جمال العربية

جمال العربية

عندما هتف حافظ إبراهيم شاعر النيل:
لمصرَ أَمْ لربوعِ الشامِ تنتسبُ؟

لم يكن التوجه العربي أو العروبي مصادفة في شعر أحمد شوقي أمير الشعراء، أو شعر حافظ إبراهيم شاعر النيل، وإنما كان تجسيدًا للهوية وتعبيرًا عن الانتماء للثقافة العربية، ووعيًا مبكرًا بوحدة المصير العربي، من قبل أن تتبنى مصر الرسمية هذا الاتجاه في مستهل الخمسينيات بعقود طويلة من الزمان، إيمانًا بهذا الكيان الثقافي الحضاري الذي تنتمي إليه شعوب الوطن العربي، في سعيها إلى التحرر والحرية وتحقيق المصير المشترك، وبخاصة العلاقة الحميمة بين مصر والشام.

وإذا كان شعر شوقي قد اتسع لإبداعه العظيم دفاعًا عن الثورة العربية في سورية ضد الاستعمار الفرنسي، والثورة الليبية ضد الاستعمار الإيطالي، فقد اتسع شعر حافظ - بدوره - للعديد من القضايا القومية العربية، والمواقف التي عبّرت عن صدق التلاقي بين الأدباء والمفكرين والمبدعين العرب، في القاهرة ودمشق وبيروت، حيث كان يلقى من التكريم لشاعريته ما يفجّر الدموع في عينيه، وهو الذي ارتجل هذين البيتين في مناسبة تكريم المجمع العلمي العربي له في دمشق (مجمع اللغة العربية الآن):

شكرتُ جميلَ صنْعكمو بدمعي ودمع العين مقياسُ الشعورِ
لأول مرة قد ذاق جفْني على ما ذاقه دمع السّرورِ


هذا الموقف العروبي، وهذه النزعة القومية المبكرة، كانت وراء الحكم النقدي الذي أصدره الدكتور طه حسين على كل من شوقي وحافظ في كتابه «حافظ وشوقي»، وهو يقول: «كلا الشاعرين قد رفع لمصر مجدا بعيدًا في السماء، وكلا الشاعرين قد غذّى قلب الشرق العربي نصف قرن أو ما يقرب من نصف قرن بأحسن الغذاء. وكلا الشاعرين قد أحيا الشعر العربي وردّ إليه نشاطه ونضرته ورواءه، وكلا الشاعرين قد مهّد أحسن تمهيد للنهضة الشعرية المقبلة، التي لابدّ من أن تُقبل. هما أشعر أهل الشرق العربي منذ مات المتنبي وأبو العلاء، هما ختام هذه الحياة الأدبية الطويلة الباهرة التي بدأت في نجد، وانتهت في القاهرة، وعاشت خمسة عشر قرنًا، والتي ستستحيل وتتطور وتستقبل لونًا جديدًا من ألوان الفن، وضربًا جديدًا من ضروب المثل العليا في الشعر. هما أشعر العرب في عصرهما، ولكن أيهما أشعر من صاحبه؟».

ولنا أن نتأمل عدد المرات التي ترددت فيها كلمة «العربي» و«العرب»، في هذه الشهادة الأدبية لطه حسين، لندرك مدى ارتباط الاسمين معًا: شوقي وحافظ بالتوجه القومي العربي قرابة نصف قرن من الإبداع الشعري.

لقد كانت الوحدة العربية هاجسًا يشغل الشاعرين معًا، وكثيرًا ما اختلط مفهومها - في شعرهما - بمفهوم الوحدة الإسلامية، وركّز حافظ على علاقة الشاميين والمصريين، والدعوة إلى الإخاء بين الشعوب العربية والقضاء على مَن يبذر بذور البغضاء، ووحدة الشرق وتعاونه وتبادل الخيرات والمنافع بين أجزائه، ولم يكن لـ«الشرق» من معنى في شعر حافظ وشوقي إلا معنى العالم العربي أو الوطن العربي. من هنا كان هذا الشعر - كما قال أحمد أمين في تقديمه لديوان حافظ - مقربا للقلوب، داعيا إلى ائتلاف الشعوب. ينتهز لذلك كل فرصة، كافتتاح السكة الحديدية الحجازية، وهذه القصيدة الشهيرة التي تردّدت على كل لسان، واهتمت بها المحافل والدوائر الأدبية، منذ أبدعها حافظ إبراهيم في مناسبة الحفل الذي أقامه جماعة من السوريين بفندق شبرد في القاهرة تكريمًا لحافظ ونَفَسه الشعري العروبي، وقد نشرت القصيدة في الخامس والعشرين من شهر مارس سنة 1908، وحملت هذا العنوان اللافت: «سورية ومصر». وهي تأكيد لهذا الاتجاه القومي في شعره، وانعطاف نحو الدائرة العربية التي كان حافظ يرى في شعره امتدادًا وظلاً لها. لذا، لم يكن غريبًا أن يصبح كثير من أبيات هذه القصيدة مجال استشهاد وإنشاد في مناسبات وملتقيات عربية شتى، فقد أفصح حافظ - بشعره الناصع العبارة والتركيب، ولغته الواضحة المُسدّدة إلى الهدف، وطريقته الفذة في إحكام المعنى والدلالة - عن كل ما يجول في وجدان المصري والعربي، وعن الأواصر والروابط التاريخية العريقة، التي تقوم عليها عروة وُثقى لا تنفصم.

يقول حافظ إبراهيم:

لمصرَ أم لربوع الشام تنتسبُ؟ هنا العلا، وهناك المجد والحسبُ
ركنانِ للشرق، لازالت ربوعهما قلب الهلال عليها خافقٌ يجبُ
خِدْران للضادِ، لم تُهتك سُتورهما ولا تحوّل عن مغناهما الأدبُ
أمُّ اللغاتِ غداة الفخر أُمُّهما وإنْ سألْتَ عن الآباءِ فالعربُ
أيرغبانِ عن الحسنى وبينهما في رائعات المعالي ذلك النّسبُ؟
ولا يمُتّان بالقربى، وبينهما تلك القرابةُ، لم يُقطعْ لها سببُ؟
إذا ألمّت بوادي النيل نازلةٌ باتت لها راسيات الشامِ تضطربُ
وإن دعا في ثرى الأهرامِ ذو ألمٍ أجابه في ذُرا لبنان مُنتحبُ
لو أخلص النيل والأردنُ وُدّّهما تصافحت منهما الأمواهُ والعشبُ
بالوادييْن تمشى الفخر مشْيتهُ يحفُّ ناحيتيْه الجودُ والدأبُ
فسالَ هذا سخاءً دونه دِيمٌ وسال هذا مضاءً دونه القضبُ
نسيم لبنان كم جادتْك عاطرةٌ من الرياض، وكم حيّاك مُنسكبُ
في الشرق والغرب أنفاسٌ مُسعّرة تهفو إليك، وأكبادٌ بها لَهبُ
لولا طلابُ العلا لم يبتغوا بدلاً من طِيبِ ريّاك، لكنّ العُلاَ تعبُ
كم غادةٍ بربوع الشام باكيةٍ على أليفٍ لها يرمي به الطّلبُ
يمضي، ولا حيلةٌ إلا عزيمتهُ وينثني، وحُلاهُ المجدُ والذهبُ
يكُرُّ صرْفُ الليالي عنه مُنقلبًا وعزمهُ ليس يدري كيف ينقلبُ
بأرض «كولمب» أبطال غطارفةٌ أُسْدٌ جياعٌ، إذا ما وُوثبوا وثبوا
لم يحْمهم علمٌ فيها ولا عُددٌ سوى مضاءٍ، تحامى وِرْدهُ النّوبُ
أُسطولهم أمل في البحر مُرتحلُ وجيشهم عمل في البرِّ مُغتربُ
لهم بكلّ خِضمٍّ مَسْربٌ نهجٌ وفي ذرا كُلّ طوْدٍ مَسلكٌ عَجبُ
لم تبْدُ بارقة في أُفْقِ مُنتِجعٍ إلا وكان لها بالشام مُرتقبُ
ما عابهم أنهم في الأرض قد نُثروا فالشهْبُ منثورةٌ مُذْ كانت الشُّهُبُ
ولم يَضرْهم سُراءٌ في مناكبها فكلُّ حيِّ له في الكوْنِ مُضْطَربُ
رادوا المناهل في الدنيا، ولو وجدوا إلى المجرّة ركْبًا صاعدًا ركبوا
أو قيل في الشمس للراجين مُنْتجعٌ مدّوا لها سببًا في الجوِّ وانتدبوا
سعوْا إلى الكسْب محمودًا، وما فتئتْ أُمُّ اللغاتِ بذاك السعْي تكتسبُ
فأين كان الشآميون، كان لها عيشٌ جديد، وفضل ليس يحتجبُ
هذي يدي عن بني مصر تصافحكم فصافحوها، تُصافح نَفْسَها العربُ
فما الكنانةُ إلا الشامُ، عاج على رُبوعها من بنيها سادةٌ نُجبُ
لولا رجال تغالوْا في سياستهم منّا ومنهم لما لمنا ولا عتبوا
إن يكتبوا لي ذنبًا في مودّتهم فإنما الفخرُ في الذنب الذي كتبوا!


يرتفع شاعر النيل حافظ إبراهيم في هذه القصيدة البديعة عن حيّز المناسبة التي جمعت في حفل تكريمه بين جماعة من السوريين والمصريين، ليُطلّ على المشهد العربي كلّه، وكأنه ناطق بلسان حاله، ونفَسُه العروبيّ يُمدّه ويُلهمه بما ينبغي أن يُقال، وصولاً إلى بيته العظيم الصياغة والتأثير:

هذي يدي عن بني مصرٍ تُصافحكم فصافحوها، تُصافحُ نفسها العربُ


ثم لا يفوته، وهو الناطق المبدع بالعربية، التي تجمع الشمل، وتُعبّر عن ثقافة الأمة وحضارتها، أن يلتفت إلى «أم اللغات» كما يسميها، وكيف أنها اغتنت واتسعت رقعتها وازدهرت مجاليِها بفضل الذين هاجروا ونشروها في كل مكان من العالم، من السوريين واللبنانيين وغيرهم، هم أفادوا واكتسبوا، ولغتهم - أمّ اللغات - أفادت بدورها واكتسبت، وهو فهم ناصع لحقيقة الدور الذي قام به المهجريون والمغتربون في إثراء اللغة العربية وأدبها الحافل بالجديد في كل أرض وفي كل زمان. يقول حافظ مشيرًا إلى هذا الدور:

سَعوْا إلى الكسب محمودًا وما فتئتْ «أمُّ اللغات» بذاك السّعْي تكتسبُ
فأين كان الشآميون، كان لها عيش جديد وفضل ليس يحتجبُ


بل إنه وهو يدعو إلى تعضيد مشروع الجامعة المصرية - وهو مجرد مشروع مصري - يرى فيه انطلاقة لنهضة عربية، ويدرك بوعيه العروبي أنه ليس من أجل مصر وحدها، ولكن بمثله ينبعث مجد العرب من جديد كما كان في أزمنة وعهود قديمة زاهرة، عندما يقول:

حياكمو الله، أحيوا العلم والأدب إن تنشروا العلم، ينشُرْ فيكمو «العربُ»


هكذا كان التوجّه، وهكذا كان النَّفَس القومي العربي، ملمحًا متوهجًا في شعر حافظ إبراهيم، كما كان متألقًا في شعر أحمد شوقي.

لأَخرُجَـنَّ مِـنَ الدُنيـا وَحُبُّكُـمُ بَينَ الجَوانِحِ لَم يَشعُر بِـهِ أَحَـدُ
أَلفَيتُ بَيني وَبَيـنَ الهَـمِّ مَعرِفَـةً لا تَنقَضي أَبَداً أَو يَنقَضي الأَبَـدُ
حَسبي بِأَن تَعلَموا أَن قَدأَحَبَّكُـمُ قَلبي وَأَن تَسمَعوا صَوتَ الَّذي أَجِدُ


العباس بن الأحنف

 

فاروق شوشة