مساحة ود

   مساحة ود

طفلة في الثلاثين

فوق شرفة ذكرياتي جلست أتأمل ما فعلته خلال هذه السنين، وما فعلته بي هذه السنون، ربما هي المرة الأولى التي أقف فيها على خط الحياد والصدق مع نفسي، لأرى كيف تصرفت، وماذا قلت خلال تلك السنين، التي عبرتني بكامل تفاصيلها.

كانت شرفتي محاطة بألوان الحياة، ألوان الواقع، وألوان الحياة تتداخل مع أطيافها من فرح وألم، رضاء، واستياء، حلو ومر. ومن فوق كل هذا شمخت شجيرات وجودي مزدانة بنجاحي وسعادتي باسقة مثمرة مترامية الأطراف، يعكر اخضرارها بعض الوريقات الصفراء هنا وهناك وبعض الثمار التي بنت فيها مناقير العصافير بيوتًا للدود وفتحت طريقًا للموت. ونظرت تحت ظلال تلك الأشجار، فوجدت في حضنها تباشير نباتات، وأزهارًا جميلة تجاورها أعشاب ضارة وأشواك تذكرتها بخجل وندم وقلت لنفسي هذا ما قلته لصديقتي يوم طلبت معونتي. وهذا ما فعلته بذلك الشاب الذي أحبني حتى الجنون. وهذا ما رددت به على جدتي يوم قدمت لي النصيحة، وهذا، وهذا، وهذا.

ومثل كل البشر رحت أبحث عن مقابل هذه السيئات بين أشجاري الخضر فتذكرت يوم رافقت خالتي المريضة في المستشفى وقتًا طويلًا، وتذكرت ما قدمته لأسرة فقيرة كانت تسكن في الحي المجاور لنا، ومرّ بفكري عيسى الفتى المقعد الذي كنت أطعمه بيدي و.. و.. و..

لا أخفيكم، شعرت ساعتها بفخر ورضا لا حدود لهما، دفعتني قوة إحساسي بهما إلى أن أمدّ يدي لأقتلع الأشواك التي لم تعجبني وتنغص سعادتي لكني ما إن بدأت حتى غرزت هذه النباتات اليابسة أسنانها في راحتي فانبثقت رءوس الدم الصغيرة وبسرعة البرق، سحبت يدي ورحت أعصر راحتي بشدة تفوق ألمي. أعلنت استسلامي وقررت أن أتركها وأتجاهل وجودها وأن أخلص نفسي من الأوراق الصفراء إما بطمرها في باطن الأرض وإما بإحراقها. وما إن لامستُ الغصون التي تحملها حتى سقطتْ هي من نفسها، وشعرت بأنها تسخر مني، فهي لا تقوى على لسعي كما الأشواك لكنها وعلى الرغم من هشاشتها راحت ترمي بنفسها من فوق الأغصان قبل وصولي إليها.

حسنًا سأنسحب وأتركها خلفي لأجرب نكرانها من جديد. أكملت سيري، تناهى إلى مسمعي

صوت خفيف، نظرت خلفي، فإذا ببعض الأشواك عالقة في ذيل ثوبي، انتابتني موجة غضب عارمة فرفعت طرف ثوبي، ورحت أمزقه

بأسناني لأتخلص من الأشواك لكنني خربته وشوهت الكلف التي تزين أطرافه، لا يهم قلت لنفسي ومشيت.

وصرت كلما مشيت خطوة حكت أطراف الثوب الممزقة كاحلي فتذكرت أني مزقته وأتذكر أشواكي، لذلك عدت إلى الوراء أخذت قطع القماش التي مزقتها، وقررت أن أخيطها كما كانت بأشواكها. إحساس غريب تملكني صرت متأكدة أن لأشواكي حضورا في حياتي يفوق حدود تصوري. وصار الاقتناع الأعمق بأن نبل نفسي ينبع من اعترافي بوجود تلك الأشواك ومحاولة إعادة الحياة فيها لتنضر من جديد. سعيدة أنا الآن بهذا الاقتناع، منتشية، أفترش شرفة ذكرياتي بكل الحب أسمع تغريد البلابل ونعيق الغراب، فلكل موضعه ودوره في نفسي، هكذا نحن البشر، وهكذا خلقنا الله سبحانه وتعالى.

 

ريم الياسين