رحاب شعرية محفوفة بالرهبة

رحاب شعرية محفوفة بالرهبة

الدخول إلى رحاب شعرية محمد علي شمس الدين محفوف بالرهبة والتهيب. وقارئ شعره لا يواجه خطابًا شعريًا عاديًا، بل يجد نفسه أمام خطاب مثقف كبير، وبلاغي كبير.

وصفتا شاعرنا: الثقافية والبلاغية تؤهلانه ليحتل عرش الشعرية العربية في هذا الزمان. ويدفعك هذا إلى أن تتحسس أدواتك النقدية قبل الشروع في هذا الدرب المحفوف بالخطر. وأراني ألوذ ببعض كبار الذين تناولوا مفهوم الشعر، ويأتي جان كوهين على رأس هؤلاء المنظرين حين أنجز عن الشعرية (Poeticite) كتابين متتاليين متكاملين:

قدم في الأول منهما «بنية اللغة الشعرية» (Structure du langage Poetique) فكرة الحيد (L'ecart) الذي يعتري الكلمة في أثناء دخولها القصيدة، وأكمل الثاني «اللغة العليا» Le haut langage، ما بدأه الأول بمبدأ النفي الإضافي Principe de negation complementaire الذي يفيد أن التحول الذي يصيب العلامة اللغوية في أثناء دخولها القصيدة لا يتم بناء على (الحيد) وحده، ولكنه يتم أيضًا وفق (مبدأ النفي الإضافي) بخروج تلك العلامة المتحولة على قانون الضدية الذي اكتشفه سوسير في اللغة، ودخولها في المطلقية. وكوهين في مقولتيه هاتين إنما يبحث عن الشعرية داخل البلاغة وحدها. والحقيقة أن المتنبي لم يكن شاعرًا كبيرًا، لأنه بلاغي كبير. كان كبيرًا لأنه كان مثقفًا كبيرًا، امتلك ثقافة عصره إلى درجة صار معها شعره أسئلة تطرح على مواضع الحرج في تلك الثقافة.

ولا يصل بنا كمال أبو ديب في كتابه «في الشعرية» إلى أفضل ما وصل بنا جان كوهين ومقولته عن الاختيار من خارج حقل التوقعات المثير لدهشة المتلقي، إنما يبحث عن الشعرية داخل البلاغة أيضًا، وبدراية تركز في تلك العملية البلاغية على ما يخص فعل الشعرية في المتلقي، إثارة دهشته. والشعرية العامة ومن داخلها شعرية الشعر، وإن قامت على الدهشة، إلا أن حصرها في الاختيار من خارج حقل التوقعات من الناحية اللغوية البلاغية وبإثارة الدهشة من ناحية التأثير يقدمها شعرية مسمرة إلى وضعية ثابتة يأباها الشعر نفسه.

فمناخات الدهشة وإن تطلع إليها كوهين وأبو ديب بعين بلاغية مطلوبة في معانيه الشعرية مع فارق واضح في وضعية النظريتين. إلا أن هذه العين غير كافية، ثمة عين أخرى ألمع إليها أدونيس في كتابه «الشعرية العربية» عنيت بها العين الثقافية. وأدونيس حين تحدث عن شعريتين في الحياة الأدبية العربية القديمة: الشعرية الشفوية والشعرية الكتابية، إنما كان يتحدث عن المكون الثقافي للشعرية. وهو حين ركز على ثقافية الشعر وحدها هون على عكس صاحبيه من بلاغيته حين تحدث عن الشعراء الكبار. ويبقى أن الشعرية بما هي قراءة لجانب من جوانب العالم (الوجود)، لا تكون قراءة إلا من خلال ثقافة الشاعر، بالثقافة يرى الشاعر الوجود، وبالثقافة تتحدد بلاغية خطابه الشعري.

صحيح أن الثقافة لا توجد مستقلة عن اللغة إلا أن الرئاسة في هذا الثنائي (المدلول) (الدال) هي للأول، فهو غاية العملية التواصلية.

وتعود رحلة محمد علي شمس الدين الشعرية إلى أكثر من خمس وثلاثين سنة عبر خلالها مراحل ثقافية وسياسية عدة ومتنوعة من حياة الأمة. شهدت ستينيات القرن الماضي ما سمي بنكسة العام 1967. وقد أسميت نكسة، لأن الثقافة التي سبقتها كانت ثقافة متفائلة بفعل المد اليساري الذي طغى على حياة المثقفين، وهي نكسة لصفة العرضية فيها، ولأنها تحمل في طياتها تفاؤلاً بالنهوض منها. وجاءت سبعينيات ذلك القرن لتحمل في طياتها انخراطًا نشطًا من المثقفين بتيارات اليسار والتغيير، ولتشهد في منتصفها انفجار الحرب الأهلية اللبنانية التي رآها اليسار ردة فعل يمينية محلية عربية وعالمية في وجه ذلك المد اليساري، وإن سبقتها بشائر تشرين 1973 وانكسارات تلك البشائر. وجاء دخول السوريين إلى لبنان العام 1976 ليشكّل بداية عد عكسي للثقافة اليسارية وللمشروع اليساري التغييري في لبنان.

وأجهزت بداية الثمانينيات عبر الاجتياح الإسرائيلي، على ما بقي من روح تفاؤلية في الثقافة اليسارية، ودخل المثقف في دائرة الإحباط الهائل الذي أفاق منه على وجود مناخات ثقافية مختلفة لها سلبياتها ولها إيجابياتها.

ولعل أهم سلبياتها تفتت الحياة الثقافية، إذ بتنا نرى قلة أطلقت على نفسها اسم العلمانيين، وقلة أخرى تاهت، وجمعا الحق بالتديّن بفعل المقاومة، وجمعًا آخر التحق بالحياة السياسية التقليدية.

وجاءت المحنة العراقية في مطلع القرن الحالي لتذكر جيلنا الذي لم يعش مرحلة الاستعمار القديم، بأنه أمام استعمار جديد وسط ترهل سياسي قاتل تعيشه الأمة حاليًا، ترهل تشكل المقاومة نقيضًا له. ومحمد علي شمس الدين، برهافة هواجسه الثقافية سباق إلى تحسس مواضع الضيم، مثلما هو لماح في التقاط منابع الضوء البخيلة في حياتنا الثقافية السياسية. فهل ستكون مسيرته الشعرية فضاء رحبًا لتلك التحولات؟ السؤال كبير ومشكلة هذه العجالة لا تكمن في الإجابة عنه، ولكنها تكمن في العجالة نفسها التي لا يمكنها أن تنهض، مهما جهدت، بالمسئولية المترتبة على هذا السؤال. وتستفيق في الذاكرة على وقع هذا السؤال ما كتبته ريتا عوض عن ثنائية (الموت) و(الانبعاث) في شعر خليل حاوي.

- الاستشراف:

قدمت شاعرنا استشرافيًا كبيرًا من استشرافيي الأمة، حين لاحقت في شعره إشارات الهزائم وإشارات الانتصارات، خالصة إلى أن حاوي قد تنبأ في شعره بكل ما جرى. ولا أرى أن المطلوب من شاعر كبير مثل محمد علي شمس الدين أن يخبرنا باجتياح 1982 قبل أن يحدث، ولا أن يبشرنا بنتائج المواجهات التي تلته مع الإسرائيليين. حسب الشاعر أن يحرج الثقافة القائمة بأسئلته، أن يطرح تلك الأسئلة على مواضع حساسيتها وعلى آخر ما وصلت إليه، فيكتشف مواضع القوة فيها ومواضع الخلل.

ولا تعدو هذه الرهافة عمق ثقافة الشاعر إلى الماورائيات. لا محل للرجم بالغيب في دنيا الشعر. نبوءة الشاعر كامنة في قدرته الثقافية، وفي الإمساك بخيوط التاريخ الدقيقة، وبمساربها واتجاهاتها، وتحولاتها. ولذلك سأجري تعديلاً على السؤال الآنف. كيف تحولت جوانب الوجود، عبر مسيرة الشاعر، في عينه؟ وكيف تحولت أدواته التعبيرية، وعلى رأسها الرمز في قراءة ما رآه؟ وهل كان هذا التحول مسايرًا لحركة التاريخ واتجاهاتها؟

ولتكون هذه العجالة مفيدة سأقف عند جانب من جوانب الوجود عاينه الشاعر هو الماء، وسأعالج رموزًا عبرت شعره من بداياته وحتى اليوم.

الماء

أحد جوانب الوجود التي ما فتئت تلفت انتباه الشاعر وتستقطب رؤيته. ففي مجموعته الشعرية الأولى «قصائد مهربة إلى حبيبتي آسيا» الصادرة العام 1975، وفي قصيدة موجهة إلى أطفال سيناء يقول: «عاريًا كان يعدو على سدرة الأرض/ والأرض تعدو على غارب الماء/ والماء يعدو على صهوة الدم/ والدم يطفو على بقعة في الشتاء». (المجموعة الكاملة ص 19).

تضيء الأبيات في مخيلتنا ارتباط الماء بجوهره (السديمي ببدء خلق العالم وتكوينه) (الأرض تعدو على غارب الماء)، فيبدو لنا، ومنذ البداية، رمزًا للحياة. وإضافة الغارب إليه في قوله «على غارب الماء» لا تغطيه بعدًا حيوانيًا من حيث الغريزة، ولكن من حيث تلقائية السلوك وعفويته. ويلتقي بذلك مع ما أعطاه إسناد (العدو) إليه من بعد طفولي جميل، هذا البعد المتداخل مع صفة الفروسية التي اكتسبها من خلال العدو «على صهوة الدم» فأصبح إشارة إلى حساسية تلك الحياة ورهافة خسرانها، والتقاء الماء مع الدم على هذه المشاكلة يشير إلى استهلاك الحياة لنفسها، وإلى أن صوت السعادة الحياتية متوحد مع ألم الخسران، ولا تستمر رمزية الماء على هذه الحال إلى آخر الأعمال الكاملة الصادرة عن دار سعاد الصباح يمر الماء بمرحلة التمركز في المحسوسات المائية: (النهر الإله) (م.ن ص 103) والمطر الذي يجترحه قرآن الشاعر كما يوجد الله الحياة (م.ن، ص 51)، و«بحر الرموك» الذي يغسل تعب الشاعر. ثم يعبر إلى مرحلة التعرض للأذية والموت تمامًا كالبشر: «يقول النهر أنا المقتول» (م.ن، ص 76)، وحين تصير الأمور إلى هذه الحال، يتقزم النيل ساقية مسمومة «ثم اغمس كفيك بساقية النيل المسمومة» (م. ن، ص 56)، ويجد الشاعر نفسه مدفوعًا لكي يتبرأ منه «اخلع الماء الذي ينضج سمًا، (م.ن، ص 104) وعملية خلع مؤسسة على رأي سلبي بالماء ليست مسألة عادية عابرة في مرحلة (ما قبل العام 1975) كانت الثقافة اليسارية فيها ثقافة متفائلة.

ترى أن التغيير في لبنان والعالم العربي آت محمولاً على مهمة الربح، وأن العالم مقبل على تحول نحو الشيوعية بسبب تفوق الماركسية على الرأسمالية، والماء جذر الحياة العميق يطفو، وهو ممتط صهوة الدم، على بقعة في الشتاء، ويقدمه هذا المشهد تافهًا مضيعًا وظيفته الأساسية. والنيل الذي وهب أرض الكنانة الحياة ساقية مسمومة، يستحق ماؤها أن يخلع، ما السر الكامن وراء هذا التناقض الحاد بين الثقافة اليسارية المتفائلة التي يتظلل الشاعر أفياءها وبين رؤيته الشعرية إلى الماء؟

بدأ ماء هذه المرحلة، كما تراءى في القصيدة، تعبيرًا دقيقًا عن المأزق الخفي الذي كان كامنًا في الثقافة المتفائلة ولم تظهر علائمه إلا في النصف الثاني من سبعينيات القرن المنصرم، ويعني ذلك أن حبل تلك الثقافة كان (نفخة كذابة).

وهكذا تجلى الشاعر استشرافيًا كبيرًا في مستوى من المستويات، ولا يكون الشاعر شاعرًا كبيرًا إلا إذا كان متجاوزًا ما تعيه ثقافة عصره إلى ما تعيه داخل حركة التاريخ.

وينادي الشاعر النهر في مجموعته «يحرث في الآبار» الصادرة العام 1997 (يا جدنا وأبانا)، معيدًا نسبنا إلى الماء، وهذا مؤشر واضح إلى تصالح معه وابتعاد عن خلعه. ولكن إلى أين وصلت العلاقة معه؟ يخاطب النهر قائلاً:

أتذكر حين اقتربنا من النبع
لم يقترب هو منا
فافترشنا الظلال
ونمنا...؟

(يحرث في الآبار، ص 47)

وإذا كان الله قد جعل من الماء كل شيء حي، وكانت علاقة كل من الشاعر والنهر معه اقترابًا دون وصال، فذلك يعني أن ماء هذه المرحلة من حياة محمد علي شمس الدين الشعرية لم يبلغ رشده الوظيفي بعد، ولذلك رأيناه يقول:

ألا أيها النهر
يا جدنا وأبانا
تعبنا (عليك السلام)
تعبنا
وضاقت بنا الأرض
فأنزل بنا
إليك
لنغسل في مائك العذب أقدامنا

(م.ن، ص48 / 49)

وهذا طبيعي في نصوص كتبت قبل العام 1997، فالمقاومة في هذه المرحلة، بدأت تثبت وجودها وفعاليتها، بفعل ثقافة متفائلة مختلفة عن الثقافة اليسارية، مستفيدة من تجربتها.

«لحظة... تدور الحياة كطاحونة فاجأتها السيول
تموج القرى بالأناشيد
والقمح أعلى من الأغنيات»

(الغيوم، ص 49)

إنها الثقافة (السيل) الآتي من غيب الله، المتجلي بتضحيات الرجال. أدار طواحين الحياة وأشاع الأناشيد المستبشرة بالانتصار. ومع ذلك فإنه يظل السيل (الثقافة) التي أتت فجأة، وقد تغيب فجأة، فالتحول الذي حدث في ظل الاحتلال الإسرائيلي للجنوب اللبناني، في زمن كان فيه المثقف لايزال متشائمًا من إمكان تحرير الأرض بالمقاومة.

ويبقى أن هذا التحول في القرارة، وبهذا القدر، استشراف آخر تأكدت صوابيته العام 2000، وتأكد أن تفاؤل الثقافة التي أنتجت المقاومة، وارتبطت بها كان تفاؤلاً حقيقيًا، دحض المقولات التشاؤمية التي أنتجتها الثقافة المتحدرة من ثقافة اليسار، والواقعة خارج دائرة المقاومة. وبقي كل هذا أن استشرافية محمد علي شمس الدين الشعرية قادرة على التقاط المسارب التي اتخذها التاريخ منفذًا له نحو المستقبل.

الغيوم التي في الضواحي: الماء من جديد

وتصل العلاقة مع الماء إلى وضعية جديدة في مجموعة «الغيوم التي في الضواحي» الصادرة العام 2006. ففي قصيدته الموسومة بعنوان «قصيدة المياه» (الغيوم، ص 167) تنتهي لحظة الانتظار، ويأتي السيل فعلاً:

المياه
التي انحدرت من أعالي الجبال
فاجأتنا
نحن سكان أكواخنا في القرى
كان برق ورعد يشق السماء
وحتى القبور التي هدأت
واستقرت
عرتها قشعريرة الانتظام

(الغيوم، ص 167 - 168)

والانتظار الذي عرت قشعريرته القبور هو الانتظار والانبعاث، والعمل، وليس انتظار السيل نفسه الذي شهدناه في مراحل سابقة وصل الفم النبع، وصار الماء مبدعًا للجمال:

«يكون المطر
وينبت في الرمل
ورد جميل
(م.ن.ص 168)
وبات مطهرًا
«الماء يجتاح القائل
غاسلاً صدأ التوابيت القديمة
(م.ن،ص171).

وجارفًا الفساد والفاسدين:

الماء يجتاح المنازل
جارفًا آثار من نزلوا
ومن رحلوا
ومن ناموا طويلاً في الكهوف»
(م.ن، ص172)
وعاصمًا من الغرق نفسه:
« يا أهلي هناك تماسكوا
وتمسكوا بالماء
واعتصموا بساربة
ستؤويكم إذا سقط العذاب»
(م.ن، ص174 - 175).

ويغدو أجمل ما يكون في العراق:

«والماء
أجمل ما يكون
إذا تدفق في العراق
فإنه من أصله يأتي»
(م.ن، ص 174)

ويتكشف عن سر عراقي إلهي:

ونمضي معًا بين نهرين
يا أرض كوني سلامًا
على جنة الرافدين
فإن الإله
جرى أمره في المياه»
(م.ن، ص170 - 171)

ويصل ليكون سرير سلام في الطوفان نفسه

«أقول: نامي يا صغيرة
سوف تحملك المياه إلى هناك
فإن زينب مهدت
(من قبلما ولدتك أمك)
منزلاً للخائفين»
(م.ن، ص173)

عاد الماء، بما بات يتمتع به من صفات شهدناها في هذه المجموعة إلى سديميته، إلى ارتباطه ببدء الخلق، إذ إن العام الذي كتبته فيه «قصيدة المياه» العراقية، كان عامًا شديد السواد، خصوصًا أن الولايات المتحدة الأمريكية قد وضعت العراق في عين العاصفة، بعدما كان عصفها شديدًا في أفغانستان والحديث عن محور الشر إعلان أمريكي أن مشروع الشرق الأوسط الكبير التفتيتيين قد وضع قيد التنفيذ، والمثقف العربي الإسلامي، بعيدًا عن بروز الفعل المقاوم في لبنان وفلسطين يقتله الشك بإمكان المواجهة والنهوض في وجه المشاريع المعادية للمنطقة، كيف لا، وهذا المثقف لا يجد لنفسه أي دور فعلي مؤثر في سياق ما يجري أو يعد. بدت الحال، في نظره، أسوأ بكثير مما كانت عليه العام 1997، عام «يحرث في الآبار» الذي حاول فيه استنبات الماء من حقول الآبار العميقة التي كانت قد جفت ومع كل ذلك، فالتفاؤل هنا أقوى بكثير. ولئن دل ذلك على شيء، فإنما يدل على أن الشعر حين يكون شعرًا حقيقيًا، شعر شاعر كبير يصبح أكثر قدرة على التقاط حسيس حركة التاريخ، والوجهة التي تتخذها، مسجلاً سبقًا على الثقافة القائمة نفسها.

ومحمد علي شمس الدين الذي تشكلت شعريته داخل مصهر هذه الثقافة نفسها، قد استطاع برهافة عقله النقدي أن يتموضع داخلها، فيفككها ويحيط بخيوط ضعفها وخيوط قوتها، وهذا ما أهله ليلتقط،

بشعريته تلك، الإشارات الدالة قبل أن يلتقطها العقل الواعي للأمة المتمثل بمفكريها ومثقفيها.

الرمز

وكما تحول العالم، في قراءة محمد علي شمس الدين من حال إلى حال، تحولت أداوته التعبيرية، وعلى رأسها رموزه، وذلك تبعًا للمجرى العميق الذي اتخذته حركة التاريخ لنفسها. فنوح زمن انكشاف حواء الثقافة اليسارية العام 1983 مثّل القيادة التي لم تمارس من القيادة سوى التسلط، بعيدًا عن السير بالمجتمع نحو خلاصه.

«في الغمر كان (نوح واقفًا)
والظلمات ترفرف من حوله»
(المجموعة الكاملة، ص 457)

لقد حضرت القيادة ممثلة بنوح مع ولادة العالم، في اللحظات التي لم يكن العالم بحاجة إليها بعد، كانت زائدة عليه، فهي عبء العالم الذي يجب أن يتحمله بدلا من أن تحل مشكلاته.

وحضرت معه إلى الجنة قبل حضور آدم منها:

«في جنة عدن
في الفردوس حيث الحور العين عاريات كفواكه
الصيف على الأشجار
كان نوح قرب النهر»
(م.ن ص 457).

إنها (القيادة) المستأثرة بالخبرات، خبرات الولادة الأولى للعالم، خيرات الجنة، وإذا احتاج العالم إلى ثورة (طوفان)، كان نوح نفسه القيادة نفسها.

«وكان (نوح) قاعدًا قرب الربان
معه زوجه وطيوره وحيواناته
والبحارة يشربون النبيذ الأحمر
وقد عقدوا على جباههم فوطًا حمراء
ونقشوا على سواعدهم نقوشًا لنساء حسناوات»
(م.ن، ص459)

نوح هذا ليس نوحًا، والطوفان ليس الطوفان، لم يبق من هذا الرمز إلا صفة القيادة والزعامة مجردة من كل أبعادها الإيجابية. فالقائد الذي يدّعي قيادة الناس إلى خلاصهم من الشرور خارق للزمان، مستمر بحقيقته السلبية وإن تبدلت الأثواب، يبحث لنفسه عن دور في كل مرحلة، خصوصًا بعد الوصول إلى البر:

«قفز إلى اليابسة وحده
ترك زوجه وطيور السماء وحيوانات الأرض خلفه
تطلع إلى السماء
مد يديه وقال:
والآن
ماذا أفعل يا الله؟»
(م.ن،ص462).

لم يكن نوحًا قصيدة هذه المرحلة نوح الثقافة اليسارية التي عاشت تحت ظلالها. اتخذت القيادات اليسارية في أذهان اليساريين صورة المنقذ المخلص، ميشيل عفلق، عبدالناصر، خالد بكداش، عبدالخالق محجوب، جورج حاوي، أبو عمار، وجورج حبش، وتبدت، في القصيدة، وبمن كان حيًا من هؤلاء العام 1983، على صورة قرصان ممسك بالقوى الشعبية يحرّكها وفق مشتهياته الشخصية.

إن الإحباط الذي اكتشفته شعرية محمد علي شمس الدين، زمن تفاؤل الثقافة اليسارية، في أثناء قراءاتها الماء قد امتد أثره إلى ما تقرأ به تلك الشعرية،إلى الرمز حتى لكأن قراءة المرارة العميقة التي يتسم بها العالم قد احتاجت إلى إعادة إنتاج الرمز (نوح هنا) بما يتناسب مع قرارات الماء. أن يصبح (نوح) مقروءًا بدل أن يكون قارئًا، يعني أننا أمام قراءة مركبة ترتكز إلى ترمد ما كان مزهرًا في ذاكرتنا، عنيت الطوفان ومناخاته التطهيرية.

وفي غمرة المأزق العراقي الذي أعمى بصيرة المثقف العربي تبدى الطوفان، على عكس صورته السابقة عابقًا بالطيب ورديًا جميلاً في نص محمد علي شمس الدين الجديد:

«وحفيدتي الزرقاء
قالت (وهي تسبح): يا أبي
كن لي سريرًا في العباب
أقول: نامي يا صغيرة
سوف تحملك المياه إلى هناك
فإن زبيب مهدت
(من قبلما ولدتك أمك)
منزلاً للخائفين
وموئلاً أعلى من الطوفان
نامت في المياه
وأسلمت جسدًا
إلى جسد الفرات»
(الغيوم، ص173 - 174)

فالزرقاء (البصيرة العربية) النافذة تولد من جديد، من رحم الشعرية هذه المرة (وحفيدتي الزرقاء)، وسط الطوفان من دون أن تحسب في عداد الغرقى (هي تسبح)،وهي لا خوف عليها، ولا داعي ليكون الشعر سريرها في العباب، إن تجربة زينب الكربلائية بماهي ثقافة نهوض قد أعطت أكلها في العراق (فإن زينب مهدت). وهي كفيلة بتأمين الموئل الآمن لتلك البصيرة، الرؤية، الثقافة، باتت ثقافة كربلاء حضنًا دافئًا وآمنًا لكل الولادات الثقافية الجديدة في الأمة، تغير معها مشهد الطوفان. بات الشاعر مطمئنًا إلى أن حركة التاريخ العربي قد أخذت وجهتها الصحيحة. والطوفان طوفان ولادة لا طوفان موت وخوف، خصوصًا أن صورة القيادة المتمثلة بنوح، حضور القائد البشري قد اختفت عن شاشة القصيدة ليبتدئ الطوفان وحده ممسوكًا بقيادة (الثقافة الجهادية المستعادة) من أيام الحسين في كربلاء. ومن يتجاوز التراسل الخلاق القائم بين ثلاثة رموز في القصيدة هي: (الزرقاء) و(الطوفان) و(كربلاء)، إلى كربلاء وحدها في المجموعة الأخيرة، يجد أن كربلاء العقد الأول من القرن الواحد والعشرين، على قساوته، قد تخلصت من التركيز على جانب المظلومية المثيرة للشفقة وحدها:

ومروان لا يشرب من دم إخوانه
ولكنني ملزم أن أقول الحقيقة
إنه شارب
شارب
شارب من دمي للقرار
وها إن لحمي يداف على خبزة
ورأسي يطاف به فوق رمح لأعوانه
وترتاده الطير والسابلة»
(المجموعة، ص189).

المظلومية

ظهرت المظلومية وحدها هنا، بعيدًا عن أي نأمة أو إشارة تؤمن إلى يقظة أو فعل مستوطن ضمير الغيب. فارتياد الطير والسابلة رأس الشاعر (الحسين) المحمول على رمح لأعوان الشقيق العربي موح بطمأنينة هذه الطيور إلى أن أحدًا لن يعكر صفو ما تقوم به. بدت هذه المظلومية عديمة الأثر في الناس، في حركة التاريخ. إن أحدًا لم يحركه هذا الظلم مع شدة هوله. فالعام 1976، عام هذه القصيدة، هو عام بدء انكشاف سرابية البعد التفاؤلي في ثقافتنا يومها. جاء ليقول لتلك الثقافة إن مشروعك سيتوقف خارج أسواري، فهل كان هذا لأن الثقافة اليسارية قد أقامت قطيعة مع التراث العربي؟ وهل نجحت الشعرية، بما لها من علاقة مع ذلك التراث، في التقاط حركة التاريخ، فكان ما توقعته، وكان طبيعيًا أن يكون رأس الحسين، في هذه الحقبة، علامة مظلومية؟ وتأتي «قصيدة المياه» العراقية ليختلف المشهد:

«والماء
أجمل ما يكون
إذا تدفق في العراق
فإنه من أصله يأتي
ومن دمع الحسين جرى الفرات
وفاض دجلة
واستوى الثقلان
يا أهلي هناك تماسكوا
وتمسكوا بالماء
واعتصموا بسارية
ستؤويكم إذا سقط العذاب»
(الغيوم، ص174 - 175)

لقد احتجبت (ساقية النيل المسمومة)عن باصرة الشاعر تغير الزمان، وتغيرت معه مسارب التاريخ ومسارب ثقافتنا العميقة (وأتى الماء من أصله). وما أصله؟ دمع الحسين؟ ما كان بإمكاننا أن نمسك هذا التحول إلا من خلال الوجه الآخر للحسين، لدمعه الذي يشف عن المظلومية بقدر ما يخفي وراء تلك المظلومية من احتقان وثورة وحركة نهضوية. لم يبق الدمع إشارة ظلم. أجرى الفرات، بعد أن لم يكن جاريًا بما يشير إليه التركيب (وجرى الفرات)، وجعل دجلة يفيض بعد انحسار بما يشير إليه التركيب الثاني (وفاض دجلة). تحول الدموع من ردة فعل سلبية إلى فعل إيجابي متناسب مع الرمزية التي يفيض بها الرافدان. وانتقل الرمز الحسيني من ظاهرة المأسوي إلى جوهرة التغييري الرافض لأي شكل من أشكال الظلم. ولذلك صار التمسك بالماء، بما آل إليه في هذه المرحلة من عمر قصيدة محمد علي شمس الدين، وبما اكتسبه من دمع الحسين، دموع عراقيي هذه المرحلة، فعل خلاص يقيم قطيعة مع سلفه في قصائد السبعينيات، تمامًا كما أقام الرمز الحسيني قطيعة مع سلفه الذي عمرت به قصائد تلك المرحلة نفسها. ويبقى أن ما قرأه الشعر من جوانب العالم، وأن أداته الرمزية في القراءة كليهما قد استمدا نسغ حياتهما من العمق الخفي لثقافتنا. ذلك العمق المتآخي مع حركة التاريخ المضمرة التي لا يلتقطها سوى الشعراء.

إضافة

وأجدني أستذكر هنا المقابلة التي أجراها اسكندر حبش مع شاعرنا في جريدة السفير (الجمعة 19 / 1 / 2007)، إذ استوقفني في هذه الحوارية وصف حبش مجموعة (الغيوم التي في الضواحي) بأنها قد أتت لتضيف طابقًا جديدًا إلى هذه العمارة التي بنيت بصبر وتأن على امتداد سنين طويلة». ولعل حبش قد أفاد من مقولة شمس الدين «إن الشاعر قصيدة واحدة» فيما ذهب إليه. وإشارة الشاعر إلى القصيدة الواحدة لا تسمح لنا بوصف «الغيوم التي في الضواحي»، أو أي مجموعة أخرى بأنها طابق جديد في عمارة، خصوصًا إذا كان الشاعر محمد علي شمس الدين، لأن (الطابق) يعني الرتابة مهما أجرينا عليه من تعديلات زخرفية. وهذا ينافي طبيعة الشعر وحركيته.

ولذلك فإنني أوافق شاعرنا على أن الشاعر قصيدة شرط أن نرى في هذه القصيدة، ملحمة العمر بكل تجاربه مع الأحداث ومع الثقافة، ولا تقوم هذه القصيدة على تجربة واحدة تتكرر لتكون طوابق، هي تجارب متعددة متحولة.

وأن نوافق الشاعر على أنه قصيدة واحدة، فإننا لا نوافقه على ما قدمه عن الشعر في أثناء حديثه عن شعرية التفاصيل «التفاصيل بذاتها وكما هي... لا تشكل شعرًا، التدخل البشري للشاعر ضروري، وهذا التدخل ينطوي على حيل وتقنيات، جمع وتشريد، إزاحة، تشبيه، تفتيت أو بعثرة.. إلخ... اللمسات هذه أنا أراها هي المحول للتفاصيل والهوامش كما للقضايا الضخمة إلى قصيدة». إلا إذا قصدنا بـ(اللمسات) عمق الثقافة التي يكتنزها الشاعر ورهافتها. والفن، بما هو إعادة تشكيل للواقع، لا تتم إعادة التشكيل فيه ارتجالاً. الإعادة صوغ جديد للواقع تقوم به الرؤية نفسها، ثقافة الشاعر، تلك الثقافة المشتبكة مع ثقافة الأمة في حوارية قلقة مثيرة للحرج. و(اللمسات) ليست حركة آلية يتقنها الشاعر بالمراس، ثقافة الشاعر وحدها تتحكم بهذه اللمسات. وكلام محمد علي شمس الدين عن إعادة قراءة ما كان قد قرأه: «على كل حال قلبت الوجوه والأشخاص على مزاجي، والآن أقول انتهيت»، غير مقبول إلا في السياق نفسه، أي في اعتبار (المزاج) وجهًا من وجوه رؤيته إلى العالم. وإشارة الشاعر إلى قلق الثقافة العربية إشارة صائبة، وإن كان نصه الشعري غير متوافق مع قوله بعجز الراهن في الثقافة العربية» عن مد يد المساعدة لامرأة مشردة، أو عجوز يموت تحت ركام منزله». فالقلق علامة إيجابية. ولا تكون ثقافة ما قلقة إلا إذا أثارت أسئلة محرجة تدفعها تشرد نسوة وموت عجائز تحت الركام، إنها الضريبة التي لا بد منها. ولا أرى رأي شاعرنا أن محاولته في «الغيوم التي في الضواحي» منسجمة مع معطيات الزمن المعولم، إلى ما بعد حداثوي بتمجيد الصوت والصورة، اختزال التواريخ إلى صوت وصورة». لا تقوم قصيدة محمد علي شمس الدين، في جميع مراحل عمرها، على جمالية الدال، متخلية عن جمالية المدلول، خصوصًا في المجموعة الأخيرة. قصيدة شاعرنا في مسيرته الشعرية كلها قصيدة واحدة من حيث تعاملها مع جمالية المدلول الحداثية، كيف لا، وهذه القصيدة قارئة للتاريخ، ولحركته ولتوجهاته، بشكل أكثر دقة من قراءة المثقف والثقافة، وإن ما كانت تعلنه، وكثيرًا ما يكون مضادًا لتوقعاته الثقافية، أكثر صدقًا مما كانت تتوقعه الثقافة السائدة نفسها؟

صحيح أن الشعر لا ينتهي ولا يبدأ، وليس هنا مهدي منتظر للشعر، إلا أن الشعر نفسه إذا كان نتاج شاعر كبير يؤدي جانبًا من وظيفة مهدي الأمة حين يدلها هذا النتاج إلى طريقها الذي يجب أن تسلكه.

 

علي مهدي زيتون