آليات الفوضى في الاقتصاد العالمي الراهن
آليات الفوضى في الاقتصاد العالمي الراهن
كان الحلم الاقتصادي والاجتماعي الذي سعت إليه مختلف دول العالم في أعقاب الحرب العالمية الثانية- وبغض النظر عن طبيعة النظم الاقتصادية / الاجتماعية التي سادت في هذه الدول آنذاك- هو تحقيق معدل عال للنمو الاقتصادي، وتحقيق مستويات عالية من العمالة ، والوصول إلى أسعار مستقرة وتوازن في العلاقات الاقتصادية الخارجية ، كان هذا هو حلم كل الدول بعد أن سكتت مدافع الحرب وانقشع دخان المعارك الحربية وتطلعت شعوب المعمورة لعهد جديد يسوده السلام وتختفي فيه الفاقة وترتفع فيه مستويات المعيشة، وكانت خريطة العالم الجيوبوليتيكية التي تمخضت عنها هذه الحرب جديدة تماماً بعد اندحارمحورطوكيو/برلين / روما، حيث ظهرت ثلاث مجموعات من الدول ، المجموعة الأولى هي مجموعة البلدان الصناعية الرأسمالية، والمجموعة الثانية هي مجموعة الاشتراكية، والمجموعة الثالثة هي محموعة البلاد النامية حديثة الاستقلال، والتي كانت قبل الحرب مجرد مستعمرات أو شبه مستعمرات أو بلاد تابعة.- وكانت الدلالة التاريخية المهمة لظهور هذه المجموعات الثلاث فى عالم ما بعد الحرب ، هي أن النظام الرأسمالي قد كف عن أن يكون هوالنظام الوحيد العالمي، وفقدت الرأسمالية هيمنتهـا المطلقة على الصعيد العالمي ، واندحر النظام الاستعماري ، وانفتحت بذلك أمام الشعوب طرق جديدة للنمو والتقدم والعلاقات الدولية. ونظراً لتباين هذه المجموعات الثلاث من الدول من حيث درجة تقدمها الاقتصادي والاجتماعي، ومن حيث الوضع النسبي الجديد لها في الاقتصاد العالمي، ومن حيث تباين طبيعة النظم الاقتصادية الاجتماعية السائدة فيها، فإن كل مجموعة من تلك الدول راحت تبحث عن تحقيق هذا الحلم في إطار الفلسفة العامة للنظام الاقتصادي الاجتماعي السائد فيها، وبما تسمح به مواردها وإمكاناتها. وبشكل عام استطاعت هذه المجموعات الثلاث أن تحقق هذا الحلم، وإن كانت بدرجات مختلفة، في عالم مابعد الحرب وحتى بداية السبعينيات، وفي هذا الخصوص لعبت "دولة الرفاه الاجتماعي" في المجموعة الأولى، و"الاشتراكية" في المجموعة الثانية و "أيديولوجية التنمية" في المجموعة الثالثة، أدواراً مهـمة في تحقيق ذاك الحلم، حيث وفرت الآليات اللازمة لضبط حركة النظام الاقتصادي وشروطه الاجتماعية والسياسية، ووضعت تناقضات البنية الداخلية للنظام تحت السيطرة، وضمان حد أدنى من توافق آليات إعادة الإنتاج الموسع. وبالإضافة إلى ما تقدم لعبت البيئة الدولية لعالم ما بعد الحرب دورا لا يقل أهمية في توفير الأسس الضابطة والحافزة لهذا النمو المزدهر الذي ساد هذه المجموعات من الدول والاقتصاد العالمي بصفة عامة ، فعلى الصعيد العالمي لعبت الحرب الباردة والتنافس السلمي بين النظامين الرأسمالي والاشتراكي دورا إيجابيا في هذا النمو في ظل قطبية ثنائية ضبطت موازين القوى والصراعات الدولية خلال تلك الفترة لصالح السلام العالمي ، وفي هذا الخصوص لعبت منظمات الأمم المتحدة دورا لا يجوز التهوين من شأنه وعلى صعيد العلاقات الاقتصادية الدولية وفرت منظمات بريتون وودز "صندوق النقد الدولي، ومجموعة النقد الدولي، واتفاقية الجات" الأطر المواتية لثبات أسعار الصرف وتوفير السيولة الدولية بالمقادير المناسبة، وتشجيع حركة التجارة الدولية تصديراً واستيراداً، واستثماراً، وفي هذا المناخ استطاعت البلاد النامية أن تستفيد من ظروف القطبية الثنائية ومن ازدهار العلاقات الاقتصادية الدولية من خلال ما حصلت عليه من معونات وزيادة في صادراتها واستقرار في أسعار صرف عملاتها أو موازين مدفوعاتها. وتبدأ ألحوال في التبدل، إذ سرعان ما تنتهي فترة الازدهار اللامع التي سادت في المجموعات الثلاث من الدول وفي الاقتصاد العالمي عموماً، وليدخل العالم، بجميع أطرافه تقريبا، وابتداء من عقد السبعينيات في عصر يمكن تسميته ب"عصر الأزمة المستمرة". وقد قمنا في أعمال علمية سابقة بتحليل العوامل التي عجلت بأفول هذه الفترة وبظهور تلك الأزمة ، ولا نريد هنا تكرار ما توصلنا إليه في هذا الخصوص . ولكن نود فقط الإشارة إلى القضايا البارزة في هذا الصدد. 1- بالنسبة لمجموعة البلدان الصناعية الرأسمالية ، دخلت دولة الرفاه وسياستها الكينزية في محنة شديدة بعد ظهور الركود التضخمي " زيادة البطالة والتضخم في آن واحد " وتدهور معدلات نمو الإنتاجية وزيادة الطاقات العاطلة وتفاقم أحوال الاختلال الداخلي "عجز الموازنة العامة ونمو الدين العام الداخلي" والاختلال الخارجي "عجز ميزان المدفعوات ".وفي مناخ هذه الأزمة هزمت الكينزية، وانهـال النقد بلا رحمة على دولة الرفاه وعلى دور الدولة في النشاط الاقتصادي. 2- وبالنسبة لمجموكة الدول الاشتراكية، دخل نموذج النمو الستاليني" الذي قامت عليه جهود التنمية في هذه الدول في تناقضات شديدة، بعد أن انتهت فاعلية وفرة الموارد في تحقيق المزيد من النمو والتقدم، وبرزت مشكلات التحول إلى النمو المكثف الذي يحتاج إلى تكنولوجيا أرقى وأساليب متقدمة في التخطيط والتنظيبم والإدارة والتسعير ، والحاجة إلى مراعاة الحوافز وإشارات السوق، والتحول من سياسة الكم إلى سياسة الكيف في الإنتاج والاتفتاح على الاقتصاد العالمي ، والحاجة إلى الانفراج الديمقراطي، على أن تلك المشكلات والتحديات لم نجد حلاً مناسباً لها- لأسباب عديدة- لا محل للتعرض لها هنا- مما فاقم من تدهور الأمور وعلى النحو الذي أدى إلى الأحداث الدراماتيكية في نهاية الثمانينيات بتحطيم سور برلين وتفكك الاتحاد السوفيتي. 3- أما في مجموعة البلاد النامية، فكانت الأمور تسير على نحو أسوأ. فقد برزت فيها تناقضات" نماذج التنمية" التي اختارتها وما استندت إليه من تحالفات اجتماعية ، حيث فشلت تلك النماذج في تغيير أبنية الإنتاج التابعة والمشوهة، وتمخضت عن حدوث تفاوت صارخ في توزيع الدخل والثورة القوميين وتهميش قطاعات واسعة من الناس. ثم لاحقتها بعد ذلك أزمة الديون الخارجية في الثمانينيات، وهي الأزمة التي ستدار لصالح الدائنين عبر صندوق النقد الدولي والبنك الدولي من خلال سياسات" التكيف" التي ارتهنت موارد هذه البلاد وتوجهاتها الاقتصادية والاجتماعية لخدمة أهداف دفع أعباء ديونها المؤجلة. على أن تلك ليست هي قضيتنا الآن ، إن ما يعنينا هنا هو رصد عناصر الفوضى المختلفة التي تكاد تصيب الاقتصاد العالمي في مقتل. وهذه العناصر، وهي في الحقيقة ، انعكاس لأزمة أشمل وأعمق، هي أزمة تراكم رأس المال على صعيده العالمي، وها نحن نرصد عناصر هذه الفوضى بشكل موجز فيما يلي: اقتصاد دون قيادة منذ أن نشأت الرأسمالية وهي تحتاج إلى قيادة مركزية على صعيد العالم ، أي إلى دولة نواة مسيطرة، تنظم وتقود وتوجه حركة المنظومة الرأسمالية. وهي التي تتولى إدارة البيئة الاقتصادية العالمية، والبيئة السياسية والاجتماعية المواتية لتراكم رأس المال على الصعيد العالمي، وتاريخيا تولت هولندا هذه القيادة إبان مرحلة الرأسمالية التجارية" من القرن 16 حتى بداية الثورة الصناعية" وبريطانيا منذ ظهور الرأسمالية الصناعية وحتى اندلاع الحرب العالمية الآولى " 1780-1914" والولايات المتحدة الأمريكية بعد الحرب العالمية الثانية، وعادة ما تكون دولة النواة القائدة هي أقوى دولة من حيث حجم فوائض رءوس الأموال التي تملكها، ومن حيث القوة الاقتصادية والعسكرية، وبمقدار ما يعتري الضعف قوة هذه الدولة أو تتنازعها في القيادة دولة" أو دول"أخرى تتعرض المنظومة للاضطرابات والأزمات، وهذا هو الحاصل الآن. فقد تعرضت دولة النواة، وهي الويات المتحدة، لضعف نسبي واضح في العقود الثلاثة الأخيرةعلى قدرتها في قيادة المنظومة بسبب: 1- تراجع الوزن النسبي للاقتصاد الأمريكي في الاقتصاد العالمي نتيجة لبروز صعود قوة اليابان ودول الاتحاد الأوربي والنمور الأسيوية . 2- تحول الولايات المتحدة إلى دولة مدينة صافية ابتداء من عام 1985. 3- تفاقم الاختلال الداخلي " عجز الموازنة الفيدرالية" والختلال الخارجي "عجز ميزان المدفوعات". 4- نهاية الحرب الباردة واختفاء حاجة دول الاتحاد الأوربي واليابان للمظلة النووية الأمريكية. 5- تقلب قيمة الدولار الأمريكي وعدم استقرار سعر صرفه وسقوطه من ثم من على عرش العملات الدولية بعد أن أصبحت عملات أخرى تتنافس معه على دور العملة العالمية وعملة الاحتياط الدولية. نقد ومضاربات شهد العالم منذ عام 1971 تحلل وانهيار نظام النقد الدولي الذي تأسس في ضوء اتفاقية بريتون وودز، حينما قامت الولايات المتحدة الأمربكية بوقف قابلية تحويل الدولار إلى ذهب، فانتهى بذلك عصر ثبات أسعار الصرف "الهدف الذي كان عزيزاً صندوق النقد الدولي" والتحول نحو نظام التعويم FLOATING. وقد تولى أنصار الليبرالية الجديدة الدعاية لنظام التعويم وقالوا إنه أفضل من نظام ثبات أسعار الصرف لأنه يتسق مع حرية التجارة وتحجيم دور الحكومات، وذهبوا أيضا للقول بأن هذا النص سيدير إشكالية مستويات أسعار الصرف وأحوال السيولة وتسوية علاقات الفائض والعجز على نحو تلقائي ويقدرأقل من الاحتياطات الدولية وكلفتها المرتقعة ، ثم ثبت، بما لا يدع مجالا للشك، أن نظام التعويم قد خلق اضطرابات شديدة في أسواق النقد الدولية، وفي تعقيد وتأزيم العلاقات بين الدول الدائنة والدول المدينة، وفي إعاقة نمو حركة التجارة الدولية، ومنذ انهيار نظام أسعار الصرف الثابتة، أصبحت جميع دول العالم تحت رحمة الاضطرابات النقدية التي تسببهـا تقلبات هذه الأسعار، وأصبح الصعود والهـبوط الفجائي لأسعار الصرف من حين لآخر أحد المعالم الأساسية لفوضى الاقتصاد العالمي. ومنذ أن تدهورت فرص الاستثمار المجزي في قطاعات الإنتاج المادي "في الصناعة والزراعة" في مختلف دول العالم منذ بداية عقد السبعينيات بسبب اتجاه معدل الربح فيها نحو التناقص وهناك خلل جوهري يكمن في بنية الاقتصاد العالمي، أقصد بذلك عدم توازن الادخار مع الاستثمار على صعيد العالم، وهو الأمر الذي خلق كتلة ضخمة من فوائض رءوس الأموال الهائمة على وجهها، بحثا عن أي فرص للتثمير حتى لاتتفاقم أوضاع الأزمة، وخلال فترة السبعينيات وحتى أوائل الثمانينيات ذهبت تلك الكتلة للاستثمار في مجال الإقراض الدولي للبلاد ذات العجز المالي، وبالذات البلاد النامية، وقد وصلت أسعار الفائدة على هذا الإقراض إلى 20% في بعض الفترات ، مما أسال لعاب أصحاب هذه الفوائض لمزيد من الإقراض على أن هذا الشكل الاستثماري خلق في النهاية أزمة مديونية حارجية غير قابلة للحل حتى هذه اللحظة. وبعد تفجر تلك الأزمة، أصبح المجال الرئيسي لاستثمار تلك الفوائض هو المضاربات في أسواق النقد الأجنبي وفي بورصات الأوراق المالية، والمضاربات في أسواق المعادن والسلع والعقارات والأراضي، إلى آخره، وبسرعة عجيبة استوعبت هذه المضاربات حركة رأس المال المالي على صعيده العالمي وقد تنامي هذا النشاط المضاربي في ضوء عولمة أسواق النقد والمال الدولية الدولية، وفي ضوء تعويم أسعار الصرف وتحرير المعاملات النقدية وفي ضوء أسعار الصرف وتحرير المعاملات النقدية الخارجية من القيود بسبب إلحاح وطلبات صندوق النقد الدولي وأصبح هذا التحرير يشمل الآن جانب العمليات الرأسمالية في ميزان المدفوعات، وساعد على تعاظم حمى هذه المضاربات اندماج أسواق المال والنقد الدولية وسرعة الاتصال فيما بينها شبكة الكومبيوتر وبحيث بات من الممكن سرعة تحويل مئات المليارات من الدولارات من بلد لآخر في لمح البصر ، وقد وصلت معدلات الأرباح لصفقات المضاربة المتنامية إلى أرقام فلكية زادت على 100% في بعض الحالات". وقد أعطت هذه المضاربات للمدخرات النقدية القدرة على التحول إلى رأس المال بسرعة دون أن تعرض نفسها للمخاطر والمشكلات التي غالبا ما تتعرض لها إذا وظفت في مجالات الإنتاج المادي. السيولة الدولية ويرتبط بآلية الفوضى السابقة آلية أخرى لا تقل خطورة ، وهي انفلات أحجام السيولة الدولية. فمن المعلوم أن تشغيل الاقتصاد العالمي يحتاج إلى سيولة نقدية كافية، أي مقادير ملائمة من الأموال السائلة اللازمة لإتمام صفقات التصدير والاستيراد العالمية ، وتكوين حركات رءوس الأموال قصيرة الأجل التي تلزم لعلاج مشكلات العجز بموازين المدفوعات. وإذا نقص حجم السيولة الدولية عن المستوى المطلوب تعرضت التجارة العالية لحالة من الكساد. وإذا تضخم حجم هذه السيولة وزاد على المستوى الملائم نجم عن ذلك اضطرابات مالية ونقدية في مختلف مناطق العالم. وإبان عصر بريتون وودز كان العجز في ميزان المدفوعات الأمريكي والتسهيلات التي يمنحها صندوق النقد الدولي هما المصدرين الرئيسين لتوفير السيولة الدولية بالكميات التي تناسب حاجات الاقتصاد العالمي. ومنذ بداية عقد السبعينيات حدث انفلاتان هائلان في أحجام السيولة الدولية. الانفلات الأول حدث فيما سمي بتدوير الفوائض النفطية في حقبة السبعينيات، والانفلات الثاني، المستمر حتى هذه اللحظة، فاق حدود التصورات . فقد أصبح الاقتصاد العالمي يعوم على أمواج عاتية من السيولة الدولية التي تشكل فيضانا هائلا من رأس المال المالي. فهناك الآن كتلة من الأموال السائلة التي تتحرك في العالم عبر مدار العام تقدر في حدود 100 تريليون دولار، في حين أن حجم التجارة الدولية يتجاوز حدود3.5 تريليون دولار، أي ما يعادل 3.5% من تلك الكتلة. والمصدران الرئيسيان لتلك الكتلة هما أسواق النقد الدولي وصناديق الاستثمار العالمية. ومن المعلوم أن الصندوق الاستثماري هو ذمة مالية مستقلة، يدير حافظة ضخمة للأوراق المالية. ويوجد الآن في العالم حوالي 770 صندوقا استثماريا بمنزلة ديناصورات تتحرك بوحشية، وبشكل سريع ، في لمح البصر من بانكوك إلى بوينس إيرس. والمساهمون الرئيسيون في تلك الصناديق هي البنوك، وشركات التأمين، وصناديق التأمين والمعاشات وبعض الشركات دولية النشاط. وهي تتعامل الآن في أصول مالية تتجاوز بكثير حجم الاحتياطات الدولية التي تملكها البنوك المركزية في مختلف دول العالم. هذه الكتلة الهائلة من الأموال الهائجة قصير الأجل أصبحت هي مصدر تمويل حركات المضاربة العالمية ومصدر قلق شديد لمختلف دول العالم- وبالذات البلاد النامية التي انساقت وراء العولمة ففتحت أسواقها النقدية والمالية أمام نشاط هذه الصناديق. فالدول التي تخرج منها أموال هذه الصناديق تعاني من العجز. والبلاد التي ترد إليها تؤدي إلى إحداث زيادة واضحة في عرض النقود بالداخل. مخاطرة ولا يقين تميز عصر بريتون وودز في ضوء ما وفره من ثبات في أسعار الصرف ونمو استقرار واضحين في الاقتصاد العالمي، بدرجة عالية من اليقين وبقدر ضئيل من المخاطرة في المعاملات الدولية. أما الآن، فإنه في ضوء العولمة وعمليات " التحرير الاقتصادي" التي تمت في إطار صعود الليبرالية الحديثة، وإضعاف دور الدولة، فقد ارتفعت بشكل واضح درجة المخاطر التي يتعرض لها المتعاملون في الاقتصاد العالمي . وهو أمر سبب، ويسبب بلا شك، اضطرابا واضحا في عملية صنع القرار اقتصادي للحكومات وللمصدرين وللمستوردين والمسثمرين على الساخة الدولية. والحقيقة أن ارتفاع درجات المخاطرة واللايقين ناجمة عن تلك التقلبات الحادة والأحداث المفاجئة التي ما فتئت تطرأ على كثير من متغيرات الاقتصاد العالمي من حين لآخر ودون سابق إنذار " تغيرات أسعار الصرف ، وأسعار الفوائد وأسعار الآوراق المالية في البورصة العالمية وتقلبات أسعار المواد الأولية .. إلى آخره" . صحيح، أن جانبا من هذه التغيرات الفجائية يمكن إرجاعه- عموما- إلى تأثير السياسات الليبرالية الجديدة التي قللت من التدخل الحكومي إلى أبعد الحدود وأطلقت العنان لأليات السوق العشوائية. ولكن أخطر ما ترتب على ذلك ، هو أن كثيرا من الأحداث الاقتصادية الجسام ذات التأثير الخطيرة، لم يعد بالإمكان التنبؤ بها ومن ثم الاستعداد لها ، برغم التقدم الهائل الذي حدث في أدوات القياس والتنبؤ الإحصائي. وخطورة ذلك أنه كثيرا ما يتعرض الاقتصاد العالمي لهزات فجائية خطيرة. آلية المديونية العالمية يتسم الاقتصاد العالمي منذ السبعينيات باستفحال علاقات العجز والفائض بين مختلف دول العالم ، وهو الأمر الذي خلق موجة كبيرة من الإقراض الدولي. وقد وفر نظام الإتمان الدولي والسيولة المرتفعة التي نشأت منذ ذاك العقد إمكانات لنقل الفائض من دول الوفرة المالية إلى دول العجز. ونشأت نتيجو لذلك أزمة مديونية عالمية ضخمة ، وبالذات تلك المديونية المستحقى على البلاد النامية التي وصل مجموع ديونها الخارجية الآن إلى ما يقرب من 1750 مليار دولار. والحقيقة أن الميل المتعاظم للاستدانة لهذه البلاد كان- ولا يزال- راجعا إلى تفاقم عجز موازين مدفوعاتها نظرا لموقعها الضعيف واللامتكافئ في الاقتصاد العالمي، وبسبب فشل انماط التنمية التي طبقتها في العقود الثلاثة الاخيرة، ولم تساهم في زيادة درجة اعتمادهاعلى الذات في مجال التمويل"أي" تقليل الفجوة بين معدل استثمارها ومعدل إدخارها ". كما ان ذلك كان راجعاً من ناحية اخرى، إلى أن استثمار الفوائض المالية في مجال الاقراض الدولي كان ، ولايزال، مجزياً بسبب ارتفاع أسعار الفائدة. وهكذا نشأت أكبر أزمة مديونية خارجية في تاريخ النظام الرأسمالي العالمي. وأصبحت مدفوعات الفوائد والأقسام المتزايدة عاماً بعد الآخر سيفاً مصلتا على أعناق البلاد المدينة ، وعلى النحو الذي هدد هذه البلاد بعدم إمكان حصولها على وارداتها الضرورية. فلجأت إلى دائنيها لطلب إعادة، الجدولة وبخاصة بعد أن أصبح حجم ما تدفعه عن أعباء لخدمة هذه الديون يزيد على ما تتلقاه من قروض جديدة " ظاهرة النقل العكسي للموارد". وقد أدت عمليات إعادة الجدوله، التي تمت طبقا لشروط نادي باريس، إلى خضوع هذهـ البلاد لوصفات صندوق النقد الدولي والبنك الدولي ، وهي الوصفات الانكماشية، المعطلة للنمو Anti Growth والتي يقع عبؤها على عاتق الفقراء والمحرومين. العولمة والسيادة في ضوء العولمة المتزايدة، أي زيادة درجة الترابط والتشابك والتداخل بين مختلف أطراف الاقتصاد العالمي الذي قادته وعمقت الشركات دولية النشاط، وفي ضوء ما استتزفته من "تحرير" متزايد للاقتصادات الوطنية حتى تتحقق حرية الحركة لتدفق السلع ورؤوس الأموال بعد تحطيم الحواجز الجغرافية والجمركية، أصبح هناك تناقض كبير، يتزايد فترة بعد الأخرى ، بعد العولمة واعتبارات السيادة الوطنية. وهو أمر كثيراً ما يسبب الصعوبات لكثير من الحكومات في ضبط وتسيير الأمور داخل حدودها الجغرافية فمثلا، في ضوء عولمة النشاط المالي وحرية دخول وخروج رءوس الأموال عبر مختلف بلاد العالم أصبح من الصعوبة بمكان على البنوك المركزية أن تراقب وتوجه السياسة النقدية داخل بلدانها. كما أن السياسات الوطنية التي كانت تلجأ إليها الدول في الماضي القريب لمواجهـة تقلبات الدورة الاقتصادية Business Gycles لم تعد تجدي أمام انفتاح الاقتصاد الوطني على السوق العالمي. أضف إلى ذلك، أن بعضا من المهام التقليدية للدولة انتقلت، رويداً رويداً، إلى الشركات دولية النشاط " مثل خدمات البريد والاتصالات، والأمن.. إلى آخره. إن النمو المتزايد لعولمة النشاط الاقتصادي يفترض- نظريا- القبول بالانتقال التدريجي للمهام التنظيمية ونقل السياسات من إطارها الوطني إلى إطارها العالمي، أي الارتضاء بالتخلي عن جزء من السيادة القطرية لصالح مجموع الاقتصاد العالمي. عدم كفاءة المؤسسات الاقتصادية الدولية في الوقت الذي تتفاقم فيه أوضاع الاقتصاد العالمي ، وتتزايد عناصر الفوضى وعدم التوازن ويتم فيه عولمة النشاط الاقتصادي بشكل متسارع ، الآمر الذي يحتاج إلى دور فاعل وقوي للمؤسسات الاقتصادية الدولية القائمة" صندوق النقد الدولي والبنك الدولي والمنظمة العالمية للتجارة- الجات-" فإن تلك المؤسسات قد فشلت في الاضطلاع بهذا الدور. بل ثبت أن تلك المؤسسات قد فشلت فشلا ذريعا في التنبؤ بالأزمات الاقتصادية العالمية، ومن ثم الاستعداد الكافي ، لها كما فشلت أيضا في تقديم سبل العلاج لها. وقد تسببت برامج التثبيت الاقتصادي والتكيف الهيكلي في حدوث الكساد وزيادة البطالة وتفاقم حدة الفقر والتفسخ الاجتماعي في البلاد النامية وفي البلاد التي كانت "اشتركية" بل وحتى في بلاد النمور الأسيوية" بعد أن ضربتها الأزمة أخيرا" حيث عوملت بنفس المعاملة التي عاملت بها منظمات بريتون وودز أفقر وأقل البلاد تقدما في إفريقيا. والأمر أكثر خطورة هو أنه حينما تفشل سياسات هذه المنظمات وتجر معها الكوارث الاقتصادية والاجتماعية وربما السياسية ، فإن تلك المنظمات، لا تكون محل مساءلة. والمصيبة هنا أنه بالرغم من الفشل الذي منيت به تلك المنظمات فإنه جرى، ويجري تعزيز أدوارها وأنشطتها بصورة هائلة في السنوات الأخيرة من قبل السبعة الكبار والشركات العملاقة دولية النشاط، في الوقت الذي يجري فيه إضعاف منظمات الأمم المتحدة. ويقول مارتن خور في هذا الصدد: "ما يحدث في هو في واقع الأمر تحويل للموارد والسلطة من الأمم المتحدة ووكالاتها ونقلها في نفس الوقت إلى البنك الدولي وصندوق النقد الدولي ومنظمة التجارة العالمية" وبعد... ماذا يمكن أن ترسم لنا عناصر الفوضى لصورة الاقتصاد العالمي حاليا ومستقبلا؟ من الجلي أن تلك الصورة مأزومة وقاتمة ، حيث تخيم على عالمنا ومنذ ربع قرن أجواء الأزمة والركود وتزداد فيه البطالة، وتتسع فيه الفجوة بين الأغنياء والفقراء في البلد الواحد، وبين البلدان المتقدمة والبلاد النامية ويعيش ما يقرب من مليار فرد في حالة فقر مدفع، وهناك ملايين من البشر المشردين واللاجئين في مختلف بقاع المعمورة. والصورة أشد قتامة وقسوة في البلاد النامية والبلاد التي كانت "اشتراكية" والأمر الراجح هو أنه إذا استمرت عناصر هذه الفوضى فإن صورة عالمنا ستزداد قتامة في المستقبل.
|
|