ارتقاء باللغة.. وتحديث في الرؤية

 ارتقاء باللغة.. وتحديث في الرؤية

«من الصعب جدًا تناول تجربة باذخة كتجربة الشاعر الكبير محمد علي شمس الدين في كلمات أو سطور، مهما طالت، فهو ليس واحدًا من الشعراء العرب الذين راكموا تجربة إبداعية على مدى أربعة عقود فحسب، وإنما هو صاحب تجربة شعرية نادرة في فرادتها وخصوصيتها.

بدأت تجربة محمد علي شمس الدين مع ديوانه الأول «قصائد مهربة إلى حبيبتي آسيا» الصادر في بيروت العام 1975.

وهذا الديوان، من وجهة نظري، بداية في حضوره الشعري المكتمل، حيث اللغة الجديدة المفاجئة، والاقتراب الحميم من الطبيعة، والاستخدام البارع للأسطورة والحوار، مع انفعال تلقائي تجسده الغنائية العالية التي كانت سائدة في شعر الستينيات، ثم الانتقال أسلوبيًا إلى غنائية هادئة بالغة العذوبة اتسمت بها تجربته الشعرية في أعماله التالية كلها، وآخرها «الغيوم التي في الضواحي» الصادر عام 2007.

يضاف إلى هذا وذاك أن الشاعر محمد علي شمس الدين يمتلك ثقافة شعرية واسعة المدى ترفدها متابعة منقطعة النظير لكل الجديد الذي ينشر، ومراجعته نقديًا.

كما يجب بحال، عدم إغفال مزاياه الشخصية، ودورها في تشكيل صورته لدى القارئ الذي يعرفه، أو ذلك الذي لا يعرفه، إنه شاعر لا يتعالى، ولا يدعي أنه من آباء الشعر الحديث، أو على الأقل من سدنته، أو حتى من حوارييه. إنه شاعر يمارس تأثيره العميق، وحضوره المتزايد، من خلال نصوصه الشعرية نفسها. وهو قبل ذلك كله وبعده، شاعر يثق بقارئه كما يثق بأن هناك جمهورًا للشعر، ذكيًا يعرف الفارق بين الماس والزجاج، وبين التبر والتراب.

وهذه الثقة بالقارئ (الفرد، والقارئ) الجمهور، هي التي جعلته أحيانًا يدخل في حروب مريرة وقاسية، مع من يسميهم «الدجالين، والحواة، وكتاب قصيدة العدم».

محمد علي شمس الدين شاعر صادق مع نفسه صدقه مع الشعر، فهو منذ بداية رحلته الإبداعية لم يقل إنه يجري عكس التيار، لكنه يستطيع أن يتحدث بتجربته وإنجازاته كل أولئك الذين يدعون أنهم يجرون عكس غيرهم وعكس أنفسهم. وعلى الرغم من استفادته الواضحة من السوريالية وغيرها من مذاهب الفن الشعري الحديث، فإن جوهر تجربته طالع من جذور الإبداع العربي عبر عصوره المختلفة، وكانت صلته الحميمة مع إنجازات كبار الشعراء والكتّاب العرب: المتنبي، أبو تمام، الشريف الرضي، أبو العلاء المعري، النفري، ابن عربي، الحلاج، وغيرهم من المتصوفين المبدعين، حافزًا له لينشئ معهم صلة الوارث المبدع الذي يتعامل مع موروثه، ثم يتجاوزه ويضيف إليه، شأن كل المبدعين الكبار، في كل العصور والأمصار.

شاعر في زمن الأقنعة

الشاعر شمس الدين عربي الوجه واليد واللسان في زمن الأقنعة الملونة والوجوه المستعارة، زمن الاعتراف العلني بأن السمعة الطيبة تشوه موهبة الشاعر وتحكم على الشعر بالتخلف!».

وهو بحق واحد من أبرز شعراء العربية المعاصرين، فضلاً عن كونه ينتمي إلى ظاهرة شعرية مضيئة، ليس في تاريخ الشعر العربي في لبنان فحسب، بل في تاريخ الشعر العربي كله، وأعني بها ظاهرة الشعراء الجنوبيين، أولئك الطالعين من جنوب لبنان، بجراحه ومقاومته وموروثه الأدبي والمعرفي. وشعراء الجنوب صفة أو مصطلح يشمل كل هؤلاء المبدعين الذين انحدروا من جنوب لبنان وكتبوا شعرًا عربي الهوى والموقف، وليس له من جنوبيته إلا أسماء شعرائه.

وشاعرنا محمد علي شمس الدين كان قد تقدم هذه الكوكبة الرائعة من الشعراء الجنوبيين، بقصائده وبأعماله الشعرية، قبل أن تتردد هذه الصفة على الأفواه، وديوانه الأول «قصائد مهربة إلى حبيبتي آسيا» سابق للحديث عن تجربة شعرية جنوبية، وقبل أن تظهر ويكتمل مدارها وتأخذ صفتها أو تسميتها التي صارت على كل لسان في الوطن العربي، وبفضل ما أنتجه شعراؤها، أفردت له المدونة الشعرية العربية المعاصرة مكانة خاصة، وبقدر ما كانت التجربة الجنوبية رد فعل أساسي أيديولوجي ضد الاحتلال الصهيوني وعربدته في فلسطين أولاً، ثم في جنوب لبنان ثانيًا، فقد كانت شعرًا حقيقيًا مكتوبًا بلغة فيها الكثير من الصفاء والإشراق.

وإذا كان عشرات الشعراء يكررون أنفسهم وتبدو أعمالهم الشعرية كما لو كانت قصيدة واحدة تدور في حلقة مفرغة، فإن كل عمل شعري جديد للشاعر محمد علي شمس الدين يحمل جديدًا، أو يقدم إضافة فنية وإحساسًا خاصًا يولد شعورًا لدى القارئ بأن الشاعر لا يعيد تشكيل نفسه أو قصائده، وفق تعبيرات شائعة، وهو لا ينفك عن مواصلة الابتداع ومتابعة اللغة في صفائها ونقائها وفي قدرتها على الانزياح عن ثوابته او مسكوكاتها الرائجة والمتداولة وذلك سعيًا للوصول إلى نص ساطع كاشف لا يبهر بمقدار ما يطرح من حمولات لفظية، وإنما بمقدار ما يقتنص من صور ومن معان تومئ وتشير وتضع القارئ في مناخها بتلقائية مفاجئة ومثيرة.

ولا أدري كيف وقر في أذهان بعض الشعراء أنه لابد من استخدام كلمات معقدة غريبة ليصبح الشعر شعرًا حقيقيًا؟ وهم في الوقت نفسه يتحدثون عن دور الشعر في الحياة، وكيف ينبغي أن يجد فيه الناس حاجة من حاجاتهم اليومية الإنسانية، كالماء والهواء.. وعندما يتوقف الدارس تجاه ما ينشر، يرى أنه من الصعب أن يجد هذا المستوى من الشعر طريقه إلى الإنسان، بما في ذلك الإنسان المثقف الذي توفر له قسط من المعرفة، يجعله على صلة ثابتة بالإبداع، حيث يجد نفسه حائرًا تجاه ما يقتنصه من شظايا معان وشذرات أفكار باهتة يلتف بها الغموض من كل جانب، مع الإشارة إلى أننا لسنا مع التسطيح والتبسيط الساذج، أو ضد الترميز الشفاف والغموض الفني الجميل.

إن الشاعر الحقيقي وليد المعادلة الفنية والموضوعية، ولقد استطاع شاعرنا شمس الدين في قصائده السياسية المفعمة بالهم الوطني الإنساني وبفضل إدراكه لأبعاد هذه المعادلة، أن يفرق بين خصوصيات الشعر وعموميات السياسة، أو بعبارة أخرى، استطاع أن يجعل الشعر يحتفظ بجوهره الباطني الخفي، مع دلالاته الواضحة على العابر والمتقلب مع الشئون الحياتية والسياسية وكانت القيمة الفنية هي ما يتوخاه دائمًا في النص الشعري، ولقد كان هذا واضحًا منذ مجموعته الشعرية الأولى، وقد وظف ذلك بشكل واضح في مجموعته الأخيرة «الغيوم التي في الضواحي»، وهو يدرك أن القصيدة ينبغي أن تكون رهن خصوصيتها الفنية أولاً، ثم تأتي بعد ذلك خصوصيتها الرؤوية.

التزام الشعر

بهذا الالتزام - التزام الشعر - نجح شمس الدين في أن يكون له صوته الشعري الخاص في خضم هذا الحشد من الشعراء المنافسين وفي زحام الطالعين من بيئة ثقافية واجتماعية متماثلة ومتشابهة.

إلى هذا المعنى يشير المستشرق الإسباني بدرو مارتينت مونتابث في مقدمته للأعمال الكاملة للشاعر شمس الدين، الصادرة عن دار سعاد الصباح، القاهرة 1993، وهي الدراسة التي وضعها أصلاً المستشرق الإسباني الكبير لقصيدة «البحث عن غرناطة» التي ترجمها للشاعر ونشرها في مجلة «المنارة» Al Menara في مدريد التي يرأس تحريرها (Volumen 10 - 1977)، حيث يصف القصيدة السياسية لدى شمس الدين بأنها «شعر سياسي ولكن بوضوح خاص، بتفجر ونغم، ولهجة لا علاقة لها بكل المناشير المنحرفة التي يبدو أن علينا احتمالها دائمًا.

ولا يمكن أن يكون إلا كذلك شعر وجودي بقوة، يغوص في الأساطير، مليء بالرموز والإشارات» (ص15 من المجموعة الكاملة، ترجمة الدكتورة ناديا ظافر شعبان). ولا يكتفي هذا المستشرق الذكي الواعي لمعنى الشعر بهذه السطور من تقييمه النقدي المحايد لشعر شمس الدين، بل يضيف في المقالة نفسها: «.. والواضح أن كل ذلك، يطعم ويبلل الشعر المبكر لشمس الدين، وكل ذلك يفيد في بدء التفهم لعمقه ولغزه، لوضوحه وظله، شعر ممهور بقدرة تصورمدهشة، قادرة على الإيحاء والاستبطان (استيحاء التراث)، على الانشطار، على الغموض، واختلاط (ضبابية التصاميم، على رسم المنظر الفني والتقاط أبعاد اللحظات (ص14 من المقدمة). لا أريد أن أقول إن الآخرين يروننا من بعيد، أفضل مما نستطيع أن نرى نفوسنا من قرب، ويقرأون إبداعنا بطرقية أعمق من طريقتنا في قراءته، لكني أقول إنهم يعطون للمسألة الجمالية وتقنياتها مساحة أكبر، ويولون الجانب الفني في الشعر ما هو جدير به، بينما يتركز نقدنا المعاصر في معظمه على التأويلات السياسية والاجتماعية، ربما كان نقدنا القديم في هذا المجال، أفضل بما لا يقاس» لقد كان على العكس من ذلك، يهتم بجماليات النص وبنائه الأسلوبي وتركيباته اللغوية. ومحمد علي شمس الدين شاعر غزير الإنتاج شعرًا ونثرًا، ولكنها غزارة المطر العذب في إيقاعه وموسيقاه، في بصمة الخصب التي يتركها على الأرض العطشى. ومن النافل القول إن مكانة الشاعر، أي شاعر، في الحياة الأدبية، وفي لغته ووطنه، لا تأتي بكثرة دواوينه، ولا بعدد ما يقدمه للمكتبة من مؤلفات، وإنما بما يحمله شعره من حواس القارئ ولو في ديوان واحد أو قصيدة واحدة، لكن ذلك لا ينفي أن لبعض الشعراء قدرات خاصة على مخاطبة وجدان القارئ وحواسه في كل أعمالهم الشعرية، ولو تكاثرت.

ومحمد علي شمس الدين واحد من هؤلاء الذين حققوا نجاحًا منقطع النظير في مخاطبة حواس قرائهم. ولا يخفى على الدارس المتابع لخطوات الشاعر، الجهد الإبداعي المتصاعد في الارتقاء باللغة والتحديث في الرؤى التي يحملها كل عمل جديد لهذا الشاعر الكبير محمد علي شمس الدين هو من سلالة الشعراء النقاد ومن سلالة الشعراء الثائرين، وكما لشعره خصوصيته، فإن لنقده خصوصيته أيضًا، ولنثره من جمال العبارة ورونقها خصوبته أيضًا، كقوله في كتاب الطواف: «الطبيعة نظيفة وضاءة، كامرأة خرجت للتو من الماء. فهي بعد الشتوة الأولى (وهي النشوة الأولى) تستيعد طراوتها،حيث تعلق بأطراف الغصون وذؤابات الأشجار، حبات المطر المتلألئة كأنها بقايا دموع على هذه الأشجار».

ولنا هنا أن نتساءل: أقطعة نثر هذه أم مقطع من قصيدة؟ لا أحسب أن القارئ المتمرس والمتذوق للشعر في أشكاله المختلفة وهيئاته المتنوعة، سوف تفوته اللمحات الشعرية والصور الباهرة في هذا المقطع من نثر الشاعر، الذي يحتفظ أسلوبه دائمًا ببهاء اللغة وجمال العبارة المشرقة لتظل بين شعر الشاعر ونثره تلك الوشائح والصلات المتينة، وهو ما يضع قارئه في حالة انجذاب ودهشة وانخطاف، هذه الحالة التي صارت جزءًا حيويًا من أسلوبه وشخصيته الإبداعية المتميزة.

 

عبدالعزيز المقالح