الملف الاقتصادي العرب وأزمة الاقتصاد العالمي: عالمنا المأزوم . . . إلى أين نسير؟

الملف الاقتصادي العرب وأزمة الاقتصاد العالمي: عالمنا المأزوم . . . إلى أين نسير؟

برغم أن النظام الرأسمالي قد أعلن انتصاره، لدرجة أن بعض المفكرين قد أكدو أن نهاية التاريخ قد حانت وأنه لم يعد سوى طريق واحد تسير فيه البشرية فإن الاقتصاد العالمي يتعرض لحجم مخيف من الفوضى لم نشهد له مثيلا من قبل. فالأزمات الإقليمية قد تداخلت أطرافها وأصبحت تشكل ملامح أزمة تهدد العالم كله، و"العربي من خلال هذه الملف تطرح أسئلتها الجوهرية عن أسباب هذه الأزمة، وهل هي مؤقتة أو دائمة، وما هو نصيب عالمنا العربي منها. وأين منزلة النفط العربي منهان وهل نملك نحن كعرب أي رؤية مستقبلية للخروج من وهدتها؟ ولأهمية الموضوع فقد استكتبنا خمسة من المهتمين العرب بالشأن الاقتصادي والاجتماعي لتشخيص الأزمة وطرح الحلول مساهمة من "العربي" في فتح هذه القضية عبر صفحاتها.

التنمية العربية في مواجهة التحولات الاقتصادية العالمية

يواجه الاقتصاد العالمي في المشهد الأخير من القرن العشرين تحولات اقتصادية بالغة الأهمية، تنجم عنها تارة قفزات هائلة نحو وضع يتسم بالإنتاجية والرخاء، وتتسبب تارة في اختلالات اقتصادية وتوترات اجتماعية وتقلبات مالية. وما الأزمة المالية الأخيرة التي هزت دول جنوب شرق آسيا إلا مظهر من مظاهر هذه التحولات، بدت وكأنها من أخطر التحديات التي شاهدها العالم في النصف الأخير من هذا القرن.

ويزيد من خطررة التقلبات المالية العالمية التي نجمت عن الأزمة التي عاشتها بلدان جنوب شرق آسيا أنها تتزامن مع تغيرات دولية وإقليمية هائلة، تفرضها ظاهرة والتحرير الاقتصادي، بكل ما تتسبب فيه من تغيير جذري في كثيرمن المفاهيم الاقتصادية التقليدية السائدة، وترسيخ أعمق لقوى السوق، وترابط أكثر في النشاطات الاقتصادية التي تغطي أوصال العالم كله، وتدقع مستوى التبادل التجاري وانتقال رأس المال، وتزيد من تحرير الأسواق وانفتاحها.

إن العالم تغير تغيرا جذريًا وبسرعة فائقة منذ منتصف الثمانينيات، فمن كان يتصور أن ينهار الاتحاد السوفييتي وينتهي نظام التمييز العنصري في جنوب إفريقيا؟ وأن يتسع اقتصاد السوق إلى كل أنحاء المعمورة؟ وأن يتمكن الإنسان من إنجاز معجزات مثل بلوغ المريخ واستنسناخ الأحياء وأداءعمله دون أن يتحرك من مكانه؟ ولا يهدد هذا التغيير مسيرة العرب. بل بالعكس، المرجح هو أن يستفيد العرب من انتعاش الاقتصاد العالمي، وتعميم آليات السوق، وإلزالة الحواجز العائقة للتبادل الخارجي، واستتباب الأمن والسلام في منطقة الشرف الأوسط.

ولا شك في أن هذه التغيرات الدولية التي تفرضها العولمة من شأنها أن تعمل على تغيير طبيعة عمل الاقتصاد العالمي وأن تساعد على تلاشي حواجز المكان والمسافات جغرافيا، مع ما يعنيه ذلك من تزايد في حدة التأثير والتأثر بانعكاسات تداعيات الأزمة المالية والاقتصادية، وسرعة انتشارها. ومن صالح كل الدول أن تندمج في هذا التيار، إذ ان العولمة وضع قائم لا يمكن تغييره. فهو يستمد قواعده من تطورات تقانية متسارعة تتجاوز قدرات الدول المنعزلة والمنكفئة على ذاتها مهما كانت قوتها ومنزلتها الاقتصادية. إلا أن اندماج هذه الدول في مسيرة العولمة يمكنها من التأثير فيها وجني المكاسب والمنافع منها.

وأمام هذه التحولات والتقلبات والأزمات، يجدر بالوطن العربي أن يتساءل بجدية وإيجابية عن مدى إمكانية تأثره بما يحدث على الساحة الاقتصادية العالمية، وعن قدرة التنمية العربية على حماية الشعوب والأفراد من تدهور أوضاعها، وعلى مقاومة وتجنب تداعيات أزمات المستقبل، إذ ان من طبيعة تطور المجتمعات البشرية أن تتأرجح بين التقدم السريع والأزمات الحادة.

بين حتمية الانفتاح وشبح الأزمات

تزامن مع امتداد تحولات العولمة في عقد التسعينيات ظهور أزمات مالية عميقة شهدها الاقتصاد العالمي في المكسيك "1994 و1995" وجنوب شرق آسيا "1997" وروسيا "1998"، تمثلت في مجملها بنزوح الاستثمارات غير المباشرة، والتوظيفات الأخرى في الدول المعنية، وانخفاض أسعار عملات وأسعار أسهم وسندات هذه الدول، وكذلك انخفاض في احتياطات مصارفها المركزية من العملات الأجنبية، وحدوث إفلاسات مالية عديدة فيها.

وقد أخذت هذه الأزمات منحى عالميا، وعمت تداعياتها وانعكاساتها الأسواق الناشئة، وأسواق الأسهم الأوربية والأمريكية، ولا تزال تداعيات الأزمة المالية التي عمت دول جنوب شرق آسيا في العام الماضي تتفاقم في نهاية العام الحالي، فاليابان تمر بمرحلة ركود خانقة، كما أن الانهيار الاقتصادي والمالي والتنظيمي الذي تعيشه روسيا ساعد في تفاقم الأزمة وزاد في توسعها إلى كل اقتصادات العالم. وتراجعت أسعار الأسهم والسندات في كثير من الأسواق الناشئة وبخاصة في أمريكا اللاتينية، وتعرضت كل الأسواق المالية إلى الانهيار، والكثير من الشركات إلى الإفلاس.

ولم تتأثر الأسواق المالية العربية بصفة مباشرة بالأزمة المالية العالمية وذلك ليس لأن اقتصاداتها قوية ومحصنة من الأزمات، بل لأنها منعزلة عن العالم المحيط، ولم تتفاعل مع العولمة بقدر كاف طيلة السنوات الماضية، مما أدى إلى محدودية التفاعلات الاقتصادية والعلاقات التي تربط الدولة العربية بالدول المعنية بالأزمات المالية، إضافة إلى أن في الدول العربية ليست جزء مؤثرًا في النظام المالي العالمي، خاصة أن الأزمات موضوع البحث قد نشأت كمشاكل مالية في كثير من الأحوال، نتيجة للتوسع الإئتماني المفرط في السنوات الماضية، والافتقار إلى الرقابة الإشرافية المالية، وظهور أزمة ثقة سادت الأسواق المالية، وأدت إلى هروب المستثمرين، كما اتضح في الاضطرابات التي حدثت في الأسواق المالية لجنوب شرق آسيا.

هذا وقد استفادت الدول العربية من انخفاض نسبة الإقراض قصيرالأجل بالعملات الأجنبية فيها، إذ لا يزال تمويل العجز فيالموازين الداخلية لأكثر الدول العربية يتم عن طريق الاقتراض من الداخل مقوما بالعملات المحلية بعكس دول جنوب شرق آسيا، حيث تم الاقتراض فيها بالدولار من المصارف الخارجية.

وساهمت طبيعة وتوجيهات التجارة الخارجية العربية في حماية الدول من التعرض إلى هزات عنيفة مثل التي أصابت دول جنوب شرقي آسيا، إذ يحتكر الاتحاد الأوربي حوالي ثلثي التجارة الخارجية المغاربية، و44% من تجارة مصر، وأكثر من ثلث تجارة بقية الدول العربية. ولأن أوربا لم تتأثر مباشرة بالعاصفة المالية الآسيوية، فقد تمكنت الدولا لعربية من تجنب مخاطر انعكاسات الأزمة بفضل صلابة اقتصادات الدول التي تتعامل معها بالأكثر، إن كانت بعض الأسواق المالية فيها قد أبدت تأثرًا.

إلا أن الأزمة المالية الحالية، إن اشتدت آثارها لفترات طويلة، قد تؤدي إلى ركود اقتصادي في آسيا وفي العالم لا يمكن لأي دولة عربية أن تتملص من آثاره السلبية. وسوف تكون الدول العربية كلها معرضة لتراجع صادراتها، خاصة الصادرات النفطية لدول جنوب شرق آسيا اتي تستقطب نسبة مهمة من الصادرات العربية النفطية. وفي هذه الحالة ستواجه الدول المصدرة للنفط وضعا صعبا بسبب مواصلة تراجع الأسعار والكميات المطلوبة.

في مواجهة التحديات

إن محدودية تأثر الدول العربية بالأزمة الراهن للاقتصاد العالمي، لا تعطيها بالضرورة مناعة وحماية من آثار أي تقلبات وأزمات اقتصادية جديدة حادة قد تنجم في العقود القادمة. ويتوقع أن يتسم الاقتصاد العالمي في القرن الجديد بنسق سريع من التحولات والابتكارات ودرجات عالية من التشعب والتعقيد. ولن يقتصر ذلك على الأسواق المالية المتأثرة أكثر من غيرها بالعولمة، سيشمل كذلك المواصلات والاتصالات وتنظيم عمليات الانتاج. فهل الاقتصاد العربي قادر على استيعاب التغيير ومسايرة الحركة والانصهار فيما أصبح عالما موحدا مفتوحا وإن كانت أحواله متقلبة.

صحيح أن كل الدول العربية حققت تقدما كبيرا خلال العقود الثلاثة السابقة يمكنها الآن من مواجهة تحديات العالم بقوة أكبر وكفاءة أعلى. فقد أنشئت البني التحتية وتطور الإنتاج الاقتصادي، وقويت البني الاجتماعية وتحسن وضع الإنسان العربي. إلا أن إنجازات التنمية العربية تبقى متواضعة في أبعادها وآثارها مقارنة بحجم التحديات القادمة والتقلبات الممكنة. فقد كان من شأن التطورات العالمية، وبصفة خاصة في سوق النفط، أن تراجعت نسب النمو الاقتصادي الحقيقي في الثمانينيات والتسعينيات في الكثير من الدول العربية، ولم تعادل في بعض الأحيان نسبة النمو السكاني. وعلى ضوء التغيرات الهيكلية الواجب إدخالها في الاقتصادات العربية، حيث مازالت هذه الاقتصادات تتسم بدلالات خطيرة تعكس ضعف البنية الصناعية وقطاعات الإنتاج، وانخفاض الإنتاجية، وبطء عملية التصنيع، وتركيز الإنتاج في سلع وخدمات لا تتمتع أغلبها بالقدرة على منافسة السلع الأجنبية، فإن دعم وتسريع مسيرة التنمية يبدو ضروريا وملحا إذا أردنا حماية الوطن العربي من وبال الأزمات الاقتصادية العالمية القادمة.

إن التنمية العربية تواجه تحديات كثيرة وخطيرة. يتوقع أن تشتد حرتها تتكاثر انعكاساتها السلبية على مجمل الحياة العربية وعلى تشكيل مستقبل التنمية العربية في القرن الواحد والعشرين. ومن بين التحديات الخطيرة التي تواجهها الدول العربية داخليا ما هو مرتبط بانخفاض الموارد المائية وسرعة زيادة السكان وعدم اشباع الحاجات الأساسية لغالبية السكان واستفحال آفة البطالة والفقر.

ومن التحديات الكثيرة الأخرى التي يواجهها العرب من الخارج ما يتعلق بمواكبة التطورات التقنية والعلمية وبالالتزام بمتطلبات حماية البيئة، وبخاصة إذا أرادوا ولوج الأسواق العالمية. فإن التقدم الذي يحصل يوميا في ميادين النقل والمواصلات، ومجالات الفضاء الكوني والهندسة الوراثية، وطرق تنظيم المؤسسات وتشغيل العمالة لا يترك المجال للتباطؤ والتأني. فالتأقلم السريع صار ضرورة حياتية، لا يمكن لأي مجتمع أن يبقى دائما ومتحركا من دونها.

ويواجه العالم العبي تحديات أخرى تتمثل في تعزيز التكتلات الإقليمية، وتغيير شبكة العلاقات الاقتصادية الدولية، والسرعة المذهلة في ظهور المنتجات التقانية الجديدة المتطورة، واطراد ظاهرة تدويل الإنتاج وتحرير التجارة والخدمات والأسواق المالية. ويتوقع اشتداد حركة الضغوط العالمية في القرن نحو زيادة حدة المنافسة في السوق الدولية، واتساع دائرة اندماج الاقتصادات الوطنية تحت مظلة العولمة التي ستزداد تجلياته وتحولاتها في حقول التجارة والاستثمارات المباشرة وانتقال الأموال والقوى العاملة والثقافة والتقانة ضمن إطار واسع من حرية الأسواق.

لا يمكن للدول العربية، أو لأي دولة في العالم، أن تحمي اقتصادها ومجتمعها من الأزمات الدائمة التجدد إن لم تقوِّ هياكلها، وتسرع نسق تنميتها وتدعم أزاصر الصلة بينها وبين أهم اقرب إليها جغرافيا واجتماعيا وتاريخيا. ولهذا، فإن تحقيق تنمية عربية متكاملة، تتصف بدرجة عالية من الدينامية في مضمونها ومحدداتها وآلياتها، هو الدرع الوحيد لتفادي الانعكاسات السلبية للاندماج في الاقتصاد العالمي. ولهذه التنمية متطلبات وأولويات على الصعيدين القطري والقومي.

من أجل تنمية متكاملة

فعلى الصعيد القطري، هناك متطلبات كثيرة للتنمية تكمن في القدرة على استيعاب التقانة الجديدة، بما فيها تنظيم الإدارة والمؤسسات وإدارة الأعمال والمجتمعات، وتنمية القدرات البشرية التي لها مهم لتحقيق أفضل استخدام للموارد المتاحة وأحسن استغلال للثروات الموجودة.

كما يندرج تحت هذه المتطلبات مواصلة الإصلاحات الاقتصادية التي قامت بها بعض الدول العربية خلال السنوات الماضية، لأن من شأن هذه الإصطلاحات تصحيح الاختلالات الهيكلية للدول العربية، بما يساعد على حفز الادخار، وترشيد استخدامات الموارد ومعالجة الفاقد منها، وتخفيض عجوزات الموازنات العامة، واسترجاع قدراتها الإنمائية، وإفساح المجال لقوى السوق لخلق ظروف أكثر واقعية لأداء عوامل الإنتاج، وإحداث تشابكات ما بين الأسواق العربية بما يمكن من تحقيق معدلات مقبولة للنمو، تمكن من تحديث القطاعات الإنتاجية وتحسين مستوى المعيشة للمواطنين. وتجدر الإشارة في هذه المضمار إلى أن لهذه الإجراءات الإصطلاحية أبعادها المتصلة بنواح كثيرة، مؤسسية وقانونية وتنظيمية وإدارية، لابد من إطلاحها أيضا للقضاء على البيروقراطية والترهل الإداري، والتشابك ما بين القوانين.

لقد حققت العديد من الدول العربية نتائج إيجابية في إطار برامجها التصحيحية، انعكست في انخفاض العجز الكلي للموازناتن وأجراء تغيرات نوعية في حجم وهيكل الصادرات، وانخفاض معدل التضخم، واستقرار سعر الصرف، وارتفاع الاحتياطيات الخارجية، وغيرها من النتائج الأخرى. ويتوقع مع استمرارية البرامج التصحيحية أن تتمكن الدول العربية من إزالة التشوهات التي تكتنف اقتصادها، وإيجاد بيئة أكثر استقرارا على مستوى الاقتصاد الكلي مواتية لدفع حركة التنمية وتحقيق النمو القابل للاستمرار.

كما ستتمكن من تحرير انتقال رءوس الأموال الذي أصبح ضروريا بالتنمية في المدى القصير. فتسهيل انسيابها ما بين الدول العربية يحد من هروبها للخارج. وهذه يستدعي تطوير أسواق رأس المال العربية ومراقبتها من قبل هيئات مستقلة غير مرتبطة بالبنوك المركزية أو الهيئات الحكوميةن مع العمل الجاد على ربطها فيما بينها بهدف توسيعها، مع مضاعفة الجهود العربية لإنشاء سوق مالية إقليمية تتميز بالعمق والإفصاح المالي والشفافية والقدرة على مواجهة تحديات التمويل الدولية، وتجنب المشاكل الناجمة عن صغر وضيق الأسواق المحلية المحدودة، والمساعدة على توفير قدرة إصدار أكبر للمؤسسات المالية العربية، وزيادة الاستفادة من الموارد المالية المتزافرة على مستوى الدول العربية.

ومن متطلبات التنمية السريعة المتكاملة أيضًا دعم وتطوير القطاع الخاص إذ أن هذا القطاع مدعو لن يلعب الدور الأساسي في استراتيجيات التنمية في العقود القادمة، على غرار ما يحدث في العالم كله، وعلى ضوء التحرر والانفتاح الاقتصادي، والاستجابة لمتطلبات العولمة. ومثلما أحدث التخطيط تحولاً نوعيًا أدى إلى إسراع النمو في الستينيات والسبعينيات، من المتوقع أن تحدث الخصخصة وتحرير السوق هزة مماثلة تؤدي إلى التحول إلى درجة أعلى في مسيرة التنمية. إلا أن القطاع الخاص لا يزال يشكو في الوطن العربي من نقائص واختلالات عديدة تتمثل أساسا في صغر حجم وحداته، وثقل مديونيتها، وضعف إنتاجيتها، وانكفائها على نفسها وعدم تفتحها على محيطها، وضآلة قدرتها بالتجديد والخلق والإبداع، واعتمادها في نشاطها ومبادرتها على الحماية عوض المخاطرة، وتفضيلها للتنظيمات الهرمية العسكرية على الشبكية التي تتساوى فيها الأدوار والمسئوليات، وتكثر فيها المبدرات والمساهمات. لا تتماشى هذه البنية الهيكلية والتقاليد الإدارية والتنظيمية مع متطلبات العولة والثورة المعلوماتية والإلكترونية ومع ضرورة تنمية الإنتاجية والكفاءة التنافسية. كما أنه لم يعد بقدرة أحد أن يوقف عجلة الانفتاح والاندماج، أو أن يقلص من حدة المنافسة والمزاحمة.

وتجدر الإشارة هنا إلى ظهور المؤسسة العربية الخاصة في وقتنا الحاضر، القادرة على التعامل على الساحة الوطنية والعالمية. ففي جميع الميادين ومختلف الأنشطة، من الإعلام إلى المال، ومن الصناعة إلى الزراعة، ومن الخدمات إلى السياحة، برز رجال أعمال عرب ذوو مهارة راقية وثقل عالمي. وليست هذه الظاهرة ظرفية، إذ تتعدد وتتوسع عمليات الخصخصة، وتتراكم الأموال، وتتداول الأجيال. وبدأت تظهر القوى القادرة على أنجاز المشاريع المشتركة والتي لا تخيفها ولاتعوقها الحدود القطرية ولا مآرب الأنظمة السياسية، يساعدها في تعميم اقتصادات السوق في كل الدول العربية التي تحاول أن تندمج في الاقتصاد العالمي فبعد أن انزوت عدة دول عربية واعتزلت وانكفأت على نفسها، وخرجت من الاتحادات الجمركية والنقدية التي كانت تنتمي إليها، وأممت المؤسسات الأجنبية ومنعت الملكية لغير مواطنيها، ها هي الآن، ومنذ بداية التسعينيات، تجذب الاستثمار الأجنبي، وتمنحه امتيازات لا يمكن لمواطنيها أن يحلموا بها. وها هي أيضًا تندفع من دون تريث في إبرام عقود الشراكة مع الذين فارقتهم في الخمسينيات والستينيات.

وهذا توجه على جانب كبير من الأهمية من شأنه أن يقيم شراكة متوازنة ما بين الدول العربية والدول الصناعية المتقدمة، عكس ما كان عليه في الماضي، حيث كانت الشراكة مبنية على أسس استعمالات استهلاكية. ويمكن أن تتم الشراكة الجديدة في مختلف القطاعات المهمة، الإنتاجية وغيرها، بما فيها قطاع النفط في الدول الخليجية وذلك بإقامة مشاريع مشتركة ما بين شركات نفطية خليجية ضخمة لها وزنها وتجاربها الرائدة، كشركة نفط الكويت وشركة أرامكو، مع كبريات شركات النقط العالمية بهدف جذب استثمارات أجنبية ضخمة وتقانة ضرورية لتطوير قطاع النفط، وإقامة صناعات لاحقة للإنتاج، تساعد الدول الخليجية على تنمية وتوزيع مصادر جديدة للدخل، وإيجاد فرص عمل كثيرة للعمالة الوطنية، هي في أشد الحاجة إليها في ظل ظروف الركود الحالية التي تمر بها السوق النفطية العالمية.

التنمية العربية وتكامل الاقتصادات

وعلى المستوى القومي، فمن متطلبات التنمية العربية أن تأخذ الاقتصادات العربية إطاراا تكامليا فيما بينها يمكنها أن تجني منه فوائد كثيرة منها توسيع قاعدتي العرض والطلب العربيين، وتعميق قاعدة التخصص والاستفادة من الميزة النسبية، وترشيد استخدام الموارد، وتعديل الهياكل الإنتاجية العربية، وتحقيق التخصص الأمثل فيا لوطن العربي.

وهذا يتلاءم مع حقائق العصر وطبيعة تحديات الألفية الثالثة التي من شأنها أن تدفع الدول العربية إلى توسيع أطرها الإنمائية التقليدية، وتعميق أنسجتها المتكاملة، وانفتاح بعضها على بعض، لأنه من غير الطبيعي في عالم مفتوح اقتصاديا وماليا، أن تنكفئ الدول العربية في إطار أسواق قطرية ضيقة، يمكن أن تساهم في تهشيمها في ظل تحولات الاندماج الدولية الواسعة.

إن نوعية التطورات التكاملية الكونية التي يشهدها الاقتصاد العالمي على مستوى التنظيم الشبكي للمؤسسات الاقتصادية وتوزيع فروعها ووحداتها حول الكرة الأرضية، الذي قادت إليه ثورة المعلومات والاتصالات، يعوض تدريجيا التنظيمات المبنية على مبدأ مركزية القرار. فإذا تكاثرت وتقرعت وتوزعت مراكز أخذ القرار، حاجز من الحواجز المهمة التي فرقت إلى الآن الكثير من الدول العربية الحريضة على المحافظة على سلطتها على كل المستويات، وخاصة على المستوى الاقتصادي، كما أن تدني كلفة نقل البضائع التي مثلت يفالماضي أحد العوائق الكبيرة لنمو التجارة البينية بين الدول العربية قد يؤدي إلى تكثيف اتبادل التجاري العربي / العربي في إطار منطقة للتجارة الحرة ثم إن تطور طرق الإنتاج وتجزئتها إلأى عمليات صغيرة يمكن توزيعها على أماكن متعددة يعطي عمليات التكامل فعالية أكثر ومعنى من ذي قبل. كل هذه التطورات تدفع الوطن العربي في طريق يؤدي حتما إلى التقارب والتكتمل، وربما الاتحاد.

ويمكننا في هذا الشأن اعتبار إقامة منطقة التجارة الحرة العربية الكبرى التي أقرت عام 6991، قاعدة مهمة للتعامل الاقتصادي العربي الأوسع، إذ ستساهم في تشكيل سوق كبيرة فيها نحو 263 مليون مستهلك عربي، ستساعد على حفز نمو الشركات العربية التي تستطيع الاستفادة من وفرة الإنتاج، وبالتالي خفض التكاليف بفضل إلغاء التعرفات الجمركية، بالإضافة إلى تأثيرها في تسهيل انتقال الأموال والسلع بين الدول العربية، وجذب الاستثمارات البينية والخارجية. ومن الأمثلة التي يجدر ذكرها في هذا الشأن تجربة الاتحاد الأوروبي وتجربة مجلس التعاون لدول الخليج العربية التي حققت حتى الآن إنجازات كبيرة على طريق التكامل ما بين الدول الخليجية.

واستدراكا للدروس السابقة في مجال العمل العربي المشترك، لابد من التأكيد علي ضرورة توافر قدر مناسب من الاستقرار السياسي، والأمن الاجتماعي والسلامة العامة، ووجود مؤسسات المجتمع المدني التي ترتكز على التمتع بالحقوق والحريات السياسية، وتساعد على توسيع المساهمة الشعبية في وضع السياسات العامة ومعالجة الأزمات ومواجهة التحديات المستقبلية، بما في ذلك مشاركة المواطنين العرب من الجنسين على أوسع نطاق في مناقشة وإعداد وتنفيذ ومتابعة وتقييم الخطط والبرامج الإنمائية العربية.

ضرورة توسيع الأطر والانفتاح

وفي هذا السياق، يتوجب في المدى الطويل اكتمال توسع الأطر التقليدية للتنمية العربية، المتمثلة بالنواحي الاستثمارية والإنتاجية والتجارية، لكي تشمل مختلف الجوانب الاجتماعية والإدارية والتنظيمية والسياسية والقانونية بما في ذلك تثبيت دعائم التنمية العادلة والمشاركة الشعبية في صياغتها وتنفيذها مع التأكيد على ضرورة تنمية الموارد البشرية، وحل مشاكل البطالة والفقر، وتحقيق توازن بين احتياجات سوق العمل والمخرجات التعليمية وتحسين الخدمات الصحية والتعليمية والبني التحتية.

كما يتوجب من ناحية ثانية أن تنفتح الدول العربية على العالم المحيط، وتندمج في الاقتصاد العالمي عبر الانضام إلى منظمة التجارة الدولية وصياغة سياسات اقتصادية تتواءم مع توجهات العولمة وإزالة الحواجز التجارية، وذلك من منطلق درء مخاطر الانكفاء على الذات، وتعظيم الفرص التي يمكن أن تتيحها تحولات العولمة في القرن القادم وتداعياتها، بحيث يتم التعامل معها في إطار تصورات عربية واقعية، تسعى الدول العربية من خلالها سعيا جادًا للاستفادة المتبادلة من الإمكانات والموارد المتوافرة لديها، ككتلة إقليمية حيث لا مكان للأسواق الصغيرة في عصر التكتلات الاقتصادية العملاقة، ولا مستقبل للنماذج القطرية الضيقة في الألفية الثالثة.

وختاما فإن المطلوب من الدول العربية لكي تلج الفضاء الرحب للألفية الثالثة أن تعيد صياغة توجهات ومسار التنمية العربيةن بما يساعدها على تجنب الأزمات الاقتصادية العالمية، ومواجهة تحديات المستقبل، وهذا يحتاج إلى توفير بيئة سياسية وأمنية مناسبة ومستقرة، قادرة على إعادة تشكيل الاقتصادات العربية في إطار تكاملي قادر على الاستمرار والتواصل وتحقيق التنمية المتسارعة والمستديمة بما يحقق للأجيال العربية القادمة الرفاهية والأمن والحياة الكريمة.

 

عبداللطيف يوسف الحمد

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات