جمال العربية
واحة العربي
البومة التي لا تزال صفة في اللعن ، ورمزا للشؤم- في الشرق ، والحكمة في الغرب من بين ما فعلته المدن الحديثة أنها طردت البومة (أم قويق) من أجوائها, فنادراً ما نسمع هذا الصوت النائح, محتوياً على أنغام فاجعة لأرملة أو ثكلى لا تزال ترغب في الانتحاب أو النواح, صوت يتدرج في تصاعد خشن بالغ الإقلاق, لكن البومة ـ ذاتها ـ ظلت صفة لاعنة متشبثة بكلامنا في التخاطب الغاضب أو المحتج أو المتشاجر حتى لو لم نكن قد رأيناها رأي العين من قبل. ولا يوجد مخلوق ارتبط بالتشاؤم في منطقتنا مثل أم قويق, والتشاؤم أدى إلى اللعان ـ أو الملاعنة ـ أي الوصف الجارح ـ أو السب الهادئ في المزارع والأحراش, وفي القطارات والفنادق الفاخرة, وفي اليخوت ـ المراكب الفخمة الصغيرة ـ أو في الطائرات, (عامل زي البومة) ـ أو مثل أم قويق ـ تخرج من الأفواه ساخنة أو رصينة أو مرحة أو بالغة التعدي السافر, كي نبدي رأياً لا يحتمله منطق الآراء إزاء السائق أو الساقي أو حامل الحقائب أو كاتب المقال أو رئيس وزراء أو زوجة مملة أو صديق فاقد الهمة أو البصيرة. وعندما كنت أعمل بمكتب أحد المحامين جاءنا من يود أن يرفع دعوى تطليق ضد زوجته, كان الرجل قبطيا مصريا تحتاج دعوى الطلاق عندهم إلى إجراءات عديدة ومعقدة, بسبب خلو عقيدتهم من الفصل بين الزوجين إلا لأسباب بالغة التحقق, وكانت الزوجة قد رفعت جنحة جنائية ـ عن طريق النائب العام ـ لعقاب زوجها على عدة شتائم في أوقات مختلفة, وصفها فيها بأنها مثل أم قويق, وفي حديثه أشار الرجل مرارا إلى الدمامة والقبح اللذين تتصف بهما زوجته, وخلال تحريك دعواه بالطلاق فوجئنا بمدى جمال هذه المرأة, حتى أن القاضي ـ في أولى الجلسات ـ راعه أن يشتمها زوجها بلفظ البومة أو أم قويق, وخلال المناقشة كان القاضي شديد الاهتمام بالكشف عن أسرار خاصة بينهما قد تكون هي السبب السري غير المعلن وراء الأمر كله, حكم القاضي بالطلاق في الجلسة الثانية مباشرة تاركاً القضية لمن يود الاستئناف أو الطعن, بعد ذلك بشهور قليلة عرفنا أن هذه البومة ـ وعذرا ـ الجميلة ـ الفاتنة تزوجت من كاتب سر المحكمة. والبومة معروفة في جميع أنحاء العالم, وعندنا ـ في منطقتنا ـ ترتبط بالشر والشؤم, أما في البلاد الأخرى ـ في أوربا مثلا ـ يرمز إليها بالحكمة دون أي صفات شريرة أخرى, وهي من أشهر الطيور الليلية, جارحة, أقدامها كبيرة ذات مخالب حادة قوية, ومنقارها معقوف, وعيونها قادرة على التكيف لتصبح قادرة على الإبصار في الظلام, تقضي النهار نائمة في كوات جذوع الأشجار أو بين كثيف الأغصان, كذلك فإنها تفضل الكهوف لو أنها قريبة من الجبال, وهي متعددة الأنواع, وأشهرها هذا الذي نستغل وجهه المشابه لرسم القلب في الفن التشكيلي ـ الرسم والنحت ـ وهي قادرة على الثبات دون حركة, فترة طويلة كي تفتك بالقوارض ـ الفئران ـ والثعابين ـ والحشرات, وبعضها له ريش فوق رأسها كالقرنين. ومن أشهر القصائد الموروثة في الأدب الإنجليزي قصيدة كتبها المسمى (نيكولاس) من ناحية (جيلد فورد) حوالي عام 1200 ميلادية, وهي مناظرة أو محادثة ـ تكاد تكون مدرسية ـ بين البومة والعندليب, يحاول كل منهما أن يتفوق على الآخر في ذكر محاسنه الظاهرة والخافية, ويعتبرون القصيدة من أبدع الشعر الإنجليزي الذي يرمز إلى الجدل بين مدرسة الشعر التعليمي, والمدرسة الجديدة التي تنادي بالحب والعشق وتمجيد الحياة. وأخطر أنواع البوم في حياتي هي تلك التي كانت تطلق صوتها المخيف في السحر, في هذا الوقت الصامت عندنا في الريف القديم, من فوق واحدة من النخلات السبع التي كانت في ساحة بيتنا خارج القرية, وكنت أرتعب كلما ازداد الصوت نواحاً حتى أنني أمعن ـ في ظلام الليل ـ بين فواصل خص البوص الذي كان السقف الوحيد لنا, وعندما كانت أمي تنتبه إلى وجلي كانت تطارد في الباحة وتحت النخيل ما تود أن أفهم أنها خلصتني منها, ثم كانت تلك البومة التي كانت تنتحب فوق مبنى معمل بيض لتفريخ الكتاكيت, وكان الليل الشتوي القارس يستشرف الفجر حين تختلط الأصوات المنزعجة فجأة, صوت أم قويق الذي ينهش اقتناصاً فئران البيض الفاسد, وفي كتاب العديد ـ أو التعديد ـ أي القصائد الشعبية للنواح فوق رأس الميت, أو وداعاً له, تأتي أم قويق في كثير من مقاطعها: (قالوا لي إيه اللي صحاكي, وإيه اللي شال المرار وياك, أنا قلت وش القويقة كان مستني, نجمة الصبح انكسرت على البنِّى, عرفت أن اللي حاصل هيتردم وياك) و(العدودة) تخاطب امرأة ثكلى أو أرملة, وتخبرها بأن الذي أيقظها مبكرا, وشاركها الموقف المرير, هو وجه البومة الذي ظل منتظرا حتى انكسرت نجمة الصباح ـ رمز التفاؤل الشعبي ـ تحطمت فوق البنى ـ وهي واحدة البناني التي يركن إليها الحمام وأفراخه ويعيش فيها. وتشير الناحبة إلى أن كل رموز التفاؤل والخير ـ نجمة الصباح والحمام وبيته ـ سوف يردم عليها مشهد وجه أم قويق المفعم شؤماً. ورهبان الأديرة يصابون بالضيق والتوتر, مما يدفعهم للخروج عما اتصفوا به من تفادى العدوان والأذى, وليتخلصوا مما قد يمر عليهم من مثل هذه الطيور التي قد تقيم أعلى ساريات قباب الأديرة ـ أكثر مما يجب, فإنهم يستعينون بمن لهم دراية في مطاردتها أو حتى قتلها, كي يخلوا تماماً إلى العبادة الليلية, التي تضطرب تحت وقع هذا الصوت الشرس الذي يتسلل إلى الأعماق البشرية فيقلقها ـ مهما اتصفت بالهدوء والسكينة والإيمان.
|
|