«خطا اجتزناها».. حامد عمار في سيرته الذاتية

«خطا اجتزناها».. حامد عمار في سيرته الذاتية

عندما يتحدث شيخ التربويين العرب حامد عمار، فعلينا أن نصيخ السمع. وخاصة إذا كان حديثه هو سيرته الذاتية الذي يمثل خلاصة مسار شاق من العلم والعمل العام على المستوى الوطني والقومي والإنساني.

«خطا اجتزناها» تومئ إلى المسار والمسيرة، وهو ما يحيل إلى عبارة المفكر التربوي البرازيلي الشهير باولوفريري «الطريق يصنعه المشي»، فالطريق / المسيرة/ التجربة هي التي شكلت مادة هذا الكتاب، خاصة أن الحياة المديدة لصاحبها - أطالها الله - والتي تجاوزت منتصف العقد التاسع ربما ارتكنت إلى إرادة جبارة من صاحبها، لم ينصفها العنوان الفرعي للكتاب «بين الفقر والمصادفة إلى حرم الجامعة»، فهنا نجد الفلسفة الحتمية الخارجية (الفقر، والمصادفة)، وتهميش العامل الإنساني أو قدرة الإنسان قد طغيا على تغيير مصيره وتجاوزا ما يبدو قدريا. ثمة ظلم لإرادة الشيخ التي انطوت على تصميم وعزم هائلين على تجاوز الفقر والظلم الاجتماعي.

خريطة السيرة

لكل سيرة خريطتها الفنية سواء على المحور الطولي التراكمي أو محاور عريضة أو وقفات معنوية، واختار صاحبها أن تكون خريطته ضفيرة مؤلفة من نقلات طولية تتماهى مع تاريخ حياة صاحبها منذ نشأته في قرية سلوا البدائية بصعيد مصر وعبر مراحل الدراسة المختلفة حتى بعثته إلى جامعة لندن، وعودته للتدريس بالجامعة، ثم مرحلة اختياره مستشارا للأمم المتحدة، وانتهاء بعودته إلى جامعته مجددا.

ثمة مرآة يطالع د. حامد عمار ذاته فيها وكأنها حيلة فنية سينمائية على طريقة الفلاش باك.

الغاية الثالثة من كتابة السيرة عند حامد عمار هي توجيه رسائل عرفان وامتنان لكل من أعانه في مسيرته، أي أنها بمنزلة عطر الأحباب بتعبير يحيى حقي.

ثمة لغة موسيقية، مرهفة الحس ومدحية في لغة صاحب السيرة، تعززها مقدرة لغوية أخاذة، يقول مثلا: «ويجري سرد السيرة والمسير، كما لو كنت أرى نفسي في تلك المرأة، أتحدث عن نفسي إلى نفسي بذكريات عايشتها من فكر وفعل وإحاسيس وانطباعات، حلوها ومرها، امتاعها وإحباطها، وثوقها وسكونها، حبها وسرها، غضبها وهدوئها».

قسم د. عمار سيرته إلى 24 حكاية أو فصلا، تحيل كل حكاية إلى معلم أو نقطة تحول في حياته ولعل أكثرها إثارة عمله في مكتب الأمم المتحدة ببغداد، إبان الحقبة الصدامية، والأخرى عمله في بيروت إبان الحرب الأهلية.

والرؤية النقدية وشموليتها ونفاذها سمتان تسمان هذه السيرة. لا يخجل المؤلف من فقر أسرته، ويعترف بفضل العشرات الذين مدوا يد المساعدة إليه منذ نشأته المبكرة في قرية سلوا بأسوان آخر حدود مصر الجنوبية ليكون أول معلم في التعليم الحديث فيها، وإذا كانت أسرته قد ضحت: بما تملك من أجل أن يتعلم، عندما كان التعليم قبل ثورة 1952 بمصروفات، فإن المصادفة خدمته مرارًا، فيتبرع له عضو المجلس النيابي بعشرة جنيهات لينتقل إلى المدرسة في المدينة، ويوفر مقاول كريم مسكنا له بالمدينة إلى جانب النفقات.

كان لزاما على تلميذنا أن يقدم «شهادة فقر» معتمدة ليعفى من الرسوم المدرسية، وحيث كان التعليم الثانوي والجامعي من نصيب الأغنياء قبل ثورة 1952، ولذا كان تفوقه الدراسي من الميكانيزمات التعويضية لصاحبها.

ومن أعجب المصادفات في حياته شفاء الملك فؤاد ملك مصر من ورم في رقبته، فيصدر قرارا بإعفاء العشرة الأوائل في كل مرحلة تعليمية من المصروفات لذلك العام، في وقته ألغيت المجانية في المدارس بسبب الأزمة المالية العالمية، وبذلك استطاع استكمال التعليم الثانوي الذي نال فيه المرتبة السادسة على القطر في امتحان البكالوريا (الثانوية العامة).

ويلخص مسيرته الدراسية في عبارة موجزة «وحسب شروط المجانية جرى تقديم طلب منحها سنويا، واستمرت مع استيفائي لشروطها فقرا يدعمه التفوق أو تفوقا يدعمه الفقر».

إلى جامعة لندن

تنجح السيرة في رسم الحياة الأكاديمية في مصر، وفي بريطانيا سواء من ناحية التقاليد العلمية، والعلاقات والحريات الأكاديمية، وربما نصادف أهم الرموز الفكرية والثقافية في مصر منذ الأربعينيات وحتى اليوم، فمن أساتذته شيخ المجمعيين إبراهيم بيومي مدكور، والجغرافي الكبير سليمان حزين، وسهير القلماوي وشوقي ضيف، وأبو العلا عفيفي، ومحمد مصطفى زيادة، وشفيق غربال، وعبدالحميد الصاوي، وأحمد عزت عبدالكريم وإبراهيم نصحي.

وهناك اقترب من الأصداء الثقافية في مناخ الحقبة الليبرالية، فهناك المعارك الثقافية بين أنصار العقاد وطه حسين وزكي مبارك وسيد قطب والرافعي ودريني خشبة وإسماعيل مظهر ومحمد فريد أبو حديد، وأحمد أمين وتأثير خطب محمد حسين هيكل، وأحاديث حسن البنا وأحمد حسين، ومجلتا الرسالة والثقافة بمقالات محمد حسن الزيات وأحمد أمين ويستشهد صاحبنا بعبارة سعد زغلول «الجامعة لادين لها إلا العلم»، ملخصا المناخ الأكاديمي في ذلك الوقت، ولذا يشيد بمكانة أستاذ الجيل أحمد لطفي السيد عندما كان مديرا للجامعة «وما أعظم لطفي السيد من مدير للجامعة: بناءً ومحافظا على كرامة أساتذتها، ومدافعا عن استقلالها وحريتها».

من البعثة إلى الأمم المتحدة

ابتعث حامد عمار إلى جامعة لندن في تخصصي التاريخ وأصول التربية، وفضل التخصص الثاني بمشورة أستاذه إسماعيل القباني ويرصد ملامح التعصب والتمييز العنصري في المجتمع البريطاني الديموقراطي. يتأمل الصدمة الثقافية التي واجهها في البعثة. ثمة تأثير الدراسة على يد عالم الاجتماع الشهير كارل مانهايم، ودراسة مؤلفات كارل بوبر، وايرك فروم، ومن الغريب أن يختار د. عمار موضوعا للماجستير عن «عدم تكافؤ الفرص التعليمية في مصر» متسقا مع موقفه الفكري من الظلم الاجتماعي والطبقية في مصر قبل الثورة.

وينقذه طه حسين وزير المعارف من قرار من توقف البعثة بسبب تعقيدات بيروقراطية، ويكتب في التأشيرة «فلترد الحقوق إلى أصحابها»، ويأمر باستمرار البعثة وتشرف على رسالة المبتعث دكتوراه حامد عمار الانثربولوجية الشهيرة مرجريت ميد، وكان عنوان أطروحة الدكتوراه «التنشئة الاجتماعية في قرية مصرية»، وبذا كان أول مصري يحصل على درجة الدكتوراه من جامعة لندن قبل قيام ثورة يوليو 1952 بأسبوعين.

زامل صاحبنا في بعثته الوزير الكويتي فيما بعد عبد العزيز حسين، وخليل السالم الوزير الأردني فيما بعد، وحكمت أبو زيد أول وزيرة مصرية في زمن الثورة، والمؤرخ الشهير محمد أنيس، ويس العيوطي، وسعيد النجار، وفوزي منصور، وسعيد عبد الفتاح عاشور.

في الأمم المتحدة

اختير د. عمار عضوا لمجلس إدارة اللجنة الاجتماعية للأمم المتحدة (61-1967)، وتغير اسمها إلى (اللجنة الاقتصادية والاجتماعية لغربي آسيا)، وفي عمله ببيروت إبان الحرب الأهلية اختطفه تنظيم «العاصفة» الفلسطيني قبل أن يتدخل أحد المقاتلين الطلاب ويطلب وساطته مع أحد معارفه من الأكاديميين الذين يدرس لهم، وفي مرة ثانية سرقت سيارته المرسيدس تحت تهديد مسدس، وهرب من بيروت ضمن بعثة الأمم المتحدة قبل أن يعين في مقر الأكوا الجديد ببغداد سنة 1981، واصفا مناخ القهر في بغداد في ذلك الوقت.

ويصف د. عمار مظاهر التحضر التي عاشتها أقطار الخليج، ففي زيارته إلى الكويت سنة 1971، لم يكن فيها الا فندقان، وخمس مدارس ابتدائية وطرق غير لائقة، وفي سلطنة عمان لم يكن بها إلا ثلاث مدارس وكانت الطائرة تشغل مقاعدها بمن يأتي أولا وليس بالحجز، ويصف كيف نمت مظاهر التحديث والعمران الجديد بسرعة فيها.

ينتقد د. عمار طغيان المدرسة الوضعية البرجماتية في البحوث التربوية، وسيادة المنهج الإمبريقي الوصفي في مناهج البحث، كما ينتقد عمل اللجنة العلمية الدائمة للترقيات، والكثير من مظاهر التغير على الأداء الجامعي ومنها شيوع الألقاب العلمية (أ. د)، (أ. م. د.)، (د.) وسطوة الأمن والحرس الجامعي في الجامعات المصرية.

يؤكد أستاذنا أن اللحن المميز للتربية والعلوم الاجتماعية وهو صفة الاشتباك مع الواقع، مستمدة من عبارة كارل مانهاتم Education is coterminous with life، ويترتب على ذلك التوجه المجتمعي الكلي، والنظر إلى التعليم في سياقه المجتمعي.

ويرصد المؤلف ما أحدثه كتابه «بناء البشر» من ضجة، وخاصة صياغة مفهوم (الفهلوي) وكيف نما مفهوم (التنمية البشرية) بدلا من (الموارد البشرية).

ويدعو د. عمار إلى ثورة في لغة التربية وإلى (التوجه، والتوليد الإبداعي) في اللغة التربوية المستخدمة، ومن أمثلة اللغة التربوية الجديدة التي نحتها مصطلحات (الشجرة التعليمية) و(المجتمع المعلم) و(البنية الأساسية) و(الاقتصادات التعليمية).

كما دعا إلى مناهضة اختبارات الذكاء لزيفها وعدم علميتها.

تتجلى الثقافة الموسوعية لحامد عمار في الاستعارات الغريزية من الشعر العربي في كتابه، حيث نقرأ لصلاح عبدالصبور، وسميح القاسم، وعبد العزيز المقالح والفرزدق، والكثير من عيون الشعر العربي، وهو يصدر كتابه بأبيات صلاح عبدالصبور:

لا.. يا ولدي
لابد أن نعلو فوق المأساة
نتجاوزها لكن لاننساها
يوما سنعيد بناء مدينتنا الحلوة،
قاهرة الأيام والحب الأول.

 

محسن خضر