ملف الشاعرة الدكتورة سعاد الصباح: الشاعرة الشاعرة: سعدية مفرح

 ملف الشاعرة الدكتورة سعاد الصباح: الشاعرة الشاعرة: سعدية مفرح

سأكتب عن سعاد الصباح إذن...
سأسجل شهادة على زمن شهيد ننتمي إليه معاً، وسأعلن، منذ البداية، انحيازي لمحض الشعر فيه وأقاوم رغبة في الكلام، أعرف أنها ستتحقق أخيرًا.

للكلام الكثير على علاته المملة وجه حسن.. بالكلام وحده نستطيع أن نبوح بما نريد وما لا نريد أن نبوح به.. الكلام إذن سيكون الشهادة، ربما لأنه وحده سيحيل إلى الشعر والشاعرة التي أشهد منذ البداية أنها لا تنزعج من شيء مما يمكن أن يكون تماسًا مع تجربتها الشعرية والإنسانية قدر انزعاجها من الكلام المجاني الذي أدخلته العرب في باب المديح، ربما لأنه لا يقول شيئا لأنه لا يريد سوى أن يقول، مجرد أن يقول!

سأقول إذن لا لأنني أريد أن أقول شيئا من ذلك النوع من القول، ولكن لأنني أريد أن أقول ما ينبغي أن يقال عن امرأة شاعرة أزعم أنني أعرفها إلى حد تقرير ذلك.

سأقول إذن عن سعاد الصباح.. هكذا.

وسأدون في هذه الأوراق شيئا مما يمكن أن يدون عن هذه الشاعرة الاستثنائية ليس في زمانها وحده، وليس في مكانها وحده، وليس في خصوصيتها العائلية وحدها، وليس في هويتها الإبداعية وحدها، ولكن بكل ذلك معا.

امرأة تبدأ بإصرار... يشبه السكين في رهافته وحدّته رحلة شعرية صعبة، رغم أنها تملك أداتها الأولى حيث الموهبة قرار الممارسة، وحيث الوعي بهذه الموهبة وحدودها خطوتها الأولى نحو تحققها الأخير، ورحلة إنسانية أصعب رغم أنها تسير خلالها على طريق مفروش بالمجد العائلي التليد المسيج بزهو السلطة الموروثة ورفاهية الثراء الموروث أيضا، فالصعوبة عنوان الطريق وعلى حديها الأدنى والأعلى توزعت مقولات الشاعرة المعلنة وغير المعلنة.

هكذا، إذن، وجدت سعاد الصباح نفسها، وفقًا لتفاصيل الرحلتين، وهي تعلن ذاتها شاعرة تخوض في تضاريس دقيقة من الشعر والتاريخ والسياسة والنقد والعائلة والحب والوطن في هويته المحلية وهويته القومية... وما يمكن أن يكون خيطا تنتظم فيه كل هذه المفردات دون أن تطغى مفردة على أخرى تحت وطأة هاجس ما.

«شيخة» بالولادة.. تنتمي لأسرة حاكمة، وزوجة لواحد من الكبار في تاريخ بلادها، وباحثة في المجال الاقتصادي، ولكنها قبل كل هذا كله بتاريخ كامل ربما، هي شاعرة تعي تلك الشعرية وتحتفي بتحققها في زمان لا ينتظر أن تكون امرأة من هذا النوع شاعرة، ولا يتوقع منها إن كانت أن تحتفي بتلك الشعرية... لكنها كانت واحتفت.

شاعرة محتشدة بظنون الكلام الأليف، والكلام المخيف، وبسماوات لا نهائية من الشعر والنقد والصلاة والشك والأصدقاء تمضي، ونمضي نحن الذين ربما نكون نظرنا لها ذات حلم شخصي مكسور أو هزيمة مضنية بخصوصيتها وكأنها المرأة التي لا تعاني ولا تنكسر ولا تنهزم ولا تظلم... ولا تحلم إلا ليتحقق حلمها قبل أن تحلم به... أليست هي سعاد الصباح؟ أليست هي الشيخة التي تنتمي لأسرة تحكم واحدة من أكثر دول العالم ثراء؟ أليست هي الأميرة الجميلة التي يخطفها الفارس الأمير على حصانه الأبيض ليتزوجها ويعيشا في تبات ونبات ويخلفا الصبيان والبنات؟! نعم نمضي نحن قليلا.. قليلا فقط، في الكلام، محض الكلام، ووجهه الحسن، رغم ما يفيض به علينا من علل تتجاوز حدود امرأة اسمها سعاد الصباح نحو نصف وطن من النساء يمتد من الماء إلى الماء .. ليصير استفزازًا للنصف الآخر من ذلك الوطن بمجرد وجوده الأزلي، بل لتصير أي أنثى فيه وحدها استفزازًا سريا لتلك الذكورية الجاهلة بامتياز قومي تاريخي عريق... أما وإن تجرأت هذه الأنثى لتكون امرأة فهي تتحول فورًا لأن تصير استفزازًا معلنا.. ثم يتضاعف هذا الاستفزاز عندما تحاول هذه المرأة أن تكتشف تلك الينابيع السرية للشعر حيث الصدق ضرورة التحقق.

فماذا يحدث إن كانت هذه الأنثى التي قررت أن تكون امرأة تحترف كتابة الشعر تنتمي لعلية القوم وتحمل لقبًا عائليًا نبيلاً؟!.. لهذا الوضع، بدوره، على علاته المتوارثة وجه حسن، ولوجهه الآخر على حسناته الحلمية علة لا أعتقد أن أحدا عانى منها كما عانت منها سعاد الصباح التي كان عليها دائما أن تكون النموذج الرائد، وأن تنحني لعواصف الادعاء الهوجاء دون أن تنكسر، وبين الممارستين خيط رفيع ظلت سعاد الصباح تجيد التعامل معه بدقة لم تفقدها عفوية وبساطة يشبهان الشعر في محضه وضرورته وجغرافيته وطقوسه أيضا. فأن ينتمي مبدع للسلطة، حتى وإن كان ذلك انتماء عائليا، يعني ذلك أن يعيش بين ظلال كثيرة من الظنون الآثمة وغير الآثمة وفقًا لمفهوم السلطة وتداعياتها في أي دولة من دول العالم الثالث، فهو معرض منذ البداية وبالضرورة لمن يرى فيه ظلاً لهذه السلطة، من ناحية مما يعرض لإنتاجها لنظرات التشكيك من قبل النقاد قبل المتلقين ـ... ومن ناحية أخرى من يرى فيه أداة من أدوات هذه السلطة مما يعرضه هذه المرة لنظرات نقدية استرضائية قد ترضي نجومية الشاعر ولكنها تخدش جوهر الشعر فيه، كما أنه معرض من ناحية ثالثة لنظرة خاصة من قبل السلطة التي ترى فيه ما لا تراه في الآخرين وبالتالي فهي تتوقع منه ما لا تتوقعه من الآخرين.

لكن سعاد الصباح، ولعل هذا أهم ما حققته بالفعل نجت من هذا ومن ذاك، إلى حد ما على الأقل، لأنها وبذكاء فطري انحازت لمحض الشعر في بناء مكونات شخصيتها الشعرية دون أن تخفي اعتزازها بانتمائها العائلي الرفيع، ذلك الانتماء الذي أرى أنه أضاف بالضرورة صعوبة إضافية، حتى وإن كانت غير معلنة أو مقصودة، بدلاً من أن يذلل صعوبة متوقعة تعترض طريق امرأة، محض امرأة تبدأ، محض بداية!

لكن المثير فعلا أن سعاد الصباح استفادت، مثل غيرها من المبدعات العربيات، دون قصد، من كل تلك المعطيات التي تحيط بتجربة أي امرأة مبدعة في أي مجتمع ذكوري، فمثل هذا المجتمع يقدم - دون أن يدري لحسن الحظ - لمثل هذه المرأة أول شروط أو أدوات الجودة والأصالة لممارسة الإبداع الشعري أو أي إبداع مشابه وهو الصدق والجرأة المتناهية، فالمرأة التي تختار الشعر رهانًا لحياتها يفترض أنها منذ البدء تعرف صعوبة الاختيار ولذته وتصير بالتالي مستعدة لإنجاز تجربتها الشعرية الحرة حتى وإن تم ذلك في مجتمع ذكوري قامع ورافض ومحارب لحميمية المرأة، ما دامت قد استطاعت عبور البرزخ السري الدقيق المؤدي إلى جنة الشعر وناره.

وسعاد الصباح كانت واحدة من الأوليات اللائي استطعن عبور ذلك البرزخ.

كانت بأسئلتها تزرع دهشة معلنة في محيط القبيلة المأخوذة بجرأة امرأة تكتب شعرًا ثوريًا لا لتوقعه باسم مستعار ولا لتخفيه في الدرج السري لخزانة ملابسها ولكن لتنشره على الملأ صادحًا في فراغ مهيب من خوف موروث ورهبة مزمنة وكثير من الأحلام المكسورة.

وبمدى يشبه الخضرة المتمناة باتساعه، كانت تعلن حضورها حيث تغيب تفاصيل مهامها الأثيرة على هامش اليوم والليلة لتعيد توزيعها من جديد على هامش تاريخها كله، ولعله تاريخنا أيضا، نحن النساء العربيات الذي قدر لنا أن نتعاطى الشعر والكتابة:

يقولون إن الكتابة إثم عظيم...
فلا تكتبي
وإن الصلاة أمام الحروف... حرام
فلا تقربي
وإن مداد القصائد سم...
فإياك أن تشربي
وهأنذا
قد شربت كثيرا
فلم أتسمم بحبر الدواة على مكتبي
وهأنذا...
قد كتبت كثيرا
وأضرمت في كل نجم حريقا كبيرًا
فما غضب الله يوما علي
ولا استاء مني النبي

ولعلنا نكتشف الآن أن سعاد الصباح التي أصرت على خيار الكتابة منذ البداية، أصرت في الوقت ذاته على خيار الخصوصية والجرأة فيها حتى وهي تكتب عن تلك المنطقة الحميمة في حياة أية امرأة شرقية، فهي بدلا من أن تستسلم لحدود المساحة الشعرية العاطفية التي اعتادت الشاعرات العربيات المعاصرات قبلها خصوصًا أن يمارسن شعريتهن ضمنها، اختارت أن تكسر هذه الحدود وتتجاوزها إلى حيث يمكن أن تكون نموذجا للمرأة الجديدة التي ينبغي أن تكون الشريك الفاعل بدلا من أن تكون الشريك المتلقي في أي علاقة بين رجل وامرأة:

أريد أن أكتب إليك...
لا لأرضي نرجسيتك كما تظن
ولكن لأحتفل
ربما للمرة الأولى
بميلادي كامرأة عاشقة..
وبتفجير انفعالاتي في وجه هذا العالم.

فهل في مثل هذا ريادة ما؟

ربما.. ولكنه على أية حال يكفي، على الأقل، لاسترجاع صورة تاريخية بالنسبة لي ولجيلي كله في الكويت، ذلك الجيل الذي قدر له أن يتماس مع أشعار سعاد الصباح عبر المنهج الدراسي المقرر على طلبة الثانوية العامة، صورة ترسم ملامح شاعرة لا تبعد كثيرًا عن زمان ذلك الجيل وإن سبقتها ببضعة أعوام شعرية كانت كافية لكي تجعل منها المرجعية النسائية الأولى التي تنبع من تاريخنا الحميم وتتمدد على تفاصيل جغرافيتنا المحلية الخاصة، والبداية التي لا تشبه بداياتنا مع الشاعرات العربيات الأخريات اللائي يرسمن لنا في قصائدهن بساتين حلمية وثمارا لم نتذوق برتقالها الشهي وهو يتدلى من أشجار لم نرها إلا في كتبنا الدراسية التي تتحدث عن مواسم الآخرين وجغرافياتهم البعيدة كأنها الحلم الجميل.

ولكن كتابنا المدرسي لمادة النصوص الأدبية في ذلك العام خصوصًا كان مختلفًا عما درسناه من كتب شعرية في أعوامنا الدراسية الماضية، حيث كنا على أهبة ترك مقاعد المدرسة الثانوية بزيها الموحد الملل وجرسها الصاخب الزاعق في برية أحلامنا الطازجة، عندما اكتشفنا أن هناك شعرًا لشاعرة نسمع باسمها لأول مرة، في ذلك الوقت، يمكن أن يكون مادة لأسئلة امتحان الثانوية العامة الرهيب، وفي الوقت نفسه مادة مستعارة لرسائلنا الوردية المختفية بنزق وحياء بين أوراق الكتاب المدرسي الأثير بانتظار أن تجد تلك الفسحة الزمنية الممتدة ما بين سور ثانوية البنات وسور ثانوية البنين القريبة.. لتروح أو تجيء! وكانت عفوية الشعر في تلك الرسائل ومدلولاته الإنسانية التي تليق بمراهقتنا الأولى كافية لأن نحتفي، في المنهج وفي الحياة، بشاعرة اسمها سعاد الصباح وبقصيدة عنوانها «جنتي» ظلت تسكن في ذاكرتنا حتى عندما غادرنا تلك المرحلة، أو لعلها غادرتنا:

جنتي كوخ وبستان وورد
وحبيب هو لي رب وعبد
وصباح شاعري حالم
أتغنى فيه بالحب وأشدو

وإذا كان لبعض زميلات تلك المرحلة أن يظل تماسهن بسعاد الصباح محكومًا بتلك «الجنة» الحالمة وتداعياتها في حياتهن الجديدة، فإن تماسي أنا معها اتخذ بعد ذلك أكثر من صورة لم تبتعد به عن صورة تلك الجنة وتداعياتها الحلمية وإنما أضافت لها أبعادًا إنسانية خاصة.

هل أقول إنني مازلت مسكونة بتلك الكلمات المشجعة الحميمة التي بادرتني بها سعاد الصباح بعد أن شاركت في أول أمسية شعرية لي خارج أسوار الجامعة؟ ولكنني كذلك... عندما هاتفني منظم الأمسية الشعرية التي كان من المقرر إقامتها في رابطة الأدباء يدعوني للمشاركة في هذه الأمسية لم أتردد بسؤاله عن الأسماء الأخرى التي تمت دعوتها، فذكر أربعة أو خمسة أسماء لشعراء كويتيين معروفين من بينهم اسم الدكتورة سعاد الصباح بالإضافة الى اسم شاعر شاب في مشاركته الشعرية الثانية أو الثالثة. وكأن محدثي أحس بما يجول بخاطري فقال ضاحكًا: الحقيقة أن جميع هؤلاء الشعراء قد اعترضوا على مشاركتك أنت وزميلك الشاب في أمسية كبيرة كهذه معهم، والوحيدة التي لم تحتج ولم تسأل كانت هي الشاعرة سعاد الصباح...، هل أقول إنني تشككت بما يقوله ذلك الرجل؟ ولكنها كانت اليقين ذاته بعد الأمسية بكلماتها المشجعة وإطرائها الحنون وطيبتها المتبدية من بين الكلمات.

هل أقول إنني مازلت مسكونة بفرح الجائزة الشعرية الأولى التي فزت بها في حياتي؟ ولكنني كذلك. وما زالت جائزة سعاد الصباح الأولى للإبداع الشعري التي فزت بها عن كتابي الأول «آخر الحالمين كان» هي الأهم بالنسبة لي، ربما لأنها الأولى... ونحن ضعفاء أمام فرحنا الأول. ولعل هذا أهم ما يميز جوائز سعاد الصباح الشعرية عن غيرها من الجوائز الشعرية في الوطن العربي، فلأنها لا تمنح إلا لمن هو دون الثلاثين من العمر، تنجح في أن تكون الفرح الأول لمن تمنح له مما يضيف لمعناها معنى إضافيًا لعله الجدير بتمييزها...

وماذا بعد...،

هل قلنا عن سعاد الصباح كل ما أردنا قوله؟

بالتأكيد لا...

ولكننا على أية حال نستطيع أن نقول أيضا إن سعاد الصباح تنجو، عبر مدى متسع من الشعر في معناه الذي يتجاوز حدود التعريفات النقدية إلى آفاق لا حدود لها، بالقصيدة وتنجو القصيدة بها.. وبين نجاتين متناوبتين تذهب إلى طرف الدهشة الأخيرة لتكون الشاعرة... الشاعرة!.
-------------------------------
* شاعرة وكاتبة صحفية من الكويت.

 

سعدية مفرح*