إلى أن نلتقي

إلى أن نلتقي

ظلال الزيتون

قبل سنوات زرت واحة «سيوة» لمهمة صحفية، فأخبروني بأن لديهم مشهدا يأتيه الناس من أنحاء العالم.

«أجمل غروب في الدنيا»، على بحيرة كوّنتها مياه الآبار، تحفّها «نخلة مائلة» نحو الشمس، كأنما تودعها فتجعله حنوناً حميما.

في الطريق إليه مررنا ببستان زيتون !

رأيته نائما تحت شجرة .. فاستوقفتني هالته المهيبة !

رجل في جلباب فضفاض أبيض، يعتمر عمامة بيضاء، يتوسد كفّيه، وينعس في دِعةِ، ويتنفس باطمئنان رضيع، وشعاع من بين الأوراق يزيد بهاء وجهه!

بدا خارجا لتوه من حلم!

أفاق على وقع أقدامنا الخفيف،وحفيف ملابسنا بأطراف الغصون، وجلس مبتسما كمن يترقب وصولنا، ولم يسألنا عن شيء، فقد اعتاد مرور «ضيوف المغيب» من أرضه، وهو يبتسم لكل العابرين،.. فقط.. يوصيهم بحياء علي أغصان زيتونه.

لم يمانع أن نجالسه قليلا، ولم يبد دهشة حين عرف من نحن، وأجاب عن أسئلتي بعذوبة وحياد.

كان أبوه يمتلك تجارة رائجة وبساتين، وشيخ قبيلة مستنيرا، أراد لابنه أن يرتقي العلم لأعلي مراحله، وكان وقتها سلوكا غريبا علي واحة في عمق الصحراء، وظل يشجّعه إلى أن وصل كلية فيكتوريا بالإسكندرية.

دُفعَته كانت تضم عددا من الأعلام، أشهرهم الملك حسين عاهل الأردن الراحل، والفنان عمر الشريف، وكانت علاقته طيبة بالجميع، وكان الوحيد بينهم الذي يبذل جهدا كبيرا ليصل إلى الكلية، يقضي نحو ثلاثة أيام في طريق غير مُعبّدة من سيوة إلى مرسى مطروح، بين ركوب الدواب، والمشي لمسافات طويلة، وما تيسر من المواصلات.

توفي والده وهو في السنة الثالثة من الكلية فترك الدراسة مُجبرا ليتولي مسئولياته، ومن لحظتها توثقت علاقته بأشجار الزيتون. ظل والده يملأ عليه مُخيّلته، فتذكر بتبجيل مجلسه القديم تحت الشجر في موسم الحصاد، والزيتون يتكوم أمامه، وتدور به المعاصر، فيملأ النفوس رضا، والدور بهجة وكرما.

حين علم أن الملك حسين اعتلى عرش الأردن لم يفعل غير الدعاء له «براحة البال»!

وقت حديثنا هذا.. كان ملك الأردن يفاوض الإسرائيليين بكل ما اشتهروا به من مراوغة ومغالطات، ولا يدري أحد إلام انتهوا يقينا، نعم.. كانت «وادي عربة»، لكن من يعرف ما هي؟! فلم نر بعدها - هي وكامب ديفيد الأولي - غير دأب الصهاينة على اقتلاع شجر الزيتون وسحق أغصانه، وإقامة مستوطناتهم على جذوره !

التفتُ خلفي قبل أن تخفيه عني الأشجار، فرأيته يتوضأ لصلاة المغرب، وعند الشجرة المائلة، كنت مسكوناً بالطمأنينة التي ينعم بها.. وضاعف المغيب غيوم الأسى.

للآن.. تخايلني هالته بإلحاح، مع تواتر مواجع العراق، وفواجع فلسطين، وحيرة لبنان المتصاعدة، فأتساءل عن «راحة البال» تلك، التي دعا بها لزميل دراسته الذي افتقدها إلى أن مات، ولن يطالها كل الذين يشاهدون اغتيال الأشجار دون أن يرفّ لهم جفن، لأن قلوبهم لم تُحسّ مرة بهجة حصاد الزيتون، وفرحة دوران المعاصر وامتلاء الجِرَار بالزيت، فهذي المعاني تُحصّن الوطن في وجدان أصحاب الأرض والشجر.

أَنّى يدركوها وهم لم ينعموا يوما بنومة آمنة في ظلالها ؟!.

 

أسامة الرحيمي