شعاع من التاريخ

شعاع من التاريخ

الأمير العاشق.. وراقصة الباليه

جاءت من باريس، وكانت تعمل راقصة باليه، وعاشت أربعين عاما تحوطها الأسرار ويسري الهمس من خلف أسوار القصر الكبير عن علاقاتها وغرامياتها، وكانوا يعرفون أنها كل شيء في حياة الرجل العجوز ذي اللحية البيضاء والوجه الأحمر والعينين الرماديتين، الأمير محمد علي ولي عهد الملك فاروق وابن توفيق حفيد محمد علي الكبير!

في قصر المنيل بالقاهرة عاشت "إيليس إيموند" الراقصة الحسناء في دنيا غريبة. كان هو يهوى النقوش والتحف والآثار العربية إلى حد الجنون، وعلى الرغم من بخله الشديد، فقد أنفق الآلاف على متحفه الخاص الذي حوى مجموعات نادرة من الآثار العربية والإسلامية، وكانت هي باريسية في كل شيء، في ثيابها الأنيقة وعطورها الثمينة وقبعاتها التي كانت ترد من أجلها وحدها، ووقع الأمير السابق العجوز في غرام راقصة البالية التي سحرت باريس، عندما كانت تقدم رقصاته مع فرقة الأوبرا، فاستدعاها لتقيم معه، وحضرت إيليس، وفوجئت بغرابة المكان الذي ينام فيه، فهو يضع سريره داخل قفص كبير من السلك ولاينام خارجه أبدا، ورفضت الفتاة أن تدخل القفص، واستجاب هو لدلالها، وأمر بإعداد غرفة نوم فاخرة على الطراز الفرنسي، وكان يقضي فيه ساعات طويلة، ودهش خدم القصر لأنهم يعرفون عنه أنه يكره الطراز الأوربي في الأثاث والمفروشات.

وحدث تغير كبير في تصرفات الرجل العجوز بعد قدوم إيليس، كان لايغادر القصر إلا قليلا، وكانت نظرة واحدة منها كافية لأن تجعله يجلس ساعات طويلة في حديقة القصر، وهو يعبث بلحيته البيضاء ويتطلع إلى السماء!

المسجد إرضاء لإيليس

كان الناس يعرفون أن الأمير محمد علي توفيق يتظاهر بالتقى والصلاح والورع. وقد بنى في أركان الحديقة مسجدا صغيرا محلى بنقوش الذهب، ولكنهم لايعرفون أنه بناه إرضاء لإيليس التي كانت تذهب إلى الكنيسة كل يوم أحد، وتحرص على أداء الشعائر الدينية وتتبرع كثيرا لجمعيات الخير، فقد طلبت منه أن يصلي هو الآخر فبنى هذا المسجد، وأشرفت هي على اختيار ألوان النقوش والسجاجيد، وكانت تتولى العناية بثياب العاشق العجوز وهندامه عند ذهابه لصلاة الجمعة، ولايعرف المصلون أن راقصة الباليه الفرنسية، كانت تنتظره في الحديقة بعد الصلاة ليتلقى الجائزة، قبلة من إيليس إيموند!

وتسربت بعض الهمسات خارج قصر المنيل عن علاقة الأمير بالراقصة، وقال هو في بعض مجالسه "إنها "وصيفة" لي وليس أكثر من ذلك، وأن اسمها مسجل في دفاتر القصر مع الموظفين، وأنها تتقاضى مرتبا أسوة بهم، ولكن العلاقة التي كانت بينهما كذبت هذا الادعاء، فقد كانت أكثر من زوجة، تصحبه في جولاته اليومية في حدائق القصر، وفي رحلاته إلى الخارج، وفي نومه، وكان هو يذوب أمام نظراتها، ويشيد دائما بجمالها ورقتها، ويستقبل أقاربها وأفراد أسرتها الذين يقدمون كل شتاء لزيارة آثار مصر، ويعاملهم باحترام بالغ، مع أنه كان في هذا الوقت وليا للعهد، وكان يقف عندما تدخل عليه وهو جالس وحده وينظر إليها نظرات طويلة تفضح حقيقة عواطفه.

الدخول في القفص

بعد سنوات من بقائها في القصر، وافقت إيليس على دخول قفص السلك الذي ينام فيه الأمير، وأن يوضع لها سرير خاص بداخله في بعض الأوقات، وفي أوقات أخرى كانت تكتفي بسرير الأميرالعجوز. وكانت هي تبتسم وهي تقول لأقاربها إنني أفعل ذلك لكي أهتم بصحة سمو الأمير وأعنى به عندما تنتابه نوبات الصرع!

وفي إحدى زياراته لأوربا كلف واحدا من أشهر الرسامين ليقوم برسم لوحة زيتية لإيليس وهي تضع قبعة كبيرة فوق رأسها إذ كان يعرف مدى عشقها للقبعات حتى كانت الطائرات تحمل صناديق القبعات خصيصا من أجلها. هذه اللوحة وضعها الأمير فوق مكتبه الخاص الملحق بغرفة نومه، ووضعت هي الأخرى نسخة ثانية من نفس الصورة في غرفة مكتبها، وقد شاهده الخدم كثيرا وهو واقف كالتمثال أمام صورة إيليس يتطلع إلى فتنتها وجمالها، واستطاعت هي بمعونة وصيفتها الفرنسية أن تكون كل شيء في حياة الرجل العجوز، وأن تفرض شخصيتها على كل تقاليد القصر.

شيء واحد كان يقلق إيليس إيموند، فقد كانت تتمنى أن تنجب طفلا من الأمير، ولكنه كان في الحقيقة يخفي عنها أنه لايستطيع الإنجاب، إذ أصيب بمرض معين في صغره كان يمنعه من الزواج، واحد فقط كان يعلم هذه الحقيقة هو صديقه الشيخ محمود شلتوت الذي أصبح بعد ذلك شيخا للأزهر، وقد نصحه الشيخ بأن يعقد قرانه على إيليس ليبطل الشائعات التي تناثرت حولهما خاصة مع العداء الشديد الذي كان بين الأمير والأسرة المالكة، ولكن لايوجد دليل على أنه نفذ النصيحة!

لكل ذلك فإنه بعد أربعين عاما عاشتها راقصة الباليه الحسناء مع الأمير العاشق لم تستطع أن تحقق أمل حياتها وهو أن يكون لها أطفال، واكتفت بشئ بسيط هو الاحتفاظ في غرفة مكتبها بمجموعات كبيرة من صور الأطفال في أشكال مختلفة، وكانت تقطع الساعات الطوال وهي تملأ عينيها بالنظر إلى هذه الصور، ثم تنقلها إلى المكتب حيث اللوحة الزيتية التي رسمها لها الرسام الفرنسي الشهير عندما كانت حسناء فاتنة قبل أربعين عاما، غادرت القصر بعدها مع رجلها الذي فقدته تماما بعد أن ابتعد مع قيام ثورة يوليو عن مصرليموت خارجها بين يديها في ديسمبر عام ،1954 ويدفن بمقابر الأسرة المالكة السابقة بمنطقة الدراسة بالقاهرة.

 

سليمان مظهر

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات