصائر المتناقضة التي تتضارب في يوميات الفرد، مآزق الفرد وتناقضاته وغيرها. كما أنه يغوص في التمزّق الحاد والمتنوّع الذي يعيشه الفرد والمدينة، الناتج من بؤس الحياة اليومية في بيروت، ويقرأ شيئا من معالم التحوّل الذي يصيبهما معا، ويُشرّح فضاء الشقاء الذي يُظلّلهما، بمواربة فنية جميلة. اختار غسان سلهب في «أطلال» أسطورة مصّاص الدماء، مسقطا إياها على التحوّل الذي يُدركه المرء المقيم في مدينة تعاني، هي أيضا، تحوّلاتها الأخطر. غير أن هذه الشخصية الأدبية والسينمائية لا تظهر في الفيلم بشكلها المعروف، ولا تهيم في شوارع المدينة ليلا بحثا عن ضحاياها، على الرغم من أن سمات عدّة (الليل والنهار، العطش إلى الدم، التقوقع في عزلة بعيدا عن الناس، التجوّل في الليل أيضا لكن هنا بحثا عن معنى التحوّل وسعيا إلى كشف مفرداته ومتاهاته..) استعان بها المخرج من التفاصيل المحيطة بمصّاص الدماء، كي يرسم شخصيته الخاصّة المتمثّلة بطبيب يمارس هوايته المفضّلة (الغطس في البحر) ويعيش حياة هانئة (هل هي هانئة أصلا؟) بدت غطاء واهيا لقوة الانهيار والتمزّق الداخليين، اللذين انعكس فيهما انهيار المدينة وتمزّقاتها. ما يميّز الفيلم أيضا، كامنٌ في أنه يمتلك نصّا سينمائيا قادرا على التعامل الأسهل والأسلس مع المتلقّي، من دون أن يتخلّى عن عمقه الدرامي في طرح الأسئلة. وعلى المتلقّي، إزاء هذا كلّه، أن يختار بين أمرين: إما الدخول في عالم «أطلال»، وبالتالي في المسار السينمائي الذي أنجزه (ولا يزال ينجزه) سلهب في «أشباح بيروت» و«أرض مجهولة»، وإما البقاء خارجا، أي بعيدا عن التقاط النبض المعتمل في شرايين الفيلم وروحه وإنسانيته القصوى في إعادة بلورة المعطيات الحية والواقعية التي يعانيها اللبنانيون، فإذا بالفيلم مرآة لهم، لا تكتفي (المرآة) بكونها انعكاسا للمعطيات (أي للواقع)، بل تلعب دور المفكّك والمشرِّح للسلوك البشري في مجتمع قابع في أحضان الأوهام والأشباح ومصّاصي الدماء المختلفين والمتاهات القاسية.

أَتَيناكُم وَقَـد كُنّـا غِضابـا نُصالِحُكُم وَما نَبغي العِتابـا
وَقَد كُنّا اِجتَنَبناكُـم فَعُدنـا إِلَيكُم حينَ لَم نُطِقِ اِجتِنابـا
مَتى كانَت ظَلومُ إِذاأَتاهـا كِتابٌ لا تَـرُدُّ لَـهُ جَوابـا
تَناساني الحَبيبُ وَمَلَّ وَصلي وَصَدَّ فَلا رَسولَ وَلا كِتابـا


العباس بن الأحنف


نديم جرجورة 





ملصق «أرض مجهولة»





المخرج اللبناني غسان سلهب





مشهد من «أطلال»





الممثل كارلوس شاهين الذي شارك في فيلمي «أرض مجهولة» و«أطلال»