توازن الفكر والشعر

توازن الفكر والشعر

محمد علي شمس الدين شاعر متجدد الأوجه

من جنوب لبنان يصعد هذا الشاعر المتفرد إلى آفاق الكون حاملاً أسئلة المصير الإنساني: الوطن والأرض والموت والحياة، يمتزج في داخله التراث الشعري العربي بتساؤلات فلسفية لا تهدأ حدتها، وهو يصوغ كل أسئلته العطشى شعرًا، يتوسل للإجابة عنها باستخدام الأسطورة والتفاعل مع كل عناصر الكون، شاعر مفطور مصنوع متعدد الأوجه لا يكف عن التجدد، كأنه عنقاء تخرج من نار. ولد هذا الشاعر اللبناني الكبير في عام 1942 في قرية بيت حانون بالجنوب اللبناني وسط عائلة دينية وأدبية معروفة، وعلى الرغم من دراسته للحقوق فإن عشقه للشعر والأدب، دفعه للحصول على إجازة في الأدب العربي، وساقته رغبته في معرفة المصير الإنساني للحصول على إجازة في التاريخ، وقاده عشق الجمال إلى دراسة الفن بكلية الفنون بالجامعة اللبنانية. صدر له أول ديوان شعري في بيروت عام 1975 تحت عنوان «قصائد مهربة إلى حبيبتي آسيا» ومنذ ذلك الوقت لم يتوقف عن الإبداع شعرًا أو نثرًا، وكتب للصغار كما كتب للكبار، حتى بلغ ما أصدره حوالي العشرين كتابًا حتى الآن، وقد ترجم معظم شعره إلى الإسبانية، وقدمت فيه أطروحة دكتوراه دولة بالإسبانية من قبل الدكتور حسين علي أمين تحت عنوان «الشاعر علي شمس الدين في إطار الحداثة الشعرية - حياة ومؤلفات» وكذلك كُتب في شعره العديد من الرسائل والأبحاث في الجامعات اللبنانية والعربية - إن «العربي» وهي تفتح صفحاتها لهذا الشاعر الكبير - والذي نشرت أشعاره ومقالاته في أكثر من عدد من أعدادها - تتمنى أن يتواصل إبداعه الشعري، وأن يأتي فيه بكل ما هو جديد.

«العربي»

إنه شاعر متفرد، يجمع في شاعريته الفكر والشعر بتوازن خاص، يكمن فيه الفكر ويستتر، ويظهر الشعر. ذلك أن الفكر في البنية الشعرية، حين يطغى على الإيماء والرمز والإحالة، ويطفو على ماء القصيدة، فإنه يحجب تلك العملية الخاصة في كيمياء الشعر، والقادرة على تحويل جميع معطيات الثقافة والتأمل والاختبار الحياتي والحكمة، إلى دمها الخاص.

ونادرًا ما اجتمعت هاتان الصفتان في شاعر عربي من أبي العلاء المعري حتى صلاح عبدالصبور. في شعر شمس الدين تمتزج الهوية بالحداثة، المبنى بالمعنى بأسئلة الوجود والمصير الكينونة، الحياة والموت، والوطن والإنسان والأرض.

ويتسم شعره، من الوجهة الجمالية والأسلوبية، ببنيان صوري سهل ممتنع، كلاسيكي - محدث، دون التقيد بلزوميات ما

لا يلزم من قافية ووزن وعمودية تقليدية مدرسية. إنه «شاعر غير مدرسي»، كما جاء في تقرير اللجنة المشرفة على مناقشة أطروحة دكتوراه في شعره، قدمها الدكتور حسين علي أمين بالإسبانية في جامعة الأوثوناما في مدريد، وأجيزت بامتياز العام 1991، بعنوان: «الشاعر اللبناني المعاصر، محمد علي شمس الدين، في إطار الحداثة الشعرية: حياة وآثار، بجزأين من 900 صفحة.

El Poeta contemporaneo libanes Muhammad Ali Samsal-Din En el Macro de la modernidadt oetica viday obra

يتعالى الشاعر شمس الدين، الآتي من الجنوب، الذاهب إلى الكون والكونية وشمال الحقيقة، بالشعر إلى الفكر، فيحمله إلى ذرى علوية، ويتنزل من صوى الفكر إلى الشعر، ويظل في الحالتين متألقًا، تأخذه الكلمات إلى المطارح الأولى، ويأخذها هو إلى المطارحات العلوية.

يقول المتنبي: «أعلى الممالك ما يبنى على الأسل»، أي الرماح، ويقال: فلان جمع ما بين اليراع والأسل، أي بين القلم والرمح، وإذا كانت هذه هي حال المتنبي، الجامع ما بين الخيل والليل والبيداء والسيف والرمح والقرطاس والقلم، فإن الشاعر شمس الدين يبني (بقلمه - رمحه)، مملكته العالية. في الجمع ما بين الفكر والشعر، والعلم والأدب، بحثًا عن المختلف، والجدة، والجمال في ذرى البيان، ومتانة القول، وجلاء الصورة، وبلاغة اللغة، وموسيقى العبارة، في شعرية غنائية فائقة المعنى، راسخة المبنى في الكلمة والصورة.

هل هو شاعر متفرد، أم متنبئ جديد؟

يقول في قصيدة «ممالك عالية» التي يعارض فيها المتنبي في قوله:

«أعلى الممالك ما يبنى على الأسل والموت عند محبيهن كالقبل»


ويرى أن أعلى الممالك لا ممالك السلاح والدم، بل ممالك الكلمات والشعر:

«... وقرعت كأسي بالذي برأ الحياة
وقال للأفلاك دوري
وجلست أكتب والنجوم شواهد حولي
ومملكتي سطوري»

(ديوان «ممالك عالية»، دار الآداب، بيروت، 2002، ص9).

من الحداثة إلى ما بعد الحداثة:

من زمن الحداثة إلى مابعد الحداثة الشعرية بتمظهراتها العربية، وعبر تجربته الشعرية المتطورة والغنية بأبعادها الفكرية، ضمن نصه المتحرك من الداخل، ينتمي الشاعر شمس الدين إلى زمنه الشعري وعصره الثقافي بامتياز، مطورًا تجربة من سبقه، ومتواصلاً مع طليعة الحداثة في عصر ما بعد المدارس الكبرى أو «اللامدرسية» في الشعر والأدب، وبروز الفرد كمذهب عام في حقل الإبداع الفني (البياتي، أدونيس، حاوي).

وتتلاقى في شعر شمس الدين، الذاتية والشمولية، التواصل والتجاوز، التفريد والتجريد، الرؤية والرؤيا، كل ذلك بمنأى عن الاتباعية والتجريب الاصطناعي السائد في اللغة الشعرية الحداثة الراهنة.

ولعل الشاعر الباحث عن ذاته في ما يتجاوز الذات، يعبر عن تبرّمه من حالة التجريب الاصطناعي بامتياز، في قوله في قصيدة بعنوان «درم»:

«سأروي لكم جملة» قالها بدر عند السأم
(فلا تفهموها)
درم
درم
درم
بنفسي مما عراني ومنكم برم
أحزموا أرضكم وارحلوا
باطل كل هذا الحوار»

(من ديوان «أما آن للرقص أن ينتهي»، دار الآداب، بيروت، 1988).

ولا يعني هذا انتقاصًا من التجريب والحاجة إليه، فالشاعر نفسه بدأ منذ «قصائد مهرّبة إلى حبيبتي آسيا» ديوانه الأول الصادر في العام 1975 عن دار الآداب في بيروت، البحث عن آفاق تجريبية تصل ما بين الجديد والجدة والتفريد والتجريد، في لغة مزودة بثقافة عالية ومتعددة.

يقول فيه الدكتور خليل أحمد خليل في كتابه «أعلام العرب المبدعين في القرن العشرين» تحت عنوان «محمد علي شمس الدين - شاعرية الحب المهرب»:

«بدأ الشاعر سريًا يهرب قصائده إلى حبيبته آسيا،وإلى كل حب لا يحيا إلا مخاطرًا، ثم بدأ خياله يلعب دورًا في ديوانه «غيم لأحلام الملك المخلوع»، وبعد ذلك جاء إنذار الشاعر، ملتبسًا هذه المرة بين الحب ورغبات الامتلاك النرجسي في ديوان «أناديك يا ملكي وحبيبي»، وبخوف من الآتي أي الموت».

(المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، الجزء الأول، 2001).

هذا الرأي للدكتور خليل أحمد خليل، يظل، بالرغم من جمالياته، ناقصًا، لأنه لا يذكر ديوان «ممالك عالية»، وهو المعبر عن ذروة شعرية فلسفية وجودية، تدمغ شخصية الشاعر المفكر ببعدها الفلسفي الصوفي:

«انظر
هل تبصر غير سحاب
يرحل خلف سحاب
خلف سراب
حتى آخر أيام التكوين؟
وسطورك هل هي إلا
سطر في الماء
وسطر في الريح
وسطر في الرمل
وسطر في الطين؟..»

النرجسية

يحضر الشاعر في نصه مفعمًا بالنرجس والنرجسية، ومَن منا لا يعشق نفسه حتى الثمالة؟ غير أنه لا يخفى كغيره عشق الذات، بل يخبئها خلف وجه الطفل حين تزمله الريح فيضيء جدلاً... «كالرعشة حين تغرد في رحم الغابات» (من قصائد مهربة... الطبعة الأولى، ص7).

هي نرجسية جذلى، مضيئة، ودودة، يتكامل فيها البعد الطفولي مع البعد النرجسي، فتشكل شخص الشاعر المحب والحبيب».

في ديوانه «منازل النرد» (عن مؤسسة الانتشار العربي، بيروت، 1999)، يكتب لصديقه هذا التوقيع:

«الصديق الحبيب: معًا في البحث عن جوهر واحد صعب في الفلسفة والشعر».

وإذا أخذنا التوقيع بالمعنى التفكيكي، كإمضاء تشكيلي، بلاغي، نقع على روح الشاعر في إمضاءاته، وومضات كتابه، وهي - بلا ريب - علامات مضيئة على روح مضاءة، قلما نجدها عند أنصاف الشعراء وأنصاف النقاد في مدينتنا العربية المترهلة.

وليست القصيدة عند محمد علي شمس الدين، تحفة نادرة «توضع في الواجهات يستمتع بها المعجبون، بل هي حرفة قائمة على التعب والبناء الداخلي الذي تتقاسمه الرؤى:

«أفتح في جسدي
بابًا يفضي للبحر
أفتح بابًا مجهولاً خلف الأبواب
أفتح في الكوفة باب المحراب
أفتح في المحراب طريقًا
يصعد بي نحو الجنة
أحفر في الجنة سردابًا
يهبط بي نحو النار
أحفر في النار طريقًا
يدفعني نحو الأنثى
أفتح في جسد الأنثى
بابًا يفضي للملكوت
أفتح في ملكوت الله الواحد بابًا للتكرار»

(منازل النرد، قصيدة الأبواب)

يتمسك محمد علي شمس الدين بالغنائية كبناء إيقاعي، وهي سمة يمكن ملاحظتها في معظم نصوصه، غير أنه لا يتثبت بالأعمدة الإسمنتية للشعرية العربية، بل تجد عنده القوافي في كثير من الأحيان، شاردة، أو واردة، حسب مقتضى الحال والسؤال.

وهو يستذكر الشعر بلا ادعاءات ريادية، أو طليعية، ولعل هنا أحد أسرار طليعيته المتواضعة حتى في نرجسيتها العالية:

«... فأنا رجل عادي
من همل الناس
لا يذكره التاريخ
ولا تعرفه الأسطورة
ليست لي جبة كاهن
أو لحية قديس
أو نبرة عراف أعمى
وخلاصة أمري
أني في ذات صباح
أيقظني تعبي...»

(من قصيدة «أرض فقيرة» - ديوان أما آن للرقص أن ينتهي؟)

تقاطع البدايات والنهايات

تتقاطع في كتابة الشاعر الميتافيزيقية «آثام البدايات»، بخلاصة النهايات، في لعبة الوجود والعدم الدهرية، وجدلية الحياة والموت، ويحمل الشاعر أسئلة الريبة والشك الشعري الفلسفي إلى مدياتها القصوى، في تطوافه وخطواته العابرة في عالم الكون والكينونة، مقتفيًا في شعره، المعري والمتنبي والشريف الرضي والتوحيدي والجاحظ، مع أخذ الظروف المختلفة للشاعر وأجداده الروحيين الكبار بالاعتبار.

في ديوانه «شيرازيات» (الصادر عن اتحاد الكتاب اللبنانيين العام 2005)، نسأل: هل من قبيل المصادفة أن يتقمص الشاعر شمس الدين حافظ الشيرازي؟

يتلاقى الشاعران في حديث النفس والعشق والقلب، لا حديث العقل والمدرسة والكلام، كما يتلاقيان في الحكمة والذوق ومواطن الأسرار، في مرامي القول ورمزيته وروحه لا في مظهره وحرفه، في الإشارة لا في العبارة.

إذا كان «لكل امرئ من اسمه نصيب»، كما يقول الرسول الأعظم، فالجانب الذاتي ما بين الشاعرين في وحدة الاسم، ساهمت في صنع قصائد «شيرازيات». فحافظ الشيرازي اسمه شمس الدين محمد، وشاعرنا هو محمد شمس الدين.

وأهم من هذا وذاك، البعد الميتافيزيقي الباحث عن الأسباب الأولى، والمطارح الأولى في القول الشعري، في جدلية الحضرة والغيبة، الوجود والشهود، والروح والجسد، والأمر والخمر، يقول في قصيدة بعنوان «شيخ كنعان»:

«يا شيخ كنعان حدثني بما سمعت
أذناك من نبأ يا شيخ كنعان
عن الفراق، وهل أهواك ساعته
إلا القيامة في شرعي وحسباني؟»

وتتجلى إسرارية الشعر في بعده الميتافيزيقي الخصب عند الشاعرين، في هذين البيتين:

«هو الكلام رسالات مغلفة
بالصمت حينًا وبالأسرار أحيانًا
فإن سمعت كلامًا خلته خطأ
فاجعل صوابك في الحالين ميزانًا»

ومن شيراز إلى بغداد إلى بيروت، تتوارد الأشعار والأفكار بين الشاعرين، في الواردات الصوفية:

«أنا المريض بليلي والقتيل بها
وليس أجمل من أن يقتل الرجل»

ولكن: ماذا لو فاجأتنا ليلى المريضة في العراق، في زمن النكوص والردة بالخيانة، واكتشفنا بغتة:

«أن ليلى
التي مت في حبها ألف عام
تخون...»؟

(من قصيدة «باب ليلى» - ديوان «الغيوم التي في الضواحي»، دار النهضة العربية، بيروت، 2006).

لا يبكي الشاعر على ملك ضاع في الأندلس، ولكنه يبكي على شعب وأمة، تمتد من الأندلس إلى أندونيسيا، في امتدادها الحضاري والروحي، في حيرة الأحوال والسؤال عن المسار والمصير، يبكي الشاعر على بغداد، المدينة والرمز والكناية"

بالطيب بالحنة طيبتم الأعواد
يا رايح الجنة سلم على بغداد


(من قصيدة «سأحمل مئذنة فوق ظهري» ديوان «الغيوم التي في الضواحي»)

وحين يشق الغيوم التي في ضواحي بيروت، سيف جلعاد، يخبئ الشاعر في القلب كل الصغار، ويسيل حبره دمًا، ونبيذًا مسمومًا يشربه جيش جلعاد، الذي يأتي كجيش يهوشع، لكي يقتل كل من في المدينة، والضواحي، من رجل وامرأة، وطفل، وماشية... ويقاتل بريشة أمضى من السيوف دفاعًا عن المدينة والضواحي: ودفاعًا عن ليلى، حتى تبرأ من السقم، وعود زرياب، وشهرزاد...

في آخر دواوينه، «الغيوم التي في الضواحي»، وبعد معراجه في «شيرازيات»، يأخذ محمد علي شمس الدين طائر شعره بيديه، ويقول له انطلق بجناحيك: الموسيقى والصورة.

ولكن: أين؟

- في التيه.

في الديوان سبعة أبواب للموسيقى وخماسية للطيور وقسم لصواري السفن، إشارة الرحيل، ثمة كيمياء تحول كل ما يتناوله الشاعر (وعالمه شاسع لا يحد...) إلى أقنومين من التجريد الخالص:

تجريد إيقاعي وتجريد صوري.

أما التجريد الإيقاعي فمركب، يتألف من إمكانات واجتهادات تقنية في النوطة الأساسية للشعر (التفعيلة) من لدن صبها في قالبها التام (الخليلي) مرورًا بإفرادها واللعب معها، انتهاء بانكسارها النهائي على قاع النثر تبعًا لضرورات الحال الشعري. وهذا السلم الموسيقي العالي له ظلاله، بل هو نفسه ظلال نفسه، كما للكلمات ظلالها، وهي ظلال تحس وتعاش ولا توصف.

وأما التجريد الصوري لديه، فهو أيضًا كالتجريد الإيقاعي، بسيط ومركب، وينتقل بالصورة من المحسوس إلى الأسطوري، ومن الأشياء اليومية والمعتادة إلى ناحية ما في الغيب، إذ الشعر في آخر المطاف، بالنسبة إليه، وكما يقول: «رحيل نحو الغيب أو انخطاف نحوه».

 

جميل قاسم 





 





الشاعر الكبير وهو يتسلم إحدى الجوائز