ابن خلدون مبدع «علم المعاشرة»

ابن خلدون مبدع «علم المعاشرة»

الإبداع، لغة هو استحداث الشيء على غير مثال سابق فهو بديع، والفعل أبدع، أي أتى بالبديع.

لفت نظري عند قراءة مقدمة ابن خلدون أكثر من مرة، لمحاضرة الطلاب فيها، أنه في الفقرة التي يقرر فيها وضعه لعلم جديد - الذي على حد قوله - «أعثره الله عليه» لم يذكر اسم العلم الذي اهتدى إليه، وإنما ذكر فقط موضوعه ومسائله، إذ قال: «وكأن هذا العلم مستقل بنفسه، فإنه ذو موضوع وهو العمران البشري والاجتماع الإنساني، وذو مسائل، وهي بيان ما يلحقه من العوارض، والأحوال لذاته واحدة بعد أخرى»، ثم قال في مكان آخر في المقدمة: «وهذا هو معنى العمران الذي جعلناه موضوعًا لهذا العلم».

وقد شُغلت كثيرًا بهذا الأمر، لأن اسم العلم ليس هو موضوعه، وابن خلدون يعلم ذلك جيدًا، لأنه عند تناوله للعلوم في المقدمة، فرق بين أسماء العلوم وموضوعاتها، فهو على سبيل المثال، يفرق بين «أصول الفقه» كاسم للعلم، وبين موضوعه، وهو كما يقول في المقدمة: «النظر في الأدلة الشرعية من حيث تؤخذ منها الأحكام والتآليف، وأصول الأدلة الشرعية هي الكتاب الذي هو القرآن ثم السنة المبينة له»، كما «كم يفرق بين «الكلام» كاسم للعلم وبين موضوعه.. إلخ. وأخذت أقرأ المقدمة، كلما خلوت إلى نفسي قراءة متأنية ومتفحصة، فصلاً فصلاً، علّني أعثر على ما ينير لي السبيل، ويقودني إلى اسم العلم، وركزت القراءة على وجه الخصوص في ذلك القسم من المقدمة الذي يتناول العلوم والصنائع، وهو ما نطلق عليه في العصر الحاضر «علم اجتماع المعرفة»، حتى إذا ما وصلت إلى الفصل الثالث والثلاثين، وعنوانه «في أن الصنائع تكسب صاحبها عقلا لأنها مجتمعه من صنائع في شأن تدبير المنزل ومعاشرة أبناء الجنس». وفي هذه الفقرة ذكر ابن خلدون اسم علمين هما:

1 - تدبير المنزل، الذي هو السياسة المدنية
2 - معاشرة أبناء الجنس.

وبمفهومات العصر الحاضر، يتضح أن معنى كونهما من الصنائع، أنهما علمان تطبيقيان، وهذا هو الهدف العملي للعلوم النظرية.

قوانين الحركة الاجتماعية

ولما تأكد لي أن ابن خلدون لم يغفل اسم العلم الذي وضعه، بل أخّره، ليذكره ذكرًا عابرًا في الفصل الذي مهّد به لباب العلوم وأصنافها (المقدمة ص429) أخذت أتساءل عن دوافعه إلى ذلك، لكني رأيت أن أهتدي في هذا الأمر بالغ الأهمية، إلى ما ذكره العلماء العرب الذين أولوا مقدمة ابن خلدون عنايتهم الفائقة، وتناولوها بالبحث والدراسة.

ولقد كان أول من عُني بمقدمة ابن خلدون هو «طه حسين» الذي جعل من «ابن خلدون» المشكلة البحثية لأطروحته للدكتوراه من جامعة السوربون سنة 1917، وجاء في هذه الأطروحة، أن ابن خلدون يقرر أن هناك قوانين تسيّر الحركة الاجتماعية، وأنه يجب البحث عن تلك القوانين بدرس المجتمع في ذاته، ذلك الدرس هو موضوع علم مستقل يسميه ابن خلدون «علم العمران». وهكذا تأكدت من أن «طه حسين» لم ينتبه إلى اسم العلم، كما ورد في المقدمة، وأنه جعل من موضوع العلم اسمًا له.

وجاء من بعده «ساطع الحصري» الذي توفر على دراسة مقدمة ابن خلدون، سنوات طويلة بدأت سنة 1947، ثم نشر بحوثه عنها في مجلد بعنوان «دراسات عن مقدمة ابن خلدون» صدرت في سنة 1952، وفي هذا المجلد كتب ما يلي: «لقد قال ابن خلدون بوجوب اتخاذ الاجتماع الإنساني، علم العمران، على البحوث التي تدرس ظواهر هذا الاجتماع».

وفي سنة 1962، صدر عن المركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية في القاهرة كتاب يحوي أعمال مهرجان ابن خلدون، الذي عقد في المدة من 2 - 6 يناير، وضم أبحاثًا متنوعة لعدد من العلماء والمتخصصين الذين تناولوا فكر ابن خلدون من كل زواياه واتجاهاته.

وقد قدم «عبدالعزيز عزت» في هذا المؤتمر بحثًا بعنوان «تطور المجتمع البشري عند ابن خلدون»، قال فيه: «لكن آراء ابن خلدون في مقدمته عن علم العمران قد أوجزها الفرنسي جرسان دي تاس...».

وألقى «سيد بدوي» بحثًا في هذا المؤتمر، بعنوان المورفولوجيا الاجتماعية، وأصولها المنهجية عند «ابن خلدون»، وفيه يقول: «وأصبحت هذه المقدمة فيما بعد أشهر ما كتب ابن خلدون لأنها وضعت أسس «علم العمران»، أو علم الاجتماع كما نسميه اليوم».

كما قدم «حسن الساعاتي»، في هذا المؤتمر بحثًا بعنوان المنهج العلمي في مقدمة «ابن خلدون»، ذكر فيه بالنص «يتضح من ذلك أن اصطلاح العمران البشري، أو علم العمران، أدق وأوضح وأصدق، على العلم الذي نطلق عليه اسم اصطلاح علم الاجتماع».

العمران البشري

وفي سنة 1972 نشر «حسن الساعاتي» كتابًا عنوانه «علم الاجتماع الخلدوني: قواعد المنهج» وفيه كتب يقول: «ومما هو جدير بالملاحظة أن «ابن خلدون» قد استعار من علم الطبيعيات مصطلحات وأفكارًا، استخدمها في علم العمران البشري الذي ابتدعه».

من ذلك يتبدى لنا أن أبرز العلماء العرب الذين تناولوا مقدمة ابن خلدون بالبحث والدراسة، لم يفطنوا إلى اسم العلم الذي كشفنا عنه، بل اعتبروا جميعًا موضوع العلم الجديد اسمًا له، فذكر جميعهم بلا استثناء أن اسمه العمران البشري، أو أحيانًا الاجتماع الإنساني.

كذلك فات على «فرانز روزنتال» (Franz. Rosenthal) الذي ترجم «مقدمة ابن خلدون» إلى الإنجليزية، أن يكتشف اسم علمه الجديد، وكان أجدر به أن يكشفه، لأنه حين يترجم، فإنه يتمعن في كل كلمة، ويتفحص كل جملة، بل إن ترجمة «روزنتال» للفصل الثالث والثلاثين من المقدمة الذي ورد فيه اسم العلم الجديد، جاءت غير موفقة ولا تؤدي تمامًا المعنى الذي قصده ابن خلدون، ويكفي أن نشير، أنه ترجم اصطلاح المعاشرة بكلمة «Contact»، ونحن نعلم أن هذه الكلمة معناها الاتصال المباشر، أما المعاشرة، فتعني المشاركة، والمخالطة، والامتزاج، وهي علاقات أوثق وأعمق من مجرد الاتصال المباشر.

وفي رأيي، أن علم المعاشرة عند ابن خلدون، أو ما أطلق عليه ابن خلدون نفسه «معاشرة أبناء الجنس»، اسما لعلمه الجديد، هو ما يذكره في موضع آخر على أنه مشتق من مصطلح «الأنس بالعشير»، وهو الهدف الأول للعمران في رأيه، ويوضح لنا ذلك بجلاء المثل الشعبي المصري الذي يقول «تعرف فلان... قال: أعرفه، عاشرته: لأ ما عاشرتوش، تبقى ما تعرفوش» فالمعاشرة بين بني البشر، من أهل وعشير، هي وحدها الكفيلة بمعرفة الشخصيات والكشف عن الطبائع. أما الاجتماع الإنساني فقط، فربما لا يؤدي إلى علاقات اجتماعية وثيقة يتبدى فيها التأثير والتأثر، مثل الاجتماع بين مشاهدي فيلم في سينما، أو الاجتماع حول حادثة في الطريق.

لماذا أخفى علمه؟

يبقى أمامنا الآن سؤال، وهو: لماذا أخفي ابن خلدون اسم علمه الجديد حين كتب عن موضوعه ومسائله، وآخّره ليذكره ذكرًا عابرًا في الفصل الذي مهّد به لباب العلوم؟! وهذا السؤال يشبه سؤالاً آخر، وهو: لماذا لم يفصل ابن خلدون علوم المقدمة في كتاب على حده، مادام كان واعيًا تمامًا بأنه أنشأ علمًا مستقلاً مبتكرًا غير مسبوق ذا اسم، وموضوع، ومسائل يُطلق عليه: «علم معاشرة أبناء الجنس»، لكنه وضعه في مقدمة كتاب في التاريخ هو كتاب «العبر، وديوان المبتدأ والخبر، في أيام العرب والعجم والبربر، ومَن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر»؟

ونخلص من ذلك إلى أن ابن خلدون قد أخفى اسم العلم الجديد، كما أخفى موضوعه ومسائله، فقد أخفى اسم العلم في فصل بعنوان «في أن الصنائع تكسب صاحبها عقلاً»، كما أخفى موضوعه ومسائله في شكل مقدمة طويلة لكتاب في التاريخ.

ويمكن الإجابة عن هذين التساؤلين بما يأتي:

1- كان ابن خلدون فقيها. ولذا فقد كان التوقع منه بهذه الصفة، أن يكون كل ما يكتبه يمت إلى علوم الفقه بصلة. ولهذا السبب نجد أن ابن خلدون قد خشي أن يساء فهمه من معاصريه من الفقهاء والعلماء، وقد كان علمه الجديد، على حد قوله، «مستحدث الصنعة، غريب النزعة»، لذلك فقد وضعه ضمن كتاب في التاريخ حتى لا يثير من حوله الأقاويل.

2- يؤمن ابن خلدون بالتدرج في تقديم الجديد وعدم الشذوذ عن المألوف، والمعتاد. فهو القائل عمن تحدثه نفسه الخروج على مألوف العوائد: «فلا يمكنه مخالفة سلفه في ذلك، إذ العوائد حينئذ تمنعه، وتقبح غلبة مرتكبه، ولو فعله لرُمي بالجنون والوسواس في الخروج عن العوائد دفعة، وخُشي عليه عائدة ذلك».

ويمكن أن نقول في النهاية، إن ابن خلدون قد ترك مقدمته لمن يأتون بعده ليتعمقوها ويحللوا أفكارها، ويبحثوا فيها حتى يعثروا على اسم العلم الذي كشفه، وذلك وفقًا لما ذكره في نهاية المقدمة: «وقد استوفينا من مسائله وما حسبناه كفاية. ولعل مَن يأتي بعدنا ممن يؤيده الله بفكر صحيح، وعلم مبين، يغوص في مسائله على أكثر مما كتبنا، فليس على مستنبط الفن إحصاء مسائله، وإنما عليه تعيين موضع العلم، وتنويع فصوله، وما يتكلم فيه، والمتأخرون يلحقون المسائل من بعده شيئًا فشيئًا إلى أن يكمل».

إلى الله أشكُو أنّ فوزاً بَخيلَة تعذّبني ولا وعد منها وبالمطلِ
وأنّي أرَى أهلي جميعاً وأهْلَها يسرُّون لو بان من حبلها حبلي
فيا رَبّ لا تُشمِتْ بنا حاسِداً لنا من أهـل فـوزٍ ولا أهلـي


العباس بن الأحنف

 

سامية حسن الساعاتي