إلي أن نلتقي

إلى أن نلتقي

أميركانسكي!

في حفل توقيع الترجمة الإنجليزية لكتابي عن تشيرنوبل, بالجامعة الأمريكية, سألتني صحفية شابة: (وما رأيك في الطاقة النووية السلمية?), ترددت في الإجابة نفورًا من شبهة اصطفافي مع من لا أحب الاصطفاف معهم, لكن صوتًا طفوليًا شرخ أفق ذاكرتي صائحًا: (أميركانسكي), فطفت على وجهي ابتسامة بينما كنت أجيب: (طاقة الانشطار النووي شريرة), واستطردت أواصل الإجابة شاردًا, كان قطار الليل منطلقًا من كييف إلى موسكو, وكان معي الفنان البديع العزيز مصطفى المسلماني. فوجئنا بعربة القطار التي حجزنا فيها مهجعين, تطن بثلاثين طفلا من الأيتام, كانوا نزلاء أحد الملاجئ القريبة من تشرنوبيل, وتم تهجيرهم إلى ملجأ بديل في كييف بعد وقوع الكارثة, وهم يذهبون إلى موسكو لعمل فحوص دورية بعد ثبوت تلقيهم جرعة عالية من الإشعاع, كانت الليلة مدهشة ومؤثرة ومضحكة أيضًا, وسط هذا الكم من الأطفال المستثارين بركوب القطار. ومن بين الأولاد, صاحبني ولد عفريت وظريف يدعى (كولا), كان مثل أترابه يصطحب حقيبة جديدة كبيرة بالنسبة لحجمه الصغير, ومثل حقائب أيتام الملاجئ في كل الدنيا, وضع فيها كل الأشياء التي يمتلكها في العالم. سألني كولا وسط لمة الأولاد: (من أي بلد أنت?), فقلت له (حزر أنت), وبعد تفكير وجدها صائحًا (أميركانسكي). وانفجرت أقهقه, فالشيء المؤكد هو عدم تشابهي مع الأمريكيين الذين يعنيهم, وظل (كولا) يناديني بالأمريكي, فأضحك وآسي, فهذا أقصى ما أوصلته أيام الحرب الباردة وصقيع المعزل النائي لطفل يتيم, فلم يعد البشر لديه إلا الأمريكان, أو السوفييت. وعندما وصل القطار في الصباح إلى موسكو, ودعت كولا وأصحابه وسط زوبعة من الصخب الطفولي. بعد أيام عدة, فوجئت بزوبعة أخرى في فضاء أحد شوارع موسكو الرحيبة (أميركانسكي, أميركانسكي). كان كولا في باص أصفر برتقالي مضعضع مع أصحابه. كيف لمحني في زحام هذه المدينة العملاقة? وأي صدفة? كنت أتلوى من شدة الضحك. وتواصل ضحكي مما أصاب الصحفية الشابة في الجامعة الأمريكية أمامي بالاستغراب, فوجمت لأكمل بصرامة: (نعم إنني ضد مفاعلات الطاقة النووية الانشطارية, السلمية والحربية على السواء, وليست هيروشيما وناجازاكي وتشيرنوبيل وثري مايلز أيلاند إلا قمة جبل الجليد العائم من وساخات الطاقة النووية الانشطارية, وما خفي من نفاياتها أعظم شرًا وأبقى. أما السلاح النووي, وخاصة رءوس الفضاء المائتين التي يضمرها كيان عدواني ودموي ومخاتل كإسرائيل, فهي جريمة أخلاقية كونية مسكوت عنها ممن يملأون الدنيا ضجيجًا الآن). (طاقة الانشطار النووي لاشك شريرة). كررت ذلك قبل أن أستطرد متحدثًا عن عشرات البدائل الآمنة لطاقات ممكنة ونظيفة, تحت أقدامنا, وفي البحر, والهواء, وضوء الشمس, لكنه كسل البشرية الشرهة والطمّاعة, هو ما يعيق تطوير هذه الطاقات, وسكت, لكن الصوت الطفولي عاد يشرخ أفق ذاكرتي: (أميركانسكي. أميركانسكي), ولم أبتسم أو أضحك هذه المرة, فيقينًا أحسست أن كولا الصغير لم يكبر أبدًا, وأبدًا لم يعد هناك.

 

محمد المخزنجي