ربما كان أول من كتب عن الحب ودرسه دراسة اجتماعية نفسية هو الفقيه الأندلسي الكبير (ابن حزم) في كتابه (طوق الحمامة) الذي أفرده للحب فقط, كما أن تعريف ابن حزم للحب من أجمل التعريفات, ويقول فيه: إنه (اتصال بين أجزاء النفوس المقسومة في هذه الخليقة في أصل عنصرها الرفيع, والحب أوله هزل وآخره جد, دقت معانيه لجلالتها عن أن توصف, فلا تدرك حقيقتها إلا بالمعاناة). الحب هو العودة إلى الذات حين كانت الأنثى جزءًا من الرجل قبل أن تنفصل عنه, يقول د. أحمد عكاشة في تعريف الحب: (الحب هو التكامل وليس التوافق بالضرورة, فقد يكون التكامل في الاختلاف الفكري والوجداني بين طرفين, والإحساس المستمر بالراحة في وجود الطرف الآخر والقدرة على التغاضي عن أخطاء الغير, والحب يحتاج إلى الرعاية مثل النبات الذي يحتاج إلى الماء والهواء والشمس, ولكي يترعرع الحب, يجب أن يوجد في مجتمع تشمله المحبة, والمناخ الحالي القائم على الماديات يخنق الحب, ويمنعه ضرورات الحياة) أهـ. الحب هو عملية صيرورة مستمرة وإثراء للذات وتنشيط لخلايا المخ, والمحبة تساعد على نمو خلايا المخ وازدياد حجمها, ومن ثم نمو القدرات العقلية المختلفة, والحب علاقة تبادلية, فكل ما يفعله طرف لآخر من حب وحنان يرتد إليه مضاعفًا إن كان الطرف الآخر يبادله المشاعر وهكذا إلى مالا نهاية, فهو يفيض بعواطفه على من يحب فتعود إليه مزدوجة مع عواطف المحبوب, ثم هكذا دواليك وهلّم جرّا, وكأنهما مرايا متقابلة. الحب مرض ينتقل بالعدوى, لكنه مرض حميد والبغض مرض ينتقل بالعدوى, لكنه مرض خبيث, ويقول أفلاطون: (الفرد ليس سوى نصف شخص يقضي العمر يبحث عن نصفه الضائع, فإذا وجده اكتمل, وإن وجد نصفًا آخر لا يشاكله ظل طوال حياته معذبًا). وفي الزواج الذي هو النتيجة النهائية للحب, يتقاسم الزوجان مشاكلهما فتقل ويتبادلان سعادتهما فتتضاعف, والاختلاف في شخصية المحبين قد يؤدي إلى تفتيت العلاقة الزوجية أو إلى صهرها في وحدة متينة, ففي المغناطيسية يتنافر القطبان المتشابهان, ويتجاذب القطبان المختلفان, لكن هل يختفي الحب بعد الزواج? نعم يختفي الحب بعد الزواج لكي يفسح المجال لما هو أقوى منه: العشرة والسكن والمودة والرحمة والحوار الدائم والأولاد الذين هم ثمرة هذا الحب ونتاجه, والكفاح والتضحية والفداء من أجل الآخر. والحب فطرة وغريزة تهذبها البيئة والثقافة, والتعبير عنه يختلف من إنسان لآخر, ذلك التعبير الذي يتم بصورة طبيعية, لكن السينما والتلفاز أوجدا الحب الصناعي, فالمراهق يحاكي نجمه المفضل, فيضحي مسخًا مشوهًا غير قادر على الاستمرار في هذا الدور للنهاية, والحب من أول نظرة حقيقة مؤكدة لأن الإدراك الكلي يسبق الإدراك الجزئي, والإدراك الكلي وظيفة الروح والنفس, والإدراك الجزئي وظيفة العقل, ولكل إنسان نظم تكونت لديه منذ الطفولة, نظم جمالية ومعرفية وعاطفية وحسية. وهذه النظم ساكنة في العقل الباطن تنتظر التنبيه من الطرف الآخر لكي يلتقط منها ما يتفق مع نظمه, بحيث يحدث التوافق والحب, أو الكره والبغضاء من أول نظرة, وهكذا فالطرف الآخر يوقظ الكامن فينا, وقد قالت الصوفية (إن الله قد خلق الأرواح قبل الأجساد بألفي عام, فما تعارف منها ائتلف وما تناكر اختلف). وهذا لا ينطبق على الزواج, فللزواج اعتبارات أخرى اجتماعية وأسرية ومادية وقبلية وعقلية لا مجال فيها للرومانسية, والحب من النظرة الأولى.

صور شعاعية

هناك أغنية عربية مشهورة تتساءل عمن يكون السبب في الحب, القلب أم العين? (الحب محله القلب) اعتقاد له أنصاره من الشعراء والرومانسيين, لكن هناك نصيحة تتوارثها الفتيات عن أمهاتهن مفادها أن أقصر طريق إلى قلب الرجل معدته, ثم حدثت طفرة فجائية, فأصبح الحب في المعدة, فتقول الشاعرة التي تعاني نهم حبيبها وإدمانه أطايب الطعام (أرى الحب في القلب...وحبك ليس يجاوز المعدة). (وكان الحب في القلب...فصار الحب في المعدة), لكن البعض قديمًا كان يعتقد أن الحب محله الكبد, وهي نظرية لم تصمد طويلاً, فقد نظر الطبيب إلى بول عاشق, وقال: هذا رجل فتت الحب كبده.

وبعيدًا عن النزاع الدائر بين أنصار العين والقلب والمعدة والكبد, لم تأت مناقشة دور المخ في الحب إلا قريبًا جدًا, وبين العلماء فقط في نهاية فيلم (العقل الجميل), قرر عالم الرياضيات الفصامي (جون ناسن) أن يوقف علاجه ويخرج من المصحة النفسية بالرغم من أنه مازال يعاني معتقدات خاطئة وثابتة (ضلالات) وقال لزوجته الصابرة, التي عانت معه معاناة طويلة: (من الممكن أن أتحسن لو أستطيع أن أفكر من خلال العقل), أخذت زوجته يده ووضعتها على رأسها, وقالت (ربما كان الجزء الذي يعرف اليقظة من الحلم ليس هنا لكن العلماء يؤكدون أن الحب لا يقع في القلب بقدر ما يقع في الكبد, وأن المشاعر كلها بما فيها الحب تنبع من المخ, كما تنبع النظريات الرياضية.

مغامرة شائكة

في النصف الثاني من القرن الماضي, أثيرت قضية زراعة المخ بشكل سينمائي, وتمت زراعة مئات الأمخاخ في الأفلام, ونجحت نجاحًا باهرًا (زراعة الأمخاخ وليس الأفلام), وكانت تنتهي بأن البطل الذي تم زراعة مخ جديد له أصبح يفكر تفكير صاحب المخ الأصلي, ولكن يحب بقلبه هو. ودراسة كيمياء الحب تصلح للسينما أكثر مما تصلح في البحث العلمي, فأن تأتي بإنسان ما وتربطه بعلاقة حب بإنسانة, وتلاحظهما وتدون ملاحظاتك وتأخذ من مخيهما وجسديهما ودمائهما ما تفحصه مجهريًا, وبعد انتهاء التجربة, يذهب كل منهما إلى حال سبيله, وكأن شيئًا لم يكن أشبه برواية سينمائية يضحك منها الجيل الحالي حتى يستلقي على قفاه من الضحك, لكن الرواية يجب أن تنتهي نهاية سعيدة, فيتزوج البطلان, ويعقد لهما الطبيب العالم - الذي أجرى بحثه عليهما - عقد الزواج, وتنتهي الرواية.

الحب في العيادة النفسية

الحب هو المرض الرئيسي في العيادة النفسية للمراهقين والمراهقات, وعندما كنت أطلب من الفتاة المراهقة أن تستبدل بحب شخص واحد (وهو الفتى الذي تعتقد أنها تحبه حتى الموت أي موته هو) حب العالم كله, وأن يتسع قلبها الصغير لهذا العالم بما فيه, كانت الفتاة تذهب ولا تعود. لكن هل الإنسان فقط هو الذي يحب? أثبت علماء الأحياء أن في محيطات العالم أسماكًا وكائنات لافقارية تمارس أساليب متنوعة من الحب تتسم بالحذق والغرابة والرونق, وتفوق أساليب الغرام عند البشر, وكذلك أثبت علماء الطيور وكل جنس من أجناس المملكة الحيوانية حتى الحشرات والمملكة النباتية أيضًا, لكن في حدود لاتتجاوزها.

لعبة الأوكسي توسين!

المخ يحتوي على أنظمة عصبية كيميائية تطلق مشاعر الحب فينا والإنسان المحب ليس ممزقًا بين العقل والقلب وإنما بين أجزاء المخ المختلفة فهناك أجزاء متخصصة من التفكير المنطقي مثل الخطط طويلة الأجل وأجزاء تعطي اللون لمشاعرنا الحية على خريطة العقل تظهر مناطق الخوف واضحة عكس مملكة الحب, لكن الرسم التفصيلي للمملكة بدأ يلوح وفي مركزه هرمون الأوكسي توسين الذي يبدو أنه يتبع خطوات السيروتونين الذي لفت الأنظار بقوة أخيرًا. ولذلك فنحن ندخل عصر كيمياء المخ التي من الممكن أن تفسر الحب, وهناك الكثير من الدراسات الحديثة التي تلقي أضواء على كيمياء المخ في الحب الإنساني دون أن نضطر لقتل المحب والحصول على مخه, فالفأر الجبلي - كالإنسان - توجد لديه مستقبلات الأوكسي توسين في العديد من المناطق الغنية بالدوبامين في المخ مما يشير إلى أن الأوكسي توسين مطمور في دوائرنا الكهربائية المتكافئة وهناك دراسة أخرى قارنت بين نشاط المخ لأشخاص يشاهدون صورًا لعشاق بآخرين يشاهدون صورًا لأصدقاء غير رومانسيين على الإطلاق فكان نمط النشاط في القشرة المخية يختلف بوضوح. صور الأمخاخ التي تتعرض لموقف رومانسي مشابهة لنشاط مخ الأم حديثة الولادة التي تستمع إلى صراخ رضيعها كأحلى نغم وتشابه أيضًا صور أمخاخ أولئك المدمنين تحت تأثير الكوكايين! وأثبتت الدراسات الحديثة أيضًا وجود رابطة بين الأوكسي توسين وتكوين الذاكرة الاجتماعية فالأوكسي توسين ينطلق أثناء الترابط الثنائي التعشقي (أوج اللقاء الجنسي, أثناء الولادة, أثناء الرضاعة) والأمهات اللائي يرضعن أولادهن من صدورهن غالبًا ما يصفن ذكريات قوية عن تفرس أطفالهن وحملقتهن فيهن أثناء رعاية الأمهات لهن, تلك الذكريات المفعمة بالحيوية والإشراق تكاد تكون بصمة الأوكسي توسين, وهو مشارك بصورة كبيرة في الاستجابات البشرية للضغوط فيخفف منها ويصبح التعامل معها في جوده بصورة أفضل. والمرأة المرضعة لديها المزيد من الأوكسي توسين ولذلك فهي تعالج الضغوط بصورة أفضل. الأوكسي توسين لا يخلق السرور الداخلي للحب ولكنه يمكّن السرور من البقاء مدة أطول, والأوكسي توسين يقلل بصورة كبيرة التحمل للأفيونات ولايحتاج المدمن إلى زيادة الجرعة فلا يصل للجرعات القاتلة, وفي إدمان الهيروين مثلاً فإن الضرر الناجم عنه يتمثل في تأثيره المباشر على كيمياء المخ التي تنظم روابط الحب, والمدمن يدير ظهره للعائلة والصداقة ويبدو في صورة وحش قد يبيع طفله في سبيل جرعة من المخدر. الآدب والتراث مملوءان بالقصص عن عقاقير الحب لكن الموضوع أكثر تعقيدا من مجرد هرمون مثل (الأوكسي توسين) فهناك نظام بيولوجي للمخ يكوّن ويساعد على استمرار الشعور الذي يسمى (الحب) ولا يمكن اختزاله إلى مجرد جزء مفرد مثل الأوكسي توسين وتأثير الأوكسي توسين يزيد بالأستروجين ويقل بالأندروجين, وهذا يفسر الاختلاف بين الذكر والأنثى في مواجهة الضغوط.

الطعام أولاً: الحب يأتي بعد إشباع الحاجات الأساسية, فالجائع لا يحب وقد قالت النجمة فاي وست: (إن الحب يقهر كل شيء إلا الفقر وألم الأسنان. جلس الرجل مع جاريته في خميلة يتساقيان كئوس الهوى حتى جاع الرجل فطلب من حبيبته أن تعد له الطعام فاندهشت الجارية, وقالت: أما في جمال وجهي ما يشغلك عن الطعام? فقال لها: لو أن جميلا وبثينة أو كثيرًا وعزة أو قيسًا وليلى جلسا ساعة من غير طعام لبصق كل حبيب في وجه حبيبه وافترقا إلى غير رجعة وأنشد (إن كان في بطني طعام ذكرتها... وإن جعت يومًا لم تخطر على فكري), ونتيجة لعدم إشباع الحاجات الأساسية بسبب الفقر اندحرت الرومانسية وهيمنت المادية وغلب الطابع الانتهازي في العلاقات العاطفية المعاصرة ومن ثم نجد التعدد في العلاقات العاطفية التي لا تنتهي بالزواج والحب كما هو معلوم تمهيدًا للإطار الشرعي, لكن المعادلة اختلّت وأصبح هناك حب بلا زواج وزواج بلا حب, وأضحى الحب مصدرًا للألم ومشكلة بعد أن كان حلاً لكل المشاكل الحياتية التي تقابل الإنسان.

الفريسة تقنص الصياد!

في مراهقتنا كانت الخطوة الأولى للتعرف على الجنس الآخر هي أم المشاكل والمصاعب, فقد كان الخجل والحياء يلفان العالم العربي, وكانت تلك الخطوة تستنفر جهد الشباب ويظل الفتى يطارد الفتاة حتى تصيده, ففي الحب تنعكس الأمور وتصيد الفريسة الصائد, وكانت الخطوة الأولى تستلزم من الشاب أن يكون لامعًا أنيقًا نظيفًا يغسل أسنانه متفوقًا في دراسته مثقفًا حتى تعجب به الفتاة التي تمهد له الطريق. الآن انمحت الخطوة الأولى وانمحت كل القيود بين الفتى والفتاة وأصبح محط النظر ومناط الإعجاب أن يكون الشاب متوحشًا همجيًا يرسل شعره وراء ظهره ويدخن ويرتدي كل عجيب وغريب ولا يستحم أو يغسل أسنانه.

لكن بعض السيدات في الأحياء الشعبية في مصر يضربهن أزواجهن بصفة دورية على أقل هفوة, وهن يستمتعن بذلك كدليل على حب الأزواج لهن.

تجارب ودلالات

- فكر بقلبك وأحبب بعقلك.

- المرأة المحبة والتي يحبها زوجها لن يكون طعامها أبدًا سيئًا.

- اختلف العلماء والشعراء وغيرهما في الحب هل الإنسان يحب بعينه أم بعقله أم بقلبه أم بكبده لكن هناك من يحب بأذنه ومنهم الشاعر الضرير بشار بن برد الذي يقول:

(يا قوم أذني لبعض الحي عاشقة.. والأذن تعشق قبل العين أحيانًا).

- المحب ينتسب إلى المحبوبة فيقال مجنون ليلى وجميل بثينة وكثير عزة!

- الحب أعمى لكنه ليس أصم فشخير المحب وكذلك قرقرة بطنه وتجشؤه تنفر منه المحبوبة.

- المرأة أكثر إخلاصًا من الرجل فهي تحب حتى الموت - موت حبيبها - وبعد ذلك فهي حرة.

- قيس حجة المحبين في الأرض فكل من ادعى شيئًا من المحبة قيس بقيس الذي سئل عن ليلى فقال: أنا ليلى.

- جميل أن تكوني الحب الأول لزوجك, الأجمل أن تكوني حبه الأخير.

- بعض الفتيات يتزوجن عن حب... للمال.

- خطوات الحب: نظرة فابتسامة فسلام فكلام فموعد فلقاء فزواج فطلاق!

- المحب يفقد ذاكرته للأحداث القريبة كالمصابين بخرف الشيخوخة.

- الحب هو التجارة الوحيدة التي تزدهر بالإسراف والتبذير, لذلك أعطه للآخرين وافرغ جيوبك منه فستجد أنها, مازالت ملأى أطرحه هنا وهناك, وستصحو وتجد نفسك قد امتلأت حبًا أكثر, فالحب هبة تكبر كلما أنفقت منها.

- طاغور: آمن بالحب ولو كان مصدرًا للألم ولا تغلق قلبك.

- الحب هو أن يصير الاثنان واحدًا ثم بعد ذلك يدب الشقاق بينهما: أيهما ذلك الواحد حتى تنتصر المرأة.

- المحبة تحتم عليك أن تقول لمن تحبهم إنك تحبهم فالحب الصامت قاتل لأنه إخفاء لانفعال من أشرف الانفعالات, فإذا كنت لا تستطيع أن تقول بصريح العبارة فأشعرهم بمحبتك لهم بطريق الإشارة ورب إشارة أبلغ من عبارة.

(ابن الفارض)