الوطن . . . بالريشة والكلمة

الوطن . . . بالريشة والكلمة

من آلام الإنسان إلى آلام الوطن، ومن طرائف مرسمه إلى قصص عروبته وصراعها مع العدو نتتقل الفنان التشكيلي فاتح المدرس الذي يرسم لوحة متكاملة ليس بالريشة واللون وإنما- هذه المرة- بالكلمات

ولدت في أقاصي الريف السوري في الشمال، كان والدي عبد القادر يسهم في الثورة السورية إبان الاحتلال الفرنسي، وكان ملاكا كبيرًا، قُتل وهو في السادسة والعشرين من عمره وعشت مع أخي كامل في كنف أخوالي الأكراد على الحدود السورية التركية، وكان الموت قتلا ظاهرة طبيعية لا يشعر بها أحد اللهم إلا الزوجات والأمهات.

هذا الطفل ذو الثانية من عمره الذي كنته أنا، استراح على عواء الذئاب في الليل وعلى سهول الأقحوان وشقائق النعمان نهارًا، وفي الصيف كنت أركض في الفلاة ألاحق جدارًا زجاجيًا رجراجًا من هواء الظهيرة مسدلاً بين زرقة السماء وتراب الأرض، وقبل أن أبلغه يكون قد ابتعد أكثر، وعلمت أنه "السراب".

أتساءل الآن وبعد مضي عقود كثيرة: يا ترى هل اخترقت هذا الحاجز الشفاف الرائع؟ هذا السؤال يستدعي تساؤلاً آخر وهو: هل كان ذلك الشيء رائعًا بحق؟ أبتسم الآن وأحدث نفسي: بلى كان رائعًا ولكن الدهشة هي ذلك الرائع الحقيقي، ما وراء السراب الرهيب.

توارت الدهشة، ولم يبق في ذاكرتي سوى صوت خيط الحليب وارتطامه بالأعشاب.

لقد تحولت الدهشة البصرية إلى ذاكرة سمعية. وأتساءل الآن. . . بعد عقود: هل هنالك في كياننا عالم آخر من صنف مغاير للعالم المحسوس الذي نعيشه بحواسنا،؟ هل هنالك عالم مواز لعالمنا هذا بالكاد أن يرى حواشي ضئيلة منه؟ على كل لا أريد جوابًا على ظنوني هذه، وإن كنت أتوق لجوانب أوسع مما ألمحه "متوهمًا" بين حين وآخر.

العالم الموازي

عندما أنجز عملاً تشكيليًا، أتجاهله لأمد وأتساءل: لماذا لا أبحث عن الأخطاء التقنية فيه؟" وأعرف الجواب سلفا: الذي يهمني من العمل هو أني عشت أخطاءه ثانية إثر ثانية، وأن العمل كله أخطاء أدارت ظهرها الجميل إليّ وأني لا أعرف وجهها إلى الآن.

وأحيانًا يقف إلى جانبي الأيمن- وأنا أمام لوحة بيضاء- جميع القتلة يتشاورون، وأتجاهل النظر إلى وجوههم، لأني أعرفها وسأطبعها الآن على سطح هذه اللوحة، أسود، أحمر، أصفر، ولون رابع ستولده الألوان الثلاثة، ولكنه غير موجود في العمل، على المتلقي أن يحدده.

وتمضي الخطوط الجرافيكية على مسارب التكون. هل هذا الخط الممتد من جانب الرأس حتى الفقرات القطنية هو من مشرط جراح أم من سلاح القتل، ويختفي القتلة، ربما عادوا إلى قانا أو الخليل أو جنوب لبنان أو إلى مرتفعات الأراضي، إلى أي مكان، على كل حال إنهم في كل مكان وإنهم من هذا العالم، وأتساءل: من هو هذا الإنسان الذي رسمته الطبيعة وجئت أنا لأتمم بشاعته، هل حقًا كان الإنسان ملاكًا؟ وهل وهل. . . . . في قلب كل ملاك قاتل محترف؟

لونان متطاحنان ومتجاوران، ما هو شعورك إزاء تنافرهما؟ هل هنالك أي حوار بينهما؟ أم التساؤل كلمة عبث في عبث؟ هل هنالك أبجدية للغة اسمها لغة اللون؟ وتلك للموسيقى، ولغة سرية عجيبة العجائب اسمهـا لغة "الحدس؟ لا أريد الخوض في جدل يختلف فيه الناس ويثير الكثير من الضوضاء. دعنا نكتفي بتلمس فروة هذا العملاق الشفاف الذي يمثل الجانب المستقل من العقل البشري، أقول "بشري" ولا أقول "إنساني"، إذ إن الأول محصن ضد تراكمات المعرفة أما الثاني فيعتمد في أحكامه على لبنات وحديد وحواجز صماء مسبقة الصنع.

عندما أباشر بالعمل- لوحة- أو قصة قصيرة تكون المحاكمات الأولى تئز كالحشرات الليلية حول رأسي، ويبدأ غبار المعركة يشكل أمام عيني وعلى جوانبهما العمايات الجلدية التي يضعها سائق العربة حول عيني الكديش، أسمع ذلك الصوت الرائع من بعيد يأتي إلي محذرًا، "اترك العمل الآن".

إنه هس الحدس، فأجلسه بعيدًا عن اللوحة أو الورقة، يعود الهمس، أسمع. . ابدأ من الصفر!

البدء من الصفر يعنى شيئًا واحدًا، إلقاء جملة المعرفة وأحمالها في سلة القمامة.

وتمر دقائق مديدة وأحدث هذا الصفر:

- عزيزي الصفر الرائع متى ستوصلني إلى الواحد؟ أعود لأقف مرة ثانية أمام اللوحة، امرأة نائمة وإنها- يا إلهي- إنها لا تتنفس.

وأدرك أن اللوحة الفارغة هي تراب جميل نظيف نسيت أن أزرع بذرة فيه، وأن ساعة الصفر لبدء الرسم لم ترن في أذني، عليّ بانتظار أن تورق وريقاتها الأولى في جنة الحدس.

الفنانون الذين يهرولون إلى مراسمهم ويعملون كما يعمل النجار أو الحداد أو السياسي المرتزق وقد تسلحوا بالمناشير والمطاريق لا ينتجون إلا الزبد الفكري.

من الثورات المهمة في تاريخ الفنون الجميلة في أواخر هذا القرن ثورة الفن التشكيلي الذي أعاد النظر في قيم البراعة، وراح يبحث عن الحدوس المستقبلية.

وهذه الحدوس المستقبلية حرم منها أطفال العرب وأبناء الصحراء والبادية، علما بأنهم وحدهم عايشوا السراب، وهم وحدهم المرشحون لاختراق جدار السراب. لأنهم وحدهم يحملون في ذواتهم بذرة الحدوس الجمالية.

هذا إذا اعتقدنا أن الجمال وحده يستطيع إنقاذ العالم من القتلة.

ها إني أضع في أعمالي وجوه القتلة، بجوار وجوه ضحايا القتلة، وأترك لحدس الإنسان أن يفتح حوارًا شخصيا معي.

أنا لا أرتجي من المتلقي الكثير، كل ما آمله أن يضع يده على قلبه ويعود إلى معين الطفولة الثري الذي كون بشكل تلقائي لغة اللون والخطوط الإنسانية، إذ إن هذين العاملين هما ما يتركه الإنسان خلفه في رحلته في هذا العالم اللامعقول!.

يتساءل البعض: هل للثقافة تأثيرها على إغناء الفهم الجمالي للون؟.

لا إجابة على هذا السؤال إذ كل متلق وجهة نظره، إن دخول مجمل حضارتنا الجمالية أو إلغاء الجمالية إلى القرن الحادي والعشرين لن يكون إشراقة تجديد لأخلاق الجنس البشري إذ إن القتل سيكون السيد في القرن القادم، وعلى ضوء هذا التقرير المؤسف ستتحول المفاهيم الجمالية إلى علاقات بصرية أو سمعية في غاية السأم وإعلان موت عامل الرحمة التي نادى بها الأنبياء، وبالتالي ستكون مقبرة الفنانين محددة وراء الخط الفاصل بين القرنين الحالي والقادم.

الوردة والفراشة لا وجود لهما في القرن الحادي والعشرين فالفن كجمال إنساني مجسدًا بالأخلاق، والذي نادى به الفلاسفة منذ القرن السادس قبل الميلاد حتى نهاية القرن التاسع عشر لم يلق أذنًا صاغية إلا من حفنة من الشرقيين، أما القرن العشرون فقد اعتمد القتل الجمالي وذبح الحاجة إلى عالم جميل بسكين إلكتروني ذي فعالية بالغة.

أي حضارة؟! أي إنسان؟!

لعل بعض قراء هذه الخواطر المعتمة يقولون: كلنا أخلاقيون ونزرع أزهار المحبة والرحمة ونكتب الشعر ونعزف على ناي الأخلاق.

فأجيب: هل زرتم مقبرة جماعية في البوسنة؟

إني أتساءل، بحزن عميق: ماذا يستطيع الفنان التشكيلي أو الأديب الشاعر أو الموسيقار أن يفعل أمام حفرة تحوي آلاف جثث الآدميين الذين قتلوا رشًا ودراكًا أمام بعضهم البعض؟

هل يرسم زهرة في إناء؟ هل يرسم حبيبين في حالة عناق؟ هل يرسم السماء الزرقاء الرائعة؟

والإنسان فنان رامز، الحيوان لا يعرف الرموز، فهل يلجأ الفنان إلى الرموز في أعماله؟ تظهر بعض الوحوش الآلية في أعمالي، وبعض الوجوه التي ولدت خرساء، ثبتت على جدار الليل في الحرب الأهلية اللبنانية، كل هذا وذاك في لوحات تستدرج البصر وتمنحه مسرة غامضة، هذه المسرة اللونية هي من صلب تكوينات D. N. A لدى الإنسان الصياد.

من الشروط الجمالية لدى فن كل شعب هو توليده الرموز اللونية، الجرافيكية، شكلاً يطفح بالجمال السري. . هكذا تنمو الكنوز الجمالية في العالم وهي رموز جغرافية محصنة مثل نباث لا ينمو إلا في مناخ "الوطن".

إن القرون الأخيرة في حياة الشعوب العربية استطاعت بما تفرزه من التيتم، والترمل، وأطنان الألم والقهر أن تحرم العرب من لغتهم. كيف؟ بتفريغ محتوى الكلمة من معناها، خذ مثلا: شرف شجاعة، كرم، علم، حضارة، فن، أدب، موسيقى، عدالة، ديمقراطية، جمال، رجولة، عمل . . . إلى آخر ما هنالك من القيم والشروط الاجتماعية البناءة أصبح لها معانٍ أخرى مغايرة، ولا أريد أن أشير إلى توابيت هذه الكلمات التي كانت رموز حضارة رائعة، وإني أتساءل: هل هنالك أي نية لترميم الخراب الكبير الذي أصاب لغتنا الجميلة؟ حتى الآن لم يتم ذلك، وكان من جراء ذلك أن انحسرت الموسيقى، وتراجع الشعر بل مات تماما وكذلك الأدب، وإننا استعضنا عن هذه القيم بعمارة مستعارة لا ترضاها شمسنا ويرفضها ليلنا الكريم.

وهكذا. . . نجد أن ما انسحب على العالم الحضارية ذات فالفنان المعاصر بكل بساطة يستخدم لبنات وحجارة مسبقة الصنع فهذه الاستعارات اللا أخلاقية في البنائين التشكيلي والأدبي لا تصنع فنًا، أما المأساة الماثلة بقوة فهي صوت الموسيقى في قلب كل ملاك قاتل محترف في رسالة وجهتها إلى الشاعر الفلسطيني محمود درويش ختمتها بهذه العبارة: عزيزي الشاعر محمود، عبثًا نحاور الشيطان بالكلمات لأن الشيطان يعرف سلفًا قبل أن يطرد من ممالك الله . . أن في قلب كل ملاك قاتلاً محترفًا.

كثر، من أصدقائي شجبوا هذه العبارة، وإني أقول صادقًا: لماذا كتبت هذه العبارة الرجيمة وعلقتها على جدار مرسمي وإني في هذا اللقاء لن أحاول إيجاد تبرير ما شعرت به من حدس ملعون مثل هذا وأترك للقارئ أن يتأمل وبقليل من الأناة السياسة الأمريكية والأوربية، كيف تعالج القتل المجاني، الجماعي وفي موطن الفلسفة والعلوم والآداب والموسيقى وحقوق الحيوان، وحقوق الإنسان وتعرية غابات الفيتنام بقنابل لا يتقن صنعها إلا ذلك القاتل في قلب ذاك الملاك!!

وهكذا عندما رسمت لوحة بيروت في ليل الحرب الأهلية، وعرضت في بينالي سيئول 1986، جاءني كتاب من أحد رواد المعرض الدولي ذاك يقول: إني لم أستطع فهم الابتسامة للسيدة في السائل الأزرق. . هل تتكرم أن تشرح لي ما تريده؟ طبعًا لم أجبه على تساؤله لأني أنا نفسي أرفض أي شرح.

وكل فنان يبحث عن هذا "الجسر الملعون" بين الرسام والمتلقي، بين عمله وعيون الزوار، وبما أن الرسم لغة صامتة، ولا تعرف أبجديتنا، وأنها لغة لها رموزها، فمن العبث تحويل ما تلم به اللوحة إلى كلمات ولعل هذه الحقيقة- إن كانت حقيقة- هل التي وضعت الحاجز الساخر بين العمل الفني والناقد التشكيلي.

إني أحاول جاهدًا قبل البدء بالعمل استبعاد النقاد عن ذهني، واستبعاد القيمة المادية للوحة لأن هذين العملين الأحمقين الرهيبين باستطاعتهما طعن أي عمل جمالي- أقول جمالي تجاوزًا- لأن العمل حتمًا سيولد ميتًا ولم ينج عمل واحد من هذه المطحنة.

العمل الفني هو نتاج ذات واحدة، وكل استعارة من خارج الذات الصانعة هي تدمير كلي للعمل.

مع جان بول سارتر

كان ذلك مساء أحد أيام الصيف في روما، التقيت به بجانب الأكاديمية حيث مرسمي في فبادل بابونيو- أي شارع الفرد، في قلب روما حيث الأكاديمية وباعة اللوحات القديمة، لمس يدي، رجل قصير بوجه لطيف يرتدي نظارتين، بعينين حمراوين

- من فضلك فرماشيه "صيدلية"؟

تمعنت بوجهه مبتسما.

- البروفسور سارتر؟

- نعم أنا هو

- الصيدلة بجانبك . . دخلنا الصيدلية واشترى أسبرين وقال:

- أنت روماني من روما؟

- لا أنا من سوريا

- أرابو؟

- نعم أدرس في تلك الأكاديمية "وأشرت إليها".

- أنا تعب جدًا هذا المساء والألم في رأسي.

مشينا قليلاً وتمسك بذراعي الأيمن.

- بروفسور هل تتعشى معي في مرسمي؟

- بكل سرور . . أنت رسام، ومن الشرق.

عشت مع سارتر أسبوعًا وكان هارباً من باريس بسبب خلاف أيديولوجي مع الرئيس ديجول.

وفي المرسم رحت أدعو لأجله بعض الأصدقاء المتنورين من الطليان وكان يحب أن يشارك في طبخ السباجتي ويحب النبيذ الإيطالي الأبيض- وكان يفهم الإيطالية قراءة ولا يحسن الكلام بها.

هذا الأديب العظيم والفيلسوف الرائع، كان خفيف الظل، هادئا في نقاشه، وكان يتحاشى كل ما هو خارج دائرة الطبيعة الإنسانية من حيث طرق المواضيع بشكل مفتعل، كان بسيطا مثل الهواء والماء، له رأس مستدير جميل ويتحاشى النظر في عيون الآخرين، إذا تكلم فهو كإبريق الزيت ينساب اللفظ من وجوده كخيط الزيت.

- أستاذ سارتر لماذا انتخبت هذه الأعمال دون غيرها؟

- أريد شيئا منك. أعمالك تتراوح بين التجريد الرصين ووجود الطبيعة كما نراها في الحلم، حتى إنسانك يتمتع بالقوة والغربة، والصمت.

- ما هو رأيك في الفن العربي الكلاسيكي، هل تستطيع أن تصنفه ضمن المفاهيم العامة للفن التشكيلي؟ ألا تعتبره جزءا مكملا للعمارة. ؟

- حتى الفن التربيني بما فيه Art Aplique "الفن التطبيقي" إذا كان صاخبًا هو فن تشكيلي تام.

ومرة كنت أرافقه من شارع ألفرد إلى ساحة العمود حيث فندقه: عندما سألته:

- مسيو سارتر كم ضحية جزائرية تم قتلها في هذه الحرب الفرنسية الجزائرية؟ أعني الثورة الجزائرية.

- ثمانمائة ألف حسب إحصاء الإذاعات "عام 1959". وصلنا إلى الفندق وقال وهو يتابع الحديث:

- ستقرأ رأيي في الثورة الجزائرية غدًا في جريدة Paese Sera "الوطن المسائي".

وأردف وهو ينهض من مكانه:

- لن أغيب طويلاً

وسار إلى نهاية الصالون وقلب عددًا من الكراسي في طريقه ورفع سماعة الهاتف وكنت أسمع صوته من بعيد، غاب ساعة كامله وعاد نشطًا وقال:

- أمليت مقالاً على مجلة "الأزمنة الحديثة" وغدًا سيصل المقال إلى روما وتقرأه.

اقتنى أربع لوحات من أعمالي. وسمعت بعد سنوات أنها مسجلة ضمن إرثه بعد وفاته.

ترجم لي- رحمه الله- أربع مقطوعات من شعري الحر من الإيطالية إلى الفرنسية. ودعاني لأزوره في باريس وذهبت في بعثة جامعية إلى "البوزار" وكان بيته بجانب الأكاديمية ولكني لم أحاول لقاءه، لأن لاتجاهه الأيديولوجي اتجه نحو دعم الصهيونية بسبب بنت صبية يهودية عاشت معه في سنواته الأخيرة.

وكلما فكرت بهذه الحادث يتنابني شعور غامض: هل حقَا في قلب كل ملاك قاتل محترف؟

مع الأستاذ الصهيوني

كان اسمه يانكل، يعمل مدرسًا في أكاديمية باريس "البوزار" وكنت من نصيبه إذا انتخبني أن أكون في عداد طلابه الاثنى عشر، تماما مثل حواريي المسيح، كان ذلك عام 1967 سنة الحرب العربية مع إسرائيل وحلفائها.

غاب هذه المدرس أو البروفسور الذي كان شابًا في الأربعين يحوم حول أعمالي ويتظر إلى جانب من عينه الينمى، غاب خمسة عشر يوما وعاد نشطًا يتجول بين طلابه في المرسم الضيق ووقف بجانبي ووضع رجله اليمنى على المقعد المفروض أن أجلس معه.

- مسيو مدرس ما هو هذا العمل؟

- كما ترى بروفسور يانكل.

- إني أرى كوفية فلسطينية.

- هي كذلك.

- وكذلك الطفل على ظهرها بجانب البندقية.

- إنه فلسطيني صغير وتلك بندقية أبيه.

- أراه ملثمًا؟

- نعم في فلسطين كل الأطفال يولدون ملثمين.

تراجع وهو يقطر سمًا ووقف على بعد متر ولف ذراعيه حول صدره:

- مسيو مدرس هل تعرف أين كنت خلال غيابي عنكم؟

- . . . . ؟

- كنت في ساحة الحرب في إسرائيل حرب الأيام الستة!!

- تقصد في فلسطين . . اسمع يا أستاذي المحترم هل تعلم أن العرب مدينون لإسرائيل؟

- بماذا أنتم مدينون لنا؟

- عدنا نحارب من جديد ولا أظن أن هذه الحقيقة ستتجاهلونها بعد اليوم.

دعيت إلى معهد العالم العربي في معرض استعادي عام 1994 أي بعد كثر من ثلث قرن، وكان هذا الأستاذ "يانكل" ضمن المدعوين . . اقترب وأخذني بالأحضان.

- مسيو مدرس مسيو مدرس وأخيرًا.

تأملت وجهه مبتسمًا وقلت له مبتسمًا:

- هل تذكر الذين يولدون ملثمين؟

لم ينتبه لما قلت لأنه أولاً فرنسي وحرب الأيام الستة ستكون حرب الألف عام. وأنهم يعرفون جيدًا الآن "لقد عدنا إلى القتال- أعني الشعب هذه المرة!".

النازحون

لوحة كبيرة في متحف معهد العالم العربي تمثل المحاربات السوريات وأطفالهن، هل هم من النازحين أم المقاتلين؟

لا أحد يعرف

أنا أيضا لا أعرف

والعمل ينضح بالفرح

والقوة بلا صرخة آه

فعندما تقف الكلمة حائرة أمام اللوحة تكون اللوحة حدسًا لا فكرًا

والعودة إلى القصص القصيرة التي كتبتها في الستينيات والسبعينيات "مجموعة عود النعنع" تكشف قليلا عن العالم "الكلمة" الموازي، واللامرئي من "الصورة الشكل".

معرض مع بيكاسو

ومرة . . وكنت في روما، وصلتني بطاقة من صديقي الفنان الدكتور لونز، تعلن عن معرض يقيمه هو ويتخلله تقديم دراسة مستفيضة عن الفنانين العشرين المشاركين في المعرض وبينهم بيكاسو وفاتح المدرس.

وما إن عرف أصدقائي الطليان بالنبأ حتى انفجروا ضاحكين.

قال أحدهم:

- أنت أيها الفلاح السوري تعرض مع بيكاسو؟! ولم أرد عليه، كان الرد من خلال المشاركة في المعرض وردود الفعل الإيجابية من الجمهور تجاه لوحاتي.

هنالك الكثير من وجوه غربة الإنسان استحال علي رسمها فعوضت ذلك بالكلمات، فالكلمة هي هيولا من نسيج الكون ولا يمكن رؤية أشكالها أو ما يوازي أشكالها، إلا في أعماق جمجمة الإنسان السحيقة، تلك الصور لا علاقة لها بالشكل المرسوم، وأداة ترجمتها الوحيدة هي "العين" أما الكلمة فلهـا جهاز رؤية آخر لم تكتشف ميكانيكيته حتى الآن.

 

فاتح المدرس

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات




فاتح المدرس





إحدى لوحات فاتح المدرس





من أعمال الفنان فاتح المدرس





لوحة أولى أخرى