اللغة حياة

اللغة حياة

الصراع بين مستقرَّين

في اللغة صراع دائم بين المستقرّ في المصادر اللغويّة، والمستقرّ في الاستعمال؛ ولعلّ عبارة «حضرة المحترم» ممّا يساعد كثيرا في إضاءة ذلك الصراع؛ وهي من الرواسم المستخدمة في مخاطبة الأشخاص والدالّة على وجود مسافة بين المخاطِب والمخاطَب، أو على توقير خاصّ للمخاطَب؛ لكن لو أنعمنا النظر في أصلها، وفي المعنى الذي تُستخدم فيه اليوم، لوجدنا بونا، ولصادفنا طريفة لطيفة هي أنّ اللغويّين كثيرا ما يثبتون في مؤلّفاتهم غير ما يستخدمونه في لغتهم الخاصّة، وفي ذلك صورة واضحة لتغليب المستعمَل على المدوَّن. فاللغويّ

لا يثبت في موادّ مدوّنته إلاّ ما شهد نصّ قديم على صحته، ولا يكاد يتجاوز في ذلك عصر الاستشهاد، أي ما بعد بداية القرن الهجريّ الثاني بقليل - وإن اعتمد بعضهم، كالزمخشريّ، شواهد من القرن الهجريّ الرابع - لكن اللغويّ نفسه قد يشرح موادّ مدوّنته بما يخرج عنها، وكأنّه يحاول التفريق بين لغته وأسلوب عصره، من جهة، وبين لغة الجاهليّة والقرون الهجريّة الأولى، من جهة أخرى، وربّما لم يجد شواهد إلاّ في لغة معاصريه.

فالزبيديّ، مثلا، حين حاول أن يشرح، في «تاج العروس»، تطوّر معنى «حضرة» أشار إلى أنّها في الأصل مصدر بمعنى الحضور، لكنّ الناس قد تجوّزوا في استعمالها فصارت تدلّ على مكان الحضور، ثمّ على كلّ كبير يحضر عنده الناس. لكنّه خلافا لما توجبه قواعد الاستشهاد لم يرجع إلى النصوص القديمة، بل ضرب المثل بكلام معاصريه في القرن الثامن عشر الميلاديّ، أو بسابقيهم قليلا؛ ومن تلك الأمثلة قولهم: «الحضرة العالية تأمر بكذا». وهو نفسه استخدم كلمة «حضرة» في الحديث عن الذات الإلهيّة، فقال: «وهو وصف لا يوصف به إلاّ حضرة جناب الله سبحانه وتعالى»، كما نسب إلى من وصفه بالرّحالة مُحمَّد بن حميد الدين الغوث نصّا يفسّر فيه كلمة «الشُطّار» بـ «السُبّاق المسرعين إلى حضرة الله تعالى وقربه»، فهو متأثر باللغة الصوفيّة في عصره، مع أنّ عبارته سقيمة لا تخلو من عُجمة وسخف.

والحقيقة أنّ الكلمة لم تستخدم في القديم إلاّ بمعنى الحضور، أو بمعنى المجلس أو المَجمع، ولاسيّما في قصور ذوي الشأن، كالخليفة والأمير والوزير، فضلا عن استعمالها بمعنى الحاضرة. ومن معنى المجمع أُخذ معنى الحضرة الصوفيّة، حيث يجتمع المريدون حول شيخهم للدرس أو الذكر. لكنّ المستعمِل المتأخّر انحرف باللفظ نحو العُجمة، في ظلّ الدول الإسلاميّة غير العربيّة، فجعله رَوْسما تكريميّا تصحبه - أحيانا - كلمة أعجميّة، ولاسيّما تركيّة، كقول يوسف كرم، في القرن السادس عشر: «حضرة دولتلو أفندم»، وتصحبه الأدعية أحيانا أخرى.

وأمّا صفة «محترم» فمعروف أنّهم يستعملونها، في الغالب، بعد ما يضاف إلى كلمة «حضرة» زيادة في التوقير؛ ومعناها، عندهم، الجليل القدر؛ وهي نعت عند النصارى لرجل الدين المسمّى الخوريّ، وربّما جاءت كناية عنه. واللافت أنّه لاّ وجود لفعل احترم ومصدرِه في المظانّ اللغويّة، ولا في الكتب الأدبيّة القديمة، مثل كتب الجاحظ. لكن الزمخشريّ يفسّر فعل «احتبك به» في «أساس البلاغة» بـ «احترم به» من غير أن يفسّر فعل احترم أو يدرجه بين مزيدات «حرم»، وإن فهمنا أنّه يريد به معنى :جعله ثوب إحرام. وهو يشير في «المستقصى في الأمثال» إلى أنّ القرشيّين لم يكونوا يعصبون العمامة على عصبة سعيد بن العاص «احتراما له، وهيبة منه». أي أنّ الضرورة التعبيريّة حملته على استعمال لغة عصره، في القرن الثاني عشر الميلاديّ، وإن لم تكن مثبتة في معجمه؛ فذلك أيسر عليه في التعبير عن فكره، وفي إفهام معاصريه ما يبتغي. ومثله ابن منظور، الذي خلا معجمه «لسان العرب» من الفعل المشار إليه، لكنّه استخدمه في شروحه بمعنى حفظ الحُرمة، وهو غير متداول اليوم، فقال: «احتراما للمقابر» و«احترام الميت»، وأشار إلى أنّه إذا نُهي عن قتل الحيوان «ولم يكن ذلك لاحترامه أو لضرر فيه، كان لتحريم لحمه». ومعروف أنّ قتل الطيور في حرم مكّة محرّم.

لكن يبدو أن الفعل استُعمل قديما بندرة، وإن لم يسجّل في المعاجم، ولعلّ أقدم نصّ استُعمل فيه هو بيت للشاعر العباسيّ محمّد بن حازم الباهليّ (ت 215 هـ) على ما رواه كتاب «الأغاني» وهو:

تَهُرُّ على الجليسِ بلا احترامٍ لتُجشِمهُ إذا حَضَرَ الطعامُ


ويوحي الشاعر في كلامه معنى حفظ الحُرمة أيضا، لأنّ للضيف حرمة كما هو معروف؛ ولا ندري لماذا أهمل اللغويّون هذا البيت.

ولو تتبّعنا تطوّر معنى اللفظ، على طريقة المعجم التاريخيّ، الذي نحن أحوج ما نكون إليه في العربيّة، والذي وعد مجمع اللغة العربيّة بالعمل عليه، لوجدنا أنّ الأدب يكاد يخلو من فعل احترم حتى أواخر القرن الهجريّ الخامس أو أوائل القرن السادس، باستثناء بيت الباهليّ المشار إليه، وربّما أبيات أخرى لا نعرفها. لكنّ ابتداء من القرن السادس وأوائل السابع أخذ استعمال اللفظ في التوسّع، وبالمعنى الجديد، أي التوقير؛ ثم زاد الاستعمال اتّساعا في القرن الثامن الهجريّ، الرابع عشر الميلاديّ، وما بعده، بما يشعر الدارس بنـزاع بين المقبول عرفا عند اللغويّين، والمستعمل فعلا على ألسنة الناس وأقلامهم، وبانزلاق المعنى شيئا فشيئا عن أصله إلى دلالات بعيدة عنه، وهو هنا الانتقال من معنى حفظ الحُرمة إلى معنى التوقير، بحيث حلّ معنى التوقير محل معنى الحُرمة على الاتّساع.

وفي النتيجة يكون معنى «حضرة المحترم» هو «العظيم الموقّر» أو «عظمة الموقّر»، لكنّ العبارة ابتُذلت في الاستعمال الإداريّ والتراسل، وحتى في الحديث اليوميّ، فصارت تقال لكل إنسان، تقريبا، مهما علا أو دنا شأنه؛ فهي رَوْسم لا بدّ من أن يتقدّم جزء منه الاسم ويتأخر عنه جزء آخر. ولذلك لم تعد تليق بالكبار، فاستُعمل لهم رواسم أخرى، تصحب ذلك الروسم أو تستقل عنه .

إنّها ظاهرة لغويّة طبيعيّة وعامّة، في جميع اللغات التي نعرف؛ فهناك عبارات يعدّها اللغويّون من الأخطاء، وربّما تنكّبوا عنها؛ لكنّها تشيع في الاستعمال شيوعا يهجم على خواطرهم، فينشأ في نفوسهم صراع بين اللغة المعاصرة المعبّرة عن أسلوب زمنهم، لكن غير المعترف بها؛ واللغة القديمة المعترف بها، والمعبِّرة أحيانا عن أسلوب القدماء؛ وكثيرا ما يرضخون لمقتضيات التطوّر ويختارون الكلمة المعاصرة، وقد يفوقهم رضوخا المنشئون من الأدباء والشعراء ورجال العلم، فيعرّضون جنوبهم لسهام المتشدّدين، ولأصحاب «قلْ ولا تقلْ»، لكنّ حياة اللغة تتغلب في النهاية.

 

مصطفى الجوزو