الفياجرا.. وتحريك جوامد الفكر العربي

الفياجرا.. وتحريك جوامد الفكر العربي

فِي مجتمعنا يوجد تابو ثلاثي لا يجوز لمسه الدين- السياسة- الجنس، ومن نظام التحريم والمنع وعدم تأسيس العقل النقدي تشكلت بشكل تلقائي ثلاث ظواهر: ففي السياسة انتشرت التنظيمات السرية تحت الأرض وانفجر العنف وعسكر المجتمع واختفت الحياة المدنية وسرت حالة الطوارئ إلى أجل غير مسمى، وأمام التعصب الديني تشكلت ظواهر الهرطقة والرفض ، وفي الجنس أغلقنا الطريق أمام تشكيل أي ثقافة جنسية تمزج الحياء بالعلم.

لابد إذن من تشكيل التيار العقلي النقدي كي تتحرر حركة العلم وينشط التفكير الحر دون خوف من المساءلة، فيخترق التابو ويسلط أشعته على السياسة فيعري آلياتها، وأسرار الجنس وخفاياها المشحونة بالهلوسة والمعقد والغريب، والدراسة النقدية للنصوص فيعيد اكتشاف اللحظة التاريخية ، كيف يولد الدين كقوة تحريرية لينقلب لاحقاً على يد فريق من اتباعه إلى كوابح عقلية وإرهاب فكري.

الغرب تمكن من تفكيك هذه الإشكالية: فأوجد في السياسة الديمقراطية، وتشكلت عنده حريه الاعتقاد دخولا وخروجا، ولم يعد الجنس تابو.

الطاقة الجنسية كأي طاقة تخضع لثلاث معادلات بين الكبت والتنظيم والإطلاق ، والثورة الكيماوية الحديثة في ضوء تصنيع مستحضر الفياجرا يجب أن يفهم ضمن هذا القانون. لا يمكن الحديث عن مستحضر الفياجرا (VIAGRA) دون استحضار بانوراما الثقافة الجنسية، فالثقافة العربية تعيش مفاهيم العيب والحرام والمخفي.

الجنس ليس عيباً أو حراماً أو سراً، وبالتالي فإن المجتمع يعانى من ازدواجية أخلاقية، فبقدر إخفاء الحديث علناً بقدر الشغف به سراً.

نحن لانملك إحصاءات عن أسرار الجنس في مجتمعنا وماذا يجري في الخفاء ؟

هرم من الحاجات

عالم النفس "هادفيلد" فرق بين "السعادة" و"السرور و"اللذة" انطلاقاً من إشباع الغرائز ومنها الغريزة الجنسية، فاللذة ممارستها في الحرام ، والسرور إشباعها ضمن قناتها الاجتماعية المعترف بهـا.

اللذة تأتي من الزنا، والسرور يأتي من الزواج، وهو أعلى رتبة من اللذة ويتضمنها، ولكن السعادة لا تقوم في إشباع غريزة واحدة على صورة كاريكاتور على حساب غرائز أخرى .

السعادة هي ذلك المزيج المتوازن من تحقيق دفعة الغرائز كلها، ويصل هادفيلد إلى تقرير أن المرأة الفقيرة في كوخ قد تكون أسعد من سيدة أرستقراطية مليونيرة، فالأولى أشبعت كل الغرائز وبشكل متوازن ، ولم يكن كذلك عند الثانية التي اهتمت بعالم الأشياء الخارجي.

كلما كان إشباع الغرائز متوازناً وكاملاً قفزت الروح في معراج السعادة درجة.

عالم النفس الإنساني "إبراهام ماسلو" يحلل من زاوية جديدة يعاودك كاتب هذا المقال. وهو الطبيب الجراح ودارس الشريعة. تقليب ثوابت الأفكار للحصول على الأصيل والنافع في آن الأمور من وجهـة نظرمختلفة، فيبني هرماً للحاجيات النفسية ، يستوي على قاعدة، ويشمخ برأس أقنى صغير حاد، وتأمل الهرم من قرب يرينا خمسة طوابق متراكبة طبقاً فوق طبق.

أهم ما في الهرم القاعدة العريضة الصلبة من الحاجيات الفيزيولوجية ، مكونة من خمسة أحجار رئيسية " الشراب- الطعام-الملبس- المسكن- الجنس".

استقرار الإنسان الروحي لن يتم من دون تشكيل هذه القاعدة الفيزيولوجية، فالجائع سيحلم بالطعام، والعطشان جنسياً سيعيش هلوساته على قدر التحريض. لا يحقق الإنسان ذاته فقط بالحاجات الفيزيولرجية ، بل يمضي صعوداً عبر طابق "الأمن الاجتماعي" و"الحاجة للانتماء" و "تقدير الذات" ليصل إلى قمة الهرم "بتحقيق الذات" وهي أقل من واحد بالمائة في العامة من كل الناس "وتجدون الناس كإبل مائة لا تكاد تجد فيها راحلة".

نهاية الرحلة واكتمال الإنسان هي في تحقيق ذاته من رسالة أو هدف أعلى ولكن لا يصعد الإنسان الهرم من دون القاعدة العريضة من الحاجات الفيزيولوجية.

الحاجة الجنسية طاقة يجب الاعتراف بها وإشباعها، أو التسامي بها إلى حين، كي يحقق الإنسان توازنه ، فالعطش الجنسي غريزة تتطلب الإرواء والتلبية، تماماً مثل العطش والجوع سواء بسواء، ولا تهدأ الروح من دون صرفها بالتفريغ.

عندما أراد برتراندرسل أن يضع يده على أهم طاقة اجتماعية اعتبرها السلطان The power في صوركثيرة قابلة للتحرر من حقل لآخر، كما في الكهرباء وتحولها إلى حركة أو حرارة، وفي الوجود الفيزيائي تعتبر الطاقة النووية أعتاها، وفي البيولوجيا يشكل الجنس طاقة الحفاظ على النوع، بارتباط الجنس بالإنجاب.

السلطان والطاقة النووية والجنسية القوة الاجتماعية والفيزيائية والبيولوجية. الكيمائي " كارل جيراسي CARL JDERASSI شق الطريق قبل أربعين سنة إلى اكتشاف الكورتيزون، وبعده الهورمون الأنثوي وتركيب موانع الحمل، التي سميت خطأ مضاد الأولاد (ANTI- BABY)

أهمية ما حدث أن حبة منع الحمل فصلت الجنس عن الإنجاب. إذا كان الرجل يؤدي عمله الجنسي فيتمتع به من دون خوف العواقب لجسمه، فإن المرأة وصلت لذلك فتمتعت بالجنس من دون خوف انتفاخ البطن ومشاكل الحمل، وهذا كان ثورة في تاريخ العلاقات الجنسية .

الفياجرا اليوم تقدم حبة من نوع جديد للرجل تعطيه السيطرة على الآلة البيولوجية عنده، كما منحت حبة "منع الحمل CONTRACEPTIVE" المرأة التحكم في قدر الحمل منعاً أو تأخيراً .

منذ بدء الحضارة حدث خطأ كر سوسومي "حضاري" عندما تمت السيطرة في المجتمع من الذكور، وأعطي للمرأة الدور الهامشي في تابعيتها للرجل ومحاولتها إغراءه بالجنس وربطه بالذرية.

بين ثقافتين

الثقافة العربية اعتمدت كمحور اجتماعي مفهوم الشرف، واعتمد الغرب الحرية.

في الغرب يعاقب الرجل على الاغتصاب، ولكن.. ممارسة الزنا بالرضا لا يعاقب عليه الإنسان من ذكر وأنثى.

الثقافة العربية تعرضت للانشطار، ففي النصوص تعاقب المرأة والرجل بالتساوي في ممارسة الزنا، ولكن الثقافة المنتشرة والمسيطرة- وتظهر بشكل فاقع في الأرياف- تحكم المرأة بالإعدام، وتغض النظر عن الذكر معتبرة أن الأرض يحتاج إلى الدم كصابون لغسل العار والثاني دليل رجولة وتحرر ، في شهادة صاعقة عن هيمنة مجتمع ذكوري أخرق أحادي الرؤية، ظالم التركيب ، يحترم الفحولة أكثر من التزام العدالة.

حضور المرأة الاجتماعي في كل مكان. المحرم للمرأة متعلق بشرط الأمن فقد يحظر حركة الطفل لمائة متر للمدرسة وحده في مجتمع ذكوري مغلق يعيش هلوسات الجنس وانحراف اللواط، وإباحته لامرأة تسافر بطائرة بمفردها عشرة آلاف كيلومتر بالطائرة إلى كندا. فالحكم يدور مع العلة وجوداً وعدما، وأحسن ابن رشد قديما عندما وضع عنواناً لكتاب "فصل المقال فيما بين الشريعة والحكمة من الاتصال"

نحن الآن في لحظة تاريخية أمام تشكيل ثقافة جنسية معاصرة أمام تدفق الإنترنت وتسرب الفياجرا، وهمس المحطات الفضائية ويجب أن نفهم الجنس منفصلاً عن الإنجاب. اعتمدت الطبيعة منذ 530 مليون سنة الجنس كوسيلة للتكاثر، وكل الكائنات في الطبيعة تعيد إنتاج نفسها بشكل مبرمج إلا الإنسان، فالإنسان يهندس مصيره بيده، أو هو تعبير الأمانة في القرآن الكريم.

ثقافة رهن التقليب

الفياجرا اليوم التي اكتشفت بمحض الصدفة حلت مشكلة قديمة تمتد آلاف السنوات. كل الحضارات خلدت نفسها بشكل أو بآخر بما يوحي بالخصوبة ، حمورابي خلد قوانينه على عمود من حجر، وفي منطقة بريتاني في فرنسا تم العثور على عمود هائل من الحجر يرجع إلى 4000 سنة إلى الوراء، وحفظت لنا الحضارة الهلينية تخصيص الحب بواحدة من الآلهة سميت "أفروديت".

مشكلة العجز الجنسي عانى منها الملك لويس السادس عشر والزعيم الفوضوي الاشتراكي "باكونين" والرئيس الأمريكي "أيزنهاور" قائد حملة النورماندي.

وفي المقابل رويت الرجال ذوي القدرة الجنسية الفائقة مثل جياكومو كازانوفا GIACOMO CASANOVA من القرن الثامن عشر وسيئ الذكر "راسبوتين" الذي نشر الخلاعة في طقوس دين غامض، في الطبقة المخملية الملكية، في عصر آخر القياصرة الروس "نيقولا الثاني" و " والمركيز دي ساد " الذي ارتبط اسمه بالطب الجنسي الجنائي، بازدواجية الجنس مع العذاب تسليطاً وتقبلاً ، في شهادة على أسرار عجيبة للنفس الإنسانية في طرق إشباع غرائزها، ولم ينج معاوية من سيف الخوارج من دون عقابيل فالضربة كانت في مكان حساس، فخير بين الحكم والجنس، فكان داهية كعادته فلم يرتكب حماقة " ماينارد فرنشي MAYNARD FRENCHY" الذي مات بعد تناول أول حبة من الفياجرا، فاختار معاوية الكرسي في شهادة واضحة على لذة الحكم، ويفسر الغزالي هذه الشهوة بأنها آخر ما تخرج من قلوب الصالحين.

ضعف الانتصاب حقيقة عند الرجل في ظروف معينة، وتأثير الفياجرا على العنة العضوية مؤكدة ومجربة، وهي تعتمد كسر التوازن بين أنزيمين متعاكسين في عملية الانتصاب والارتخاء من خلال فتح حنفيات الدم إلى أداة الذكورة ، بواسطة إرخاء العضلات الحلقية التي تشرف على فتحات دخول الدم.

جربه خلال أسابيع أكثر من مليون شخص، ويوصف كل يوم في أمريكا وحدها عشرة آلاف مرة ، وقفزت أسهم شركة فايزر المنتجة من 40 دولارا للسهم إلى 104 دولارات خلال أشهر قليلة، وأخذت الحبة لقب الماسة الزرقاء.

في الوقت نفسه شيعت سبع جنازات إلى المقابر فيما أعلن، ونقل العديد إلى العناية المركزة في سكرات الموت ، وحصل العديد من الاختلاطات بدءا من الصداع والمغص وآلام العضلات والإسهالات والطفح وانتهاء بتهديد شبكية العين، واقترحت المجلة الألمانية "تيليجرام TeleGramm" النا قدة الدوائية سحب الدواء من السوق إلى حين التأكد منه دون أعراض جانبية، وتعلق مجلة الشبيجل الألمانية على ذلك: إن ما تطالب به عقلانياً ولكن على ما يبدو أن العقل غير مطلوب هنا في دواء يعتمد بشكل أساسي ضح الدم إلى الأعضاء التناسلية وليس الدماغ؟

يقف الفلاسفة والأطباء والمربون يعيدون النظر في مستقبل الدواء والثقافة الجنسية عالمياً .

نحن في نقطة تحول في العالم العربي من أجل اختراق التابو الثلاثي : فلا بد من تكوين آلية نقد ذاتي كاملة للتراث وما حوى فنعرف من نحن؟ ونكتشف أنفسنا بالغوص في طبقات أركيولوجية كاملة من المعرفة على حد مصطلحات الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو. يجب أن نخصص تدريس مادة "السلام" بجانب الرياضيات والفيزياء لتكوين " الطفل السلامي" فما لم ندشن نموذجاً ميدانيا لإنسان "لا عنفي" تبقى كلماتنا حبراً على ورق. ويجب أن تدشن ثقافة جنسية ذات مفاصل رباعية تمشي بمراحل مع نضج الطفل واستيعابه بالوعي بدل أن يكتشفه سراً، خلال انتقاله من فتىإلى مراهق وناضج، في علم جنسي يتدرج من التشريح إلى الفيزيولوجيا إلى العواطف إلى الجانب التقني ، فلا يعقل أن تصعق فتاة وهي ترى الدم يتدفق فجأة من دون إنذار من مجاريهـا، ولايعقل أن يتزوج إنسان وهو لا يعرف تشريحاً للغشاء.

الفياجرا أو الثقافة الجنسية الغربية تعصف وتدمدم خارج بيوتنا، أمام ثقافة جنسية هشة سهلة الاختراق غير محصنة بالمعرفة، تحسن المزج بين العلم والحياء والإيمان.

 

خالص جلبي

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات