أنا .. الآخر محمد حسن عبدالله

أنا .. الآخر

قراءة نقدية في
مجموعة قصصية للدكتور سليمان الشطي

"ونظرت في خزان الذاكرة فوجدتها تنثال حاكية قصة الجد القديم، تلمست الجلد، حككته فانبثق دم، سال، تشكلت خطوط، ترتبت سطور، توالت قصص، نحتت صخور، قطعت أشجار، تجمعت مجلدات، تجردت أفكار فاستوى تاريخ يشدني شدا فتنخلع كتفاي. دار رأسي، فاستسلمت".

هذه عبارة افتتاحية، صدر بها سليمان الشطي آخر قصص مجموعته، فكأنما جعلها بابا يفتح على نمو ذجين من نماذج "الخناجر النادمة" - وما أكثرها في تاريخ الصراع البشري - قابيل قاتل أخيه، وعبدالسلام، أو "ديك الجن الحمصي" قاتل جاريته، أو غلامه، أو كليهما. غير أن هذه العبارة الافتتاحية، وإن تأخر مكانها في ترتيب القصص تبدولنا دقيقة جدا في وصف هذه المجموعة القصصية، وتحديد إطارها العام، ونشاط الذاكرة في تشكيل مادتها، وتوجيه أهدافها. وقبل أن نتمهل عند بعض هذه الجوانب نذكر أمرين: أن الأديب القاص سليمان الشطي هو أستاذ النقد الأدبي بجامعة الكويت، ولا نذكر هذا لمجرد العلم بالشيء، أو إضفاء التعريف، وإنما لما نتوقع مسبقا من احتمال التعارض بين موهبة الإبداع ومقدرة البحث الأدبي، فكثيرا ما تطغى إحداهما على الأخرى، وغالبا تكون موهبة المبدع هي الضحية، المتراجعة، ولا أقول المرتجفة، أو المرتبكة، أمام زحف المعرفة، وتطلع الفنان واسع الثقافة إلى أن يضمن عمله الإبداعي خير ما استوعب عقله من نظريات، ورموز، وإسقاطات، وكلاسيكيات متأصلة، واكتشافات مستحدثة.. إلخ. فينتهي به التوفيق المستحيل إلى تلفيق يثير الإشفاق، بما يدل عليه من "طمع" في أن يقول العمل الفني كل شيء، فتكون النتيجة أن يسقط في التأتأة، والفأفأة.. ولا يتمكن من إبلاغ نيته الحسنة !! هذه المجموعة القصصية دليل مؤكد على أن الكاتب لم يقع في هذا "الكمين" الجاهز، الذي نلاحظه في إبداعات كثير من الأكاديميين الذين يتطلعون إلى المشاركة في الإبداع، وقد يملكون الموهبة، ولكنهم يتهيبون إطلاق العنان لها، فتتعثر في ركام المعارف النظرية، وخبرات الآخرين، وتكون الكبوة المفسدة.

أما مرجع هذه "العصمة" - وهو الأمر الثاني - فلأن سليمان الشطي بدأ قاصا، إذ ظهرت مجموعته الأولى: "الصوت الخافت" عام 1970 وكان طالبا بالليسانس، وظهرت مجموعته الثانية: "رجل من الرف العالي" عام 1983، وهذه المجموعة الثالثة تؤكد التواصل، كما تدل على تطوير الرؤية، فقد كانت المجموعة الأولى معزوفة حنين إلى الماضي، قبل أن تهب عاصفة النفط فتقتلع أشجار السدر وتقيم مكانها أبراج الأسمنت، كما كانت المجموعة الثانية مجهرا يكشف نوازع القلق والضياع لدى المثقف العربي في راهنه الحافل بالتناقضات.

خزان الذاكرة

إن "خزان الذاكرة" هو المصدر الأساسي لتجارب هذه القصص السبع التي تكونت منها مجموعة: "أنا.. الآخر"، وهذا هو الخيط المستسر الدقيق الذي يمتد ما بين سليمان الشطي مبدعا، والدكتور سليمان الشطي ناقدا وباحثا، وهو لا يحكي التراث المختزن، وإنما ينتقي، وينتقد، ويعيد التشكيل، ليتولد المعنى، ويتحدد الهدف، فهنا "رؤية"، أو "تناص" يضع البعد التاريخي للنص في صميم عصر الكاتب، صانعا الجسر الممتد المشترك ما بين المبدع وقرائه.

كيف "تشكلت خطوط"، و"ترتبت سطور" و"توالت قصص" منبثقة عن خبر تاريخي، فتصبح بالتناص الواعي حاضرة في واقعنا، مجسدة لمعاناتنا ؟

في قصة "أنا الآخر" يبرق نص: "حدثني جماعة من شيوخ بغداد أنه كان بها في طرفي الجسر سائلان أعميان، يتوسل أحدهما بأمير المؤمنين علي، عليه السلام، وآخر بمعاوية، ويتعصب لهما الناس، ويجيئهما قطع النقود دارة. فإذا انصرف الناس اقتسما القطع، وأنهما كانا شريكين، يحتالان بذلك على الناس". قرأ راوي القصة هذا الخبر الطريف على صديقه "التاريخي" حميد، فأصر على وصفهما بأنهما أولاد كلب. مع هذا راح يجرب طريقتهما، فـ "اللعب على الاختلاف ممكن"، وهكذا توسع الصديقان الشريكان في تجارتهما، ما بين محل لبيع أشرطة الأغاني، ومطبعة، مع عملهما الصحفي. يردد الأول أنغام الحرية والفن عن اقتناع، ويرفع الآخر (حميد) شعارات التوبة والالتزام. وهذا الطريق الأخير تفتق عن عقود وأموال ومشروعات، ما لبثت أن زحفت على مساحة الحرية، وأحرقت أشرطة الفن، وانتهى الأمر بالصديقين إلى فرقة يستحيل معها الاجتماع. وبهذا افترق "الأعميان" على طرفي جسر بغداد، بل انقطع الجسر وسقط، لأن "اللعبة" في هذا الزمان صارت أكبر، والمحركات والثروات المساندة أكثر، فلم تعد أنصاف الحلول بين الشركاء ممكنة، وبخاصة أن أحد الشريكين - في القصة - يؤثر الغموض، بحجة أن "في الغموض سحر مطلوب، والواضح قد لا يكون محل اتفاق"، وبهذه الخدعة "الفنية" سوغ أسلوب عمله السري، وخدع صاحبه. في قصة "جمل" يتحقق التناص مع قصيدة للشاعر أحمد العدواني: "رسالة إلى جمل" وفي القصيدة يتخذ الشاعر من هذا الصديق التاريخي رمزا للأصالة، والثبات، والصبر على معاناة التفاهة في زمن تتغير طبائعه وفق مطالب الزيف. أما القصة التي تصدرها مقطع من القصيدة ففيها جملان، وليس واحدا، تباعدت بينهما طرائق المعاناة، لكنهما انتهيا إلى الهو ان، وتزييف الرسالة، فثار أحدهما ودفع حياته ثمنا لنخوته، ورقد الآخر مستسلما، جيء به ليصنع الشفاء لمريض ميئوس من شفائه، فتحول المريض إلى طبيب يحاول استنقاذ آخر الرموز التي تنتمي إلى زمانه. كان الجمل الأول وسيلة إنقاذ "الأب" من جنون الثأر في البادية، فحمله إلى المدينة، تكيف الأب مع الواقع المتغير، فلم يستبق من البادية إلا الحنين، فإذا قال مجرب إن شفاءه في لبن الناقة، أد ى التداعي دوره، فقال الأب: "إذا كان لا بد من حليب الناقة فليكن معها جمل"، وقد شرط في الجمل المأمول شروطا جمالية، أمكن العثور عليها ولكن مطعونة بزيف الانتخابات العصرية، فلأمر ما يحرص المرشحون على إقامة الخيام في الصحراء لاستقبال الناخبين، واعتقال جمل مهاب الطلعة قرب الخيمة ليثير نعرة القبيلة، ويعمق الشعور بالانتماء. وهكذا ظهر الجمل القديم المذبوح بثورة الكرامة ورفض الهو ان، مكتوفا بالحبال، وقد تحول إلى دمية، لافتة دعاية، رمزا للعجز عن الفعل، والتردي الذي مثلته "البطة البرية" في مسرحية إبسن الشهيرة !!

قابيل يعود

وفي النموذج الأول من حملة الخناجر النادمة، قابيل، فإن تطوير الحكاية محكوم بالنص القرآني، وقد انعكست العلاقة التناصية بالمقدس في تأسيس حالات نفسية مزاجية، لا تصادم ولا تضيف ما يمكن اعتباره تدخلا، فقابيل - في القصة - فلاح، مالك للأرض، حاكم ومحكوم بمنطق المنفعة وقوة الملك، في حين كان هابيل راعيا، والرعي كما يراه الكاتب يكسب صاحبه شعورا حرا، ويقربه إلى قيمة العدل والمشاركة، ويعلمه تحمل المسئولية، ولعل الكاتب كان يستحضر القول إن الرعي كان دائما مهنة الأنبياء، ولكننا نعرف في تحليل مراحل الحضارة أن الرعي هو المرحلة الأقدم (الأدنى) وأن بداية بناء الحضارة كانت مع الزراعة، على أن الكاتب لم يدخل في هذه المساحة من الجدل، وكل ما استبقاه من أخلاق الرعاة فضيلة المشاركة، والسخاء بما في اليد، وهذا عكس ما يؤمن به من ذاق لذة التملك وجرب الاستعلاء بالثروة، وبهذا التعارض تحدد المصير "التراجيدي" لهابيل، واستكملت الذرائع أن يكون قابيل قاتلا لأخيه، أما موضوع النزاع: "المرأة" فمسكوت عنه في النص، مسكوت عنه كذلك في التناص المحكوم بقيود التعامل مع الأصل. لم يكن الأمر كذلك في النمو ذج الثاني، ديك الجن، ولهذا تحرك تشكيل المادة المأثورة بين احتمالات الرواية، وإشارات الشعر، واصطناع عناصر تنويع لإذكاء الصراع، واستكمال تصوير الحادثة الفريدة التي ينقصها الكثير من عوامل الإقناع، وفي سياقها - كما ترويها المصادر الأدبية - غموض وثغرات متعددة، وبرغم أن الكاتب بذل جهدا ليدخل إلى أعماق هذه الشخصية النادرة، فإنه - بطريقة ما - أحس أن قدرا من الحقيقة لا يزال مطويا يستعصي على الكشف، أو أن "الزمن" أضاف إلى الحادثة ما ليس منها.

الواو المحذوفة

ثم نتأمل هذا العنوان: "أنا.. الآخر"، وهو خاص بقصة محددة، ولكنه يصلح عنوانا، لا يفتقد الدقة، لكل قصة على حدة من قصص هذه المجموعة. نلاحظ أولا الاستغناء عن واوالعطف، فهي ليست عن الأنا، والآخر. وبالصيغة التي آثرها سليمان الشطي تتجرد "الأنا" تماما من أنانيتها، فقد جعل من ال "هو " أصلا، ومن "الأنا" فرعا، أو مساعدا، وكما تحتمل صيغة التقابل بين ال "هو " وال "أنا"، فإنها تحتمل انقسام "الأنا" نفسها بين مستويين: الأنا المعلن، أو الظاهر، أو الماثل الآن، والأنا الخبيء تحت الوعي، أو المستتر الخفي، أو الآخر الذي كان. ودون مبالغة فإن الإشارة إلى هذا الأنا الآخر منصوص عليها في هذه القصص جميعا، ولولا أن الكاتب صنع قصص هذه المجموعة، ونشرها على مساحة زمنية تتجاوز سبع سنوات، لظننا أنه أنجزها في أزمنة متقاربة جدا، وأن هذا التقارب الزمني وراء تماسك نهجها الفني ومراميها الفلسفية، وأنه سر توحد الرؤية فيما بينها، فإذا كانت هذه القصص السبع قد تباعدت زمنا، وتقاربت شكلا، وتوحدت رؤية، فإن هذا يعني استقرار المقولة الأساسية التي تمثل رسالة الكاتب، يبثها عبر ما يلفته من شخصيات، وما يستأثر بانتباهه من أحداث، يستوي في ذلك الراهن، والتاريخي، الواقع والأسطوري، البطولي والدوني والتهكمي !!.

في القصة الأولى: "جسد" تتحرك شخصية الأم بين الأنا، والأنا الآخر، صورة ونفسا، فقد تحدث كل من رآها، عن جمال طلعتها، والسماحة التي تطل من وجهها، أما ابنتها - راوية القصة - التي تعايشت مع عيوب الأم حتى ألفتها، فإنها تطلعنا على أخدود قديم في الوجه، والتواء قديم في القدم، ونتوء في الرأس، هذا غير ما استتر من آثار حريق في الفخذ. ويتوازن تعارض الصورتين مع تعارض السلوكين، فقد كانت مراهقة معجبة بجمالها، متعطشة للحب، ساقها تلهفها إلى السقوط من سطح الدار إلى الشارع، فكان التواء القدم، على أن العيوب الأخرى ترجع إلى سبب نقيض، اختلفت الدوافع والنتيجة واحدة، هذا الجسد المثقل بالجراح، وكأنه جسد الأمة العربية (إذا أخذنا بالتفسير الرمزي، وهو ليس ببعيد) بلغ ذروة آلامه، واستراح منها صبيحة الغزو، فكان يوم الهو ل، هو يوم الوداع، فلم يلتفت أحد إليها !!

ولسنا نشك في أن سليمان الشطي، في القصة الثانية: "أنا.. الآخر" كان يفكر في انتهازية الثقافة، وتدليس المثقفين، وفي نقطة "اللا عودة" التي انتهت إليها المواقف الممالئة، والأحكام الذرائعية المتميعة في مواجهة الانحراف والتحريف، وإذا كنا نلاقي في القصة شخصين: الراوي وصديقه حميد، فإننا نشعر في أكثر من موقع أنهما يرجعان إلى أصل واحد (رمز له الكاتب بأغصان الشجرة حين تتلاطم، فإنها ترجع إلى جذور واحدة) أو أنهما شخص واحد، لا نستطيع أن نقول إنه يعاني انفصاما، فقد كان يدرك كل ما يفعل، وما يجري حوله، ويشارك في مكاسبه، ويتوقى أخطاره المحتملة، فهو يمارس ألاعيبه كما كان دوريان جراي - في رائعة أو سكار وايلد - يمارس غواياته، مطمئنا إلى أن غيره سيحمل أو زارها، ويفوز وحده بمتعها، لكنه حين يصل إلى لحظة المحاسبة التي لا مناص منها، ينسلخ عن جلده، كما تفعل الأفعى، لتستقبل حياة متجددة، في إهاب جديد.

وفي قصة: "جمل"، فقد كان هناك الجمل الآخر. وفي قصة: "كتابة على حائط مقروء" يرسم الكاتب لوحة جدارية تهكمية من نوع فريد. إنها تجري في مدرسة (أقرؤها دولة) على رأسها ناظر (أقرؤها دكتاتور) لا يكتفي من التلاميذ (الرعايا) بالولاء، إنه يريد امتلاك الأرواح، من معتقد أنه سيد العالم ومنظم الفلك.. تبدأ المعارضة في حمامات المدرسة، فقد كتب شخص أو أشخاص عبارات متمردة على جدران المراحيض !! تم تشديد الحراسة، حتى تحول نصف المعلمين إلى خفراء مراحيض، كما فكر في هدم الحمامات، ولم تنقطع عبارات الاستفزاز، شعرا ونثرا، تراثا وتأليفا، مما يؤكد أن الكتابة على جدران المراحيض قدر تاريخي لأمة لم تمارس حرية التعبير إلا في هذا المكان. حين أمسك أستاذ الفلسفة (الذي اختصر جدول دروسه ليقوم بالحراسة) بتلابيب تلميذ نابه من تلاميذه، وقد خرج لتوه من الحمام وكتب عبارات ملتهبة، وجد نفسه في هذا "الآخر" أحس بنبضه، ربما لأنه يوقظ في وجدانه ذكرى حب قديم، وربما لأنه محب للفلسفة مثله. ومهما تكن حقيقة العلاقة بين الأنا، والأنا الآخر، فإن أستاذ الفلسفة الذي تستر على تلميذه، وأطلقه مغامرا بالوقوع في كمين المراقبة والمساءلة، بدلا من أن يسارع بمحوما كتب الفتى، أضاف إليه ما يكمل دعوته ويؤكد معناه، وبذلك توحدت الأنا، والأنا الآخر، في انسجام وجودي، ارتفع بالذات من مشروع الوجود إلى مواجهة الخطر.. التحقق الكامل.

وكما كانت "كتابة على حائط مقروء" لوحة جدارية ساخرة، انتهت إلى مواجهة بين الصقر والحمامة، فإن "بقعة زيت" قصة شعرية مفعمة بالتهاويل والصور الأسطورية وكأن الفتى العائد من رحلة الضياع، ملطخا بسواد النار، كان عائدا من حرب طروادة، وقد غضبت عليه الآلهة ولم ترض عنه إلا أن تكون حياته قربانا يروي الشيخ حكاية بقعة الزيت عام 402 هـ، وهذه إشارة إلى حادثة حقيقية جرت عام 1402 ه، على أن الفتى الوحيد الذي نجا كان في ساعة اختلاطه وبهره وهلوسته يرى مناظر جنسية، ومشاهد غير معقولة، فقفز إلى ذهنه الرقم "خمس وخمسين وثلاثمائة سنة". لقد عبر الكاتب بهذه الإشارة عبورا خاطفا، ولم يدعمها في السياق القصصي بما يكشف مغزاها أو مرماها، ولكننا باستعادة أحداث التاريخ العربي، وما كانت منطقة الخليج - بصفة خاصة - مسرحا له، سنجد أنه في عام 355 ه اصطلحت الأرزاء على دولة الخلافة، واجتمع عليها القرامطة والزنج، كما عبرت جيوش خراسان إلى الري، قاصدة اقتناص قطعة من دولة آل بويه، المتغلبين بدورهم على سلطان الخليفة. وفي هذه الحروب جرى تكفير المسلم للمسلم توصلا للامتناع عن مناصرته، أو استحلال بلاده وحياته. هكذا تشكلت بقعة الزيت في قصة سليمان الشطي في تركيب كابوسي، وصور شعرية فاتنة، تحمل معادلا موضوعيا لما كان يجري فعلا، وما يجري الاستعداد له على شاطئ الخليج، فإذا كان الشاعر أحمد العدواني رأى فيما يحدث طوفانا قادما فصرخ من أعماقه: "يا نوح أدركنا" (في قصيدة بعنوان خطاب إلى سيدنا نوح، نشرت بتاريخ 11/12/1979) فإن سليمان الشطي رأى أن الذي نجا لم يكن خيرا من الذي انقطع فوق الصخرة الموحشة، أو انزلق في حمأة القار مخدوعا بألوانه الزائفة. إن "الآخر" في هذه القصة متعدد المستويات، فها هنا الوجه الآخر، المهلك، للنفط، والوجه الآخر للدنيا، والشكل الآخر الخارجي، لأشياء تبدومستورة محتشمة، لكن داخلها واضح مبتذل. ولقد ألقى ابن الوالي بنفسه في غمار القار حين رأى صورا منعكسة مشتهاة، ظن أنها ما يريده، فكان فيها حتفه !! هكذا تتعدد صور الآخر، وتنثال، حتى هابيل كان يفكر في الآخر، وقابيل كذلك، وإن يكن على نحومختلف. ومن خلال هذه المغايرة بين المواقف والمصائر تتأكد حرية الاختيار، واختلاف النهايات عن البدايات، وكما يدل هذا على أن سليمان الشطي كاتب قد تحرر من التفكير النمطي، ورفض الصور الجاهزة، وأعطى الفرصة لتكوينه الثقافي المنظم أن يكون سبيله إلى ترميز مشاهد الحياة العابرة، بحيث تكتسب أساسها المنطقي والتاريخي - الأسطوري معا، فإنه يعتد بثوابت تفكيره المنطقي وموهبته التي تغوص وراء جذور الأشياء، ومن هنا كانت "القرابة الروحية" بين قصص هذه المجموعة، وكأنها قصة واحدة، حملت ألوان الطيف المتفرقة، واجتمعت في شعاع واحد، ممتد، من التاريخ، إلى الراهن، والمستقبل.

 

محمد حسن عبدالله

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات




غلاف المجموعة القصصية





د. سليمان الشطي