شوقي المحظوظ وحافظ صاحب المركز الثاني الاختياري

شوقي المحظوظ وحافظ صاحب المركز الثاني الاختياري

طالعت في «العربي» العدد (585) أغسطس 2007 مقال د. جابر عصفور «شوقية» نادي الموسيقى الشرقي، حيث قال في مقدمة المقال: «في افتتاح مؤتمر الموسيقى الأول الذي شهدته القاهرة عام 1933. لم يكن حضور عشرات الفنانين هو الحدث الأكبر فقط، ولكن أيضًا تلك القصيدة العصماء التي ألقاها أمير الشعراء أحمد شوقي!!».

كما قال في نهاية المقال: «ولم يفت شوقي أن يلقي قصيدة أخرى في ختام المؤتمر في الحفل الذي أقيم بدار الأوبرا الملكية مساء الثالث من أبريل سنة 1932!!». «ولمّا كنت أعلم جيدًا أن شوقي لم يكن يلقي قصائده وإنما يعهد بهذه المهمة إلى غيره لأنه كان لا يحسن الإلقاء.

وكان لي اهتمام بهذا الموضوع كان هذا المقال.

فالحقيقة أن الحظ طائر يحط أينما شاء وفي أي وقت يشاء، والحظ في حد ذاته من الأمور الغامضة التي لا تعليل لها ولا وجود ماديًا لها أيضًا، فقط يحط هذا الطائر على إنسان ما، فإذا هو بين عشية وضحاها يصبح محظوظًا، وقد يتخلى الحظ عن إنسان كان محظوظًا فيصبح منكودًا.

ولعل أصدق ما قيل عن الحظ جاء على لسان أمير الشعراء أحمد شوقي في قوله:

خلق الحظ جمانا وحصى خالق الإنسان من ماء وطين
فلأمر ما وسر غامض تسعد النطفة أو يشقى الجنين
فوليد تسعد الدنيا به ووليد في زوايا المهملين


وإذا صح أن الأشياء تتميز بأضدادها، فإني أرجح أننا سوف نعلم أشياء كثيرة قيمة عن جوانب من حياة الأفذاذ من الشعراء كشوقي وحافظ, اللذين كانا ملء السمع والبصر، وسطرا تاريخيهما الحافل في ديوان العرب.

حافظ إبراهيم شاعر الوطنية والشكوى

اقترن في سماء الشعر بنجم أمير الشعراء أحمد شوقي، ولكنه لم يلق إنصافًا في زمانه، وهو المنافس العتيد لشوقي، فمن المعروف أن كلا الشاعرين ساهما في إحياء الشعر العربي وردا إليه بعض نشاطه، ومهدا له الطريق للقوة والظهور، وكان كل من الرجلين يعرف قدر نفسه وقدر أخيه، ولكن الطموح غلب نفس حافظ على صاحبه فترة من الزمن، فلما غلبه اليأس داراه كثيرًا بالشعر والنكتة في مجالسه الخاصة، فلما غلبه اليأس ثانيًا استسلم له في الجهر، واعترف له بالإمارة، فأصبح يوم مبايعة شوقي المتحدث باسم شعراء العرب، وهو يخطو تجاه شوقي حيث يجلس في مقصورته مرددا بين يديه قصيدة المبايعة التي استهلها بقوله:

بلابلَ وادي النيل بالمشرق اسجعي بشعر أمير الدولتين ورجعي
أعيدي على السماع ما غردت به يراع شوقي في ابتداء ومقطعِ


وصولا إلى البيت المدوي...

أميرَ القوافي قد أتيتُ مبايعًا وهذي وفود الشرق قد بايعت معي


والحقيقة أن شوقي كان يخشى لسان حافظ وفكاهته، فوصله وأحسن إليه، فكانت له أياد بيضاء كثيرة على حافظ، منها أنه كان يصله ويحدب عليه في ضوائقه المالية، وأنه سعى له عند داود بركات ليعينه محررًا في الأهرام، فلم يفلح، فخاطب القصر في شأنه، فجعل القصر له راتبًا يُصرف له حتى نهاية حياته. ذلك لان حافظ مع القصر ومع شوقي نفسه، واعترف مسبقًا لشوقي بالإمارة في قوله في مدح الخديو عباس:

لم يبقِ - أحمد - من قول أحاوله في مدح ذاتك فاعذرني ولا تعبِ


ودرج حافظ على هذه السياسة حتى لا تكاد تخلو واحدة من مدائحه أو تعازيه السلطانية أو الملكية من إشادة بشوقي، ولعله أراد بذلك أن يأمن غدر شوقي، ويضمن رضاه، فرضاه من رضا القصر، ولعله أراد أيضًا أن يؤكد للناس أو للتاريخ أن إمارة شوقي سندها الأول هو القصر.

وهذا الرثاء يدل على ذلك:

رثاك أميرُ الشعر في مصر وانبرى لمدحك من كتاب مصر كبيرُ
ولست أبالي حين أرثيك بعده إذا قيل عني قد رثاه صغيرُ
فقد كنت عوضًا للضعيف وإنني ضعيف ومالي في الحياة نصيرُ


إلا أن شوقي لم يذكر حافظ في شعره إلا مرة واحدة عندما رثاه، فقد توفي حافظ عام 1932م، فنظم فيه شوقي مرثيته الرائعة التي مطلعها:

قد كنت أوثر أن تقول رثائي يا منصف الموتى من الأحياءِ!


لقد كان لقاء شوقي المحظوظ بحافظ الفقير البائس لقاء - القمة مع القاع - وبالرغم من الاعتراف الكامل بالعبقريتين، فإن شوقي ظل في القمة وحافظ ظل في القاع، وبالرغم من أسلوب حياتهما المتناقض الأول في ترف، والثاني في بؤس مستمر، فإن صداقتهما استمرت وأثمرت كنوزًا من الشعر الذي كانا يتبادلانه في سخرية من واحد للآخر، وفي حوار بينهما تارة ثالثة، وأخيرًا اعترف شوقي بعبقرية حافظ، فكانت قصيدة رثائه ذروة العبقرية والاعتراف بعبقرية الآخر إذ قال:

ما حطموك، وإنما بك حُطِّموا من ذا يحطمُ رفرفَ الجوزاءِ
انظر فأنت كأمس شأنك باذخُ في الشرقِ واسمك أرفع الأسماءِ


شوقي وحافظ وإمارة الشعر

وقد انقسم الناس في عصر شوقي وحافظ إلى فريقين، الأول فضل حافظ وآثره عمن سواه، والثاني فضل شوقي كمعجزة شعرية مع حبه لحافظ وإعجابه به، والقليل من وقف من الشاعرين موقفًا وسطًا.

فضل شوقي أصدقاؤه الأدباء والمتأدبون المحافظون الذين كان يطربهم أن يقرأوا لشوقي ما يذكرهم بأبي تمام والبحتري والمتنبي والمعري وابن زيدون مما جعل شوقي يتهافت على معارضة قصائد القدماء المعروفة لأصدقائه، فنظم عددًا من قصائده في مناسبات شخصية واجتماعية عجزت عن إلهامه، وإثارة خياله، فقال فيها كلامًا أشبه بالنثر الصحفي، غير أنه منظوم، مما أوجد في شعره سقطات ليست قليلة.

أما الفريق الآخر، فأيدوا حافظ واهتموا بشعره، ونقدوا شوقي وبالغوا في تصيّد أخطائه وتجسيم عيوبه، إذ كان نقدهم له رد فعل لمبالغات أنصاره الذين نزهوه عن الخطأ، وهذا الفريق أيدحافظ معتبرين إياه أشعر شعراء العربية، وزاد بعضهم فساواه بشكسبير وموليير وفيكتور هيجو، من هذا الفريق: العقاد والمازني وطه حسين. وهؤلاء كانوا يرون أن حافظ أحق بإمارة الشعر من شوقي.

ويقول طه حسين في كتابه «حافظ وشوقي»: «كنت مرة عائدًا مع الأستاذ - أحمد لطفي السيد - بعد أن حضرنا اجتماعًا لتخليد ذكرى حافظ قبل أن يموت شوقي، وكنا نتحدث في أمر الشاعرين، فقال لطفي بك: «خدعني حافظ عن نفسه كما خدعني شوقي عنها. كنت ألقى حافظًا في أول عهده بالشعر، وكان يُسمعني كثيرًا من شعره فلا يعجبني، فقلت له ذات يوم، أرح نفسك من هذا العناء، فلم يخلقك الله لتكون شاعرًا، ولكنه لم يقبل نصحي، وحسنًا فعل، فمازال يجدّ ويكدح حتى أرغم الشعر أن يذعن له وأصبح شاعرًا، وكنت شديد الإعجاب بشعر شوقي، أقرؤه في لذة تكاد تشبه الفتنة، وأثني عليه كلما لقيته، فمازال شوقي يكسل ويقصر في تعهد شعره حتى ساء ظني بشعره الأخير» هذا هو رأي لطفي السيد الذي رواه طه حسين وأقرّه عليه.

أما رأي طه حسين، فقد جاء أيضًا في مقدمة كتابه - حافظ وشوقي - حيث يقول: «وصل شوقي في شيخوخته إلى ما وصل إليه حافظ في شبابه، لأن شوقي سكت حين كان حافظ ينطق ونطق حين اضطر حافظ إلى الصمت، ياليت حافظ لم يوظف قط، وياليت شوقي لم يكن شاعر الأمير قط.

ولكن هل تنفع شيئًا ليت؟ لقد أسكت حافظ ثلث عمره وسجن شوقي في القصر ربع قرن، وخسرت مصر والأدب العربي بسعادة هذين الشاعرين العظيمين شيئًا كثيرًا!».

صلاح عبدالستار
طنطا - مصر






 





الشاعران الكبيران أحمد شوقي وحافظ إبراهيم