دوريس ليسنج.. من الظلال إلى أضواء نوبل

دوريس ليسنج.. من الظلال إلى أضواء نوبل

عندما أعلنت الأكاديمية السويدية فوز الكاتبة الإنجليزية دوريس ليسنج بجائزة نوبل في الآداب عام 2007، كانت بذلك أكبر شخص على الإطلاق يفوز بالجائزة سواء بين الرجال أو النساء (88عاما)، فهي من مواليد 22 أكتوبر 1919. كان أكبر فائز سابق هو الألماني تيودور مومسن، الذي كان عمره 85 عاما حين فاز بجائزة نوبل عام 1902.

أشعر بأنني مثل ديناصور!

حوار مع دوريس ليسنج، الفائزة بجائزة نوبل 2007

عرف العالم العربي دوريس ليسنج، من ترجمات لبعض أعمالها، منها روايات «الشتاء في يوليو» عن دار إلياس بالقاهرة، ترجمة عنان علي الشهاوي، الذي ترجم لها أيضا مجموعة قصصية بعنوان «الفهد»، صدرت عن هيئة قصور الثقافة. كما صدر عن دار المأمون ببغداد روايتا «مذكرات من نجا» ترجمة محمد درويش، و«الصيف قبل الظلام» ترجمة سمير عبدالرحيم الجلبي.

ولدت دوريس في كرمنشاه بفارس (إيران حاليا) عام 1919. وفي عام 1925، انتقلت أسرتها إلى مستعمرة بريطانية جنوب روديسيا (زيمبابوي حاليا) وهي في الخامسة من عمرها، حيث عاشت حياة صعبة في مزرعة للموز. التحقت دوريس بمدرسة رومانسية كاثوليكية للبنات، بالرغم من أن أسرتها ليست كاثوليكية. غادرت المدرسة في الرابعة عشرة من عمرها، وبدأت تعتمد على نفسها في التعليم منذ تلك اللحظة فصاعدا، وكانت أمها تمدها بالروايات التي كانت تطلبها من إنجلترا خصيصا من أجلها.

تزوجت مرتين، وطلقت مرتين، ولديها ثلاثة أبناء. كان زواجها الأول من تشارلس ويسدوم واستمر من عام 1939 حتى 1943. وكان زواجها الثاني من جوتفريد ليسنج، الذي أصبح بعد ذلك سفيرا لألمانيا في أوغندا، واستمر هذا الزواج من 1945حتى 1949.

وحتى نقدم لها صورة من قريب، نغوص في عالمها الروائي، وسيرتها الذاتية، ورؤاها الخاصة، حول مرحلة الستينيات، والموقف الحالي، والتقدم في العمر، ومتع الشيخوخة، ورحلة تصوفها، وغيرها من القضايا المهمة، نقدم حوارا أجرته معها جونا راسكين، ونشر في مجلة «ذا بروجريسيف»: عدد يونيو 1999.

روائية فريدة

أصبحت دوريس ليسنج روائية، بعد مرور خمسين سنة على الهجرة من ريف جنوب إفريقيا، ولاتزال تكتب على آلة كاتبة يدوية، وان لم تكن بطبيعة الحال، هي نفس الآلة الكاتبة التي استخدمتها لكتابة روايتها الأولى «العشب يغني» (1950). لن يمكن لأيّ آلة كاتبة أن تبقى كضرورة كادّة دون لين لإنتاج الأربعين كتابا، أو ما قارب ذلك، المشهود لها دوليا، والتي ظهرت على مدار السنوات الخمسين الماضية، والمتضمنة «الكراسة الذهبية» (1962)، تلك الرواية الغريبة والجميلة، التي غالبا ما ينظر إليها على أنها «الكتاب المقدس للمؤمنين بمساواة الجنسين»، بالرغم من أن تلك الإشارة تزعج ليسنج نفسها. إنها انجاز أدبي غير عادي وفق أي معيار من المعايير، لكن ربّما خصوصا أن ليسنج - التي ولدت في كرمنشاه من بلاد فارس، إيران حاليا، في 22 أكتوبر 1919 - توقف تعليمها عند المدرسة العليا، ولم تحصل أبدا على شهادة في التعليم العالي، ماعدا تلك الشهادات الفخرية من جامعات مثل هارفارد.

أراد كثير من معجبيها، خاصة من المؤمنين بمساواة الجنسين، أن تستمر في كتابة «الكراسة الذهبية»، لكنها كانت قد قطعت عهدا بألا تكرّر نفسها، وقد ذكرتني خلال حوارنا الحالي، بقولها «إني لا أقوم أبدا بالعمل نفسه مرتين». المرأة، التي بدأت مسيرتها الكتابية كروائية تقليدية تقريبا، حولت مواهبها إلى القصة الخيالية، القصة العلمية، القصة النوعية، منها رواية «مارا ودان» (1999)، التي كانت من طراز قديم، عبئت بقصة مغامرات، مركّزة على آلاف السنين من المستقبل.

كانت رواية «الكراسة الذهبية» هي جواز مروري إلى عالم العمل المعقد، كما كان الأمر للعديد من القراء في الستينيات، ومازال للقراء في كل أنحاء العالم. قابلت ليسنج عام 1969، في أول زيارة لها للولايات المتحدة، التي رفضت لسنوات منحها تأشيرة دخول بحجة أنها انتمت ذات مرّة إلى الحزب الشيوعي. وقد اعتمدت كل منا على الأخرى، خلال السنوات الثلاثين الماضية. مارست دوريس شخصية أم، ومربية، ومعنّفة بالترتيب. وقد عملت كسفيرة لثقافات أمريكية فرعية مختلفة، ومع العالم الأمريكي الأكاديمي، وكانت ليسنج في كل مرّة نلتقي فيها، تتخذ من ذلك ذريعة لأن تقول إن أخشى ما تخشاه، أن تصبح متورطة مع الرأي الشائع أو القيم السائدة، كما حاولت أيضا إيقاظي من بعض أوهامي الشخصية حول الثورة، وحول الحب، وحول السلطة. وللمثال، تنبأت في نهاية الستينيات أن الدفق اليوتوبي لن يستمر إلى الأبد، رغم أني لم أرد أن أصدقها. وبدا في الآونة الأخيرة، أنها سمحت لجانبها الرقيق بالظهور. ذات ليلة في كاليفورنيا الشمالية عام 1989، ذهبنا نتمشى في الظلام، محملقين إلى السماء، متحدثين عن إفريقيا، حين توقفت دوريس فجأة في مسارها، وأعربت عن أسفها لأنها لم تعرف أسماء كوكبة النجوم.

صنع مني رفض دوريس ليسنج قبول الحكمة التقليدية نوعا من التبعية لها، بالرغم من أنها لم تشجع بنفسها أبدا أن يكون لها مريدون أو أتباع. إنها تردد مرارا وتكرارا إنه إذا كان على الجنس البشري أن يبقى كنوع، فإننا يجب أن نكون قابلين للتكيّف، لأننا نحتاج إلى أن «نتمتع بأفكار عديدة، تكون أحيانا متناقضة»، وأن «نقاوم فكر الجماعة وضغوطها».

اجتمعنا في بيتها في شمال لندن أخيرًا، مرّة أخرى للدردشة، وقد تطرّقت بنظرتها الناقدة أينما تطلعت، إلى مساواة الجنسين، الشهرة، الستينيات، وبدع الروحانية الحالية. كانت وهي على تخوم الثمانين، مستقلة بشكل حاد كما كانت دائما.

عندما أجرينا مقابلتنا الأولى، قبل ثلاثين سنة، تحدثنا عن فيتنام، الثورة، واللاوعي. كانت المقابلة هذه المرّة حول الخصوصية، الموت، ونهاية القرن العشرين. كانت ليسنج كدأبها مسكونة بالزمن، بتذكر الماضي وتخيّل المستقبل، لكن هوسها اكتسب كثافة قوية وجديدة.

رؤية خاصة

  • قلت في واحد من أكثر تعليقاتك إدهاشا، إنّ «ما يثير اهتمامي أكثر من أي شيء هو كيف تتغير عقولنا، وكيف تتغير أساليبنا في الواقع».

- أتساءل عمّا عنيت. و كما تعرفين، فإنني أشعر في أغلب الأحيان بأنني مثل ديناصور. أنا لا أحصل على أي شيء تقنّي على الإطلاق. كنت على الإنترنت منذ عهد قريب مع «بارس» و«نوبل»، وناس يتلفنون من كلّ أنحاء العالم: أستراليا، كندا، وفرنسا. واجهت هذا كدردشة شكلية، كانت لطيفة، لكنني لم أستطع الاندماج تماما. إنّ فيها عنصرا قويّا من الوهم. لا يزعجني أن أنتقل إلى كمبيوتر في هذا العمر، رغم أنني قد أنسجم مع البريد الالكتروني، الذي يبدو جذابا.

  • كيف تتصورين المستقبل؟

تحدث أخيرًا آرثر س.كلارك، كاتب الخيال العلمي، عن أساليب الحياة، التي ستتغيّر بها حياة الكائنات البشرية في القرن القادم. لم أفهم نصفها على الأقل، بالرغم من أنني متأكّدة من أن صبية اليوم قد يعرفون بالضبط ما عناه. إنني أقف في مكان ما من الماضي. وأنا أعتقد، على أي حال، أن عقولنا قد أتلفتها التقنية. أقابل صبية لا يبدون قادرين على قراءة جملة طويلة، أقلّ بكثير من كتاب طويل.

من المحتمل أن هناك تناظرات مع جوتنبرج. حين حدثت الثورة الطباعية منذ 400 سنة، فقدت الكائنات البشرية قدرة عقلية معينة، ضمنها حسّ الذاكرة، بينما تقابل في إفريقيا اليوم، أناسا مازالوا يحملون كل شيء في رءوسهم. بالشكل الذي اعتدناه. نحن نعتمد على دليل الهاتف، ودفاتر العناوين. يجب علينا أن نبحث عن كل شيء. شيء آخر، إنّ أطفال اليوم يطلبون تحفيزا أعظم وأعظم. أعتقد أن ذلك الطلب الثابت للتحفيز، هو أحد أسباب توجّه كثير من البشر إلى البوذية. انه ردّ فعل على الضوضاء والفوضى. كم أنا محظوظة في هذا البيت. ليس هناك أي صوت في الليل على الإطلاق، ماعدا صوت انقلابة طائر في عشه. إنّ الصمت شيء رائع.

  • قلت أيضا في عام 1969 «عندما تنهين مرحلة من حياتك، فإنك تنظرين إلى الوراء، وترين أنه كان لها نمط لم تلاحظيه حين كنت تعيشينها». هل أنت وسط مرحلة الآن، أم أنك خارج مرحلة، وقادرة علي النظر للوراء إليها؟

- أعتقد أنني في نهاية مرحلة معينة من حياتي. ما أنتبه إليه الآن هو غير المتوقع، من الأشياء التي تأتي من الخارج، والتي لم أعتقد أبدا أنها قد تحدث. يكون عليك أحيانا أن تبحث عنها، حتى لا ترفض الجديد بشكل آلي، ببساطة لأنّنا كالعادة نرفض ما يظهر. إنني أغيّر منظوري إلى حياتي بشكل ثابت. أرى الماضي بشكل مختلف، وهذا شيء رائع.

  • ماذا عن التقدّم في العمر؟ كيف هو ذلك الشعور؟

- كان عندي سكتة دماغية صغيرة قبل عيد الميلاد من السنة الماضية. كنت في أثينا وفيينا، وبعد ذلك مباشرة ذهبت إلى زيمبابوي. كان طريقا طويلا، طويلا، وأعتقد أن السفر إلى زيمبابوي هو الذي فعل ذلك. استيقظت ذات صباح، ولم أستطع أن أحرّك ذراعي. كان ذلك هو الشيء الشاذ، الشلل. استدعيت صديقا، وقلت له «أعتقد أنني أصبت بسكتة دماغية». في الحقيقة، كان ذلك هو ما أخبرني به طبيبي. لم يكن أمرا فظيعا، لكنه كان كافيا كي يخيفني. أفكر الآن في الموت طوال الوقت. لديّ ذراع ميتة، هي ذراعي اليمنى. حديثي تأثر أيضا. لا أستطيع أن أخرج الكلمات.

  • هل تفكرين بشأن الموت طوال الوقت؟

- نعم، الموت، لحظة أن تموت. أتساءل كم بقي لي من العمر؟ أتساءل قبل أن أبدأ كتابا جديدا، هل يستحق؟ هل سيكون لديّ عمر لإنهائه؟

  • زرت أنتوني بيرجيس في أوربا، حين كان في منتصف الستينيات من العمر، وقد أخبرني أنه يعدّ السنوات، ويحسب عدد الكتب التي يمكنه أن يكتبها قبل موته.

- نعم، ذلك هو الأمر تماما!

متع الشيخوخة

  • هل هناك أيّ متع مع الشيخوخة؟

- غالبا ما يكون بلوغ الشيخوخة مملا. أكره تصلب العظام. كنت متغطرسة جسديا لسنوات. لا أحبّ الآن أن أتجوّل بصعوبة. لكن هناك رصانة مؤكدة تحلّ، تجرد مؤكد. تبدو الأشياء أقل أهمية للغاية عمّا كانت عليه من قبل، وتلك متعة.

  • ماذا تفعلين للتسلية؟

- أذهب إلى المسرح والى الأوبرا كثيرا. أذهب إلى معارض الفن، وأتمشى على مرج هامبستد ثلاث أو أربع مرّات أسبوعيا. أعمل في حديقتي وأقرأ، وهما ما يمنحاني دائما سرورا بالغا.

  • كم لديك الآن من مشاريع تدور في رأسك؟

- أفكار! لا تنقصني الأفكار. لم يحدث لي ذلك إطلاقا، وأشكّ أنه سيحدث لي. لكن ينبغي أن أكون حذرة الآن، في اختيار أيّ الأفكار أتابع.

روائية صارمة

  • أخبرتني منذ سنوات أنه كان لديك فكرة رواية حول رجلين - أحدهما شيوعي والآخر نازي - يشتركان في زنزانة السجن نفسها. وكما أتذكّر، كانت الرواية بأكملها تدور حول مناظراتهما في السياسة والعقيدة ذهابا وإيابا؟

- لقد كتبتها، ثم مزقتها. أنا مسرورة حقيقة أنني مزقت تلك الرواية، بالرغم من أنّه كان لديّ أيضا مسرحية كاملة (كانت من نوع الفارس الصرف) في المنتصف منها. أنا حزينة تماما، لأنني دمّرت المسرحية.

  • هل دمّرت أي مخطوطات أخرى؟

- نعم، دمرت مخطوطي كتابين أو ثلاثة. أكره أن يكون لدي أعمال من مادة غير متبلورة معلقة حولي. إذا لم تصلح للعمل، فإنني أمزقها. بالنسبة إلى الكتاب حول سجينين سياسيين، كانت لديّ مصادر مختلفة. خلال الحرب العالمية الثانية، تخلص البريطانيون من كثير من اللاجئين الألمان - كان بعضهم جواسيس نازيين، وكان البعض الآخر متحمسين ضد النازيين - سجنوا هناك على جزيرة الإنسان، حيث تحوّلوا إلى جامعة تجريبية باوركسترا ومسرحيات، ومجموعات نقاش. لابد أنه كان جحيما للنازيين وأضداد النازيين أن يعيشوا معا جنبا إلى جنب. أعرف أنه كان كذلك. أخبرني بذلك أناس كانوا هناك.

سيرة ذاتية

  • كتبت فعلا مجلدين من سيرتك الذاتية: «تحت جلدي» (1994)، و«مشي في الظل» (1997)، الذي يرجع إلى عام 1962 عندما نشرت رواية «الكراسة الذهبية». ماذا عن كتابة مجلد ثالث؟

- كان وكيل أعمالي وناشر كتبي يضغطان عليّ لكتابة مجلد ثالث، لأنّ المجلدين الأول والثاني راجا بشكل طيب في كلّ من الولايات المتحدة وإنجلترا. لكنني لا أستطيع أن أكتب بسهولة. أمضيت معظم فترة الستينيات كأمّ منزلية لكثير من المراهقين القلقين جدا. أصبحوا الآن جميعا متوسطي العمر، ولن يكون من العدالة تعريضهم لذلك. الطريق للحلّ، ينبغي أن يكون بكتابة كتاب يحتوي كثيرا من مادة اجتماعية وعامة، ولكن لا شيء شخصيا فيه.

  • قلت ذات مرة: ينبغي الحفاظ علي فكرة قديمة مؤداها «أن حياة كاتب هي ملكية خاصة له أو لها، حتى نموت». إلى حدّ ما، يبدو أن هناك تزايدا في الحفاظ على الخصوصية؟

- هناك أشياء معينة لا أتحدّث عنها. لقد حافظت على بقاء يومياتي بالطبع، لكنها لا يمكن أن تقرأ لفترة طويلة تماما. ماذا سيظهر للعيان، حين يقرأها الناس؟ لا أستطيع تخيّل أن شيئا سيظهر للعيان، لا يمكن أن يستنتج من قراءة أيّ من كتبي الآن. ذلك هو السبب في أنني فضولية حول الناس المسحورين بحياة الكتاب. يبدو لي أننا دائما في كتبنا، واضحون تماما. أتساءل أيضا، هل تهمّ الحياة الخاصة للكاتب حقا؟ من يهتم بما هو معروف عنك، وما هو غير معروف؟ حتى عندما تجعل شيئا كان خاصا علنيا، لن تعرفه أغلبية الناس، ما لم يكونوا من نفس الجيل، ومرّوا بنفس التجارب تقريبا. وهكذا، بمعنى ما، كلنا خاصون، بالتحديد.

رحلة تصوّف

  • أصبحت صوفية الآن منذ أكثر من ثلاثين سنة. هل يمكن أن تقولي شيئا حول هذا الأمر؟

- كما تعرفين، هناك عربة موسيقى صوفية الآن، هوس صوفي. يريد كل شخص حلا سريعا. أرسل بانتظام كتبا تفيد في الطريقة الصوفية، ولا تكون كذلك أبدا. الصوفية ليست شيئا يمكنك أن تجديه في كتاب. أنت لا تكتشفين الرسالة الصوفية من كاتب. الصوفية هي أمر يجب أن تجربيه بنفسك، وهو الأمر نفسه بالنسبة إلى البوذية. لا يمكنك أن تقرئي كتابا لتصلي إلى الاستنارة.

  • لقد قلت إن الصوفية المثالية تخلق أفرادا يستطيعون رؤية أنفسهم مثلما يراهم الآخرون. أتساءل، هنا في لندن، كيف يراني الناس؟ وكيف يرون الأمريكيين؟ كنت تلاحظيننا وقتا طويلا. كيف تريننا؟

- حدث هناك تغيّر حاد على مدار نصف القرن الماضي. في الخمسينيات، كان يمكنك أن تخبري أمريكيًا على بعد مائة ياردة. قد يكون ذلك جيل أبيك. كانوا جميعا مرتبين جدا. كان الرجال جميعا يبدون بشكل صحيح في بدلات الفلانيل الصوفية الناعمة، وقصّاتهم القصيرة، وأفواههم - كان يمكنهم بالكاد أن يجلبوا الابتسام لأنفسهم وأقلّ من ذلك بكثير كي يخرجوا كلماتهم. لنناقش الشفة البريطانية العليا المتصلبة! للأمريكيين شفة أوطأ متصلبة! كانت تلك لغة جسم محاصر بشدة، وأعتقد أن ذلك هو ما كان يحدث إبان الحرب الباردة، كلّ ذلك القمع لذلك العصر. ثم جاءت الستينيات، وأصبح الأمريكان مهملين وطليقين ومسترخين. لا يمكنني البدء بإخبارك ما هو التحوّل الرائع الذي حدث. لقد بدا أن كل شخص يتحوّل إلى النقيض له أو لها.

مرحلة الستينيات

  • ماذا يمكنك القول بشأن الستينيات؟

- أنا لا أشارك في الإعجاب المعقود بشكل واسع للستينيات. كنت في لندن، «لندن المتأرجحة»، كما تدعي، ورأيت كثيرا من حالات الانتحار، وكثيرا من الناس انتهى بهم الأمر في مستشفيات المجانين. كان هناك عدد كبير من الإصابات. كانت الستينيات عقدا خطرا، مع أن السياسة في ذلك الوقت كانت جذابة جدا بطبيعة الحال. ليس هناك ما هو أكثر جاذبية من بشر يتظاهرون بأنهم ثوريون. الناس الذين اشتركوا في باريس، عام 1986، وكلّ ذلك، أجده جذابا جدا. بطبيعة الحال، كنت عجوزا جدا من أن استمتع بالستينات حقا. بمضي الوقت تمّ الالتفاف حول 1986، كنت في الخمسين من عمري تقريبا. كان ينبغي أن أكون في العشرينيات.

  • وصفت في روايتك القصيرة «الطفل الخامس» (1988) فترة الستينيات، بأنها «نهمة وأنانية». أفترض أنك عنيت فكرة الإشباع الفوري؟

- نعم، بالطبع. في الستينيات، من المحتمل أنها كانت المرّة الأولى في التاريخ، التي عرف فيها الشباب كجماعة مستهلكين كبيرة، ومفترضين تجاريا لشارع ماديسون. لعب الإعلان دورا رئيسيا في خلق أخلاقيات ذلك العصر - فكرة أن «ها هو هنا، ويمكنك الحصول عليه الآن». أعرف أن عددا من الصبية اعتقدوا أن أخلاقيات الستينيات ترجع إلى مزاياهم الغريبة الخاصة، لكن في الحقيقة، كان هناك كثير ممّا يمكن قوله في ما يتعلق بحقائق السوق والتجارة.

المشهد الحالي

  • ماذا عن المشهد السياسي الأمريكي الحالي؟

- لقد كنت في نيويورك، حين انتخب كلينتون للمرة الأولى، وكان كل من عرفت من أشخاص في حالة غبطة مجنونة. تساءلت عمّا حدث لأصدقائي العنيدين؟ كان كل من عرفت من أشخاص مخمورا تقريبا بهذا الأمل الطاهر العظيم. ولكنني في المرّة التالية، التي كنت فيها في نيويورك، لم يكن لدى أي شخص كلمة يقولها عن كلينتون، لكن كان الجميع متعاطفين مع هيلاري. كانت هي الكلمة الأخيرة. بدا كل ذلك غير واقعي تماما. بالطبع، ليس الأمر مختلفا في انجلترا. كان كل فرد هنا مجنونا بتوني بلير. كان وجها جديدا. ألن يتعلم الناس أبدا؟

  • هل هو الأمر نفسه مع كل السياسيين؟

- ليس كل السياسيين سواء. لم يكن شعوري أبدا بهذا الشكل. لكن المشترك هو أن الناخبين يفرحون جدا بالوجوه الجديدة، مثل كلينتون وبلير، ويكون لديهم توقعات غير واقعية بأن العالم سيتغير فجأة بين عشية وضحاها. لكن أيّ خبيرة متهكمة مثلي تعرف أنّ ذلك لن يحدث.

الإنسان والحرب

  • إذا أتيح لك تقديم برنامج تلفزيوني لمدة ساعة عن القرن العشرين، فماذا ترغبين في إيصاله؟

- يبدو أننا دائما نفاجأ بالأحداث، ليس بالكوارث فقط، بل بالأحداث الرائعة أيضا. انظر إلى عام 1990، السنة التي انهار فيها الاتحاد السوفييتي، والتفرقة العنصرية في جنوب إفريقيا، وانهيار حائط برلين. لم أعرف أيّ فرد تنبأ بتلك الأحداث. يبدو لي أننا نحاول بانتظام أن نوائم أنفسنا مع غير المتوقع. ونتحدث في نفس الوقت، كما لو أننا مسيطرون على الأمر، ولسنا كذلك. هذا هو ما يبدو لي أن يكون الحقيقة عن القرن العشرين. نحن نجلس هنا، مع الشيء الأكثر خطورة، الذي يجري في يوغوسلافيا. أجده مروّعا. إننا نقصف بلجراد بعنف، ويخبروننا بأكثر أكاذيب إثارة للدهشة عنها.

  • بماذا لم يخبرونا؟

- أتساءل لماذا تبدأ الحرب فجأة وتتوقف فجأة؟ ولماذا نتورط نحن الإنجليز وأنتم الأمريكيون في بعض منها، دون البعض الآخر؟ تدور الآن في كل أرجاء المكان هناك حروب صغيرة، وأعمال وحشية كبيرة، ونحن لم نغز أو نصبح متورطين عسكريا، كما أصبحنا في يوغوسلافيا. هل من المحتمل أن منتجي أسلحة الحروب يثيرون الحروب بهدوء دون أن نعرف؟ يعتبر إسقاط القنابل عملا مربحا جدا لهم. كان جور فيدال يتحدث عن هذا قبل أيام، وقد جعل الأمر يبدو معقولا جدا. حينما تبدو السياسة الأمريكية غامضة، قال، تذكر تعقد المنشأة الصناعية العسكرية. إنه هو الشخص، الذي كان ينبغي أن يكون الرئيس.

  • يبدو أنه في أغلب الأحيان، كلما كبرت قصة إخبارية، استغرقت وقتا أطول في الوصول إلى الصفحة الأولى، والى شاشة التلفزيون.

- كما تعرفين، إنّ المصاب الأول في أيّ حرب هو الحقيقة. في الحرب العالمية الثانية، كنت جزءا من مجموعة من بشر اعتادت أن تجتمع مرّة أسبوعيا لغرض وحيد هو تحليل الأخبار، ومحاولة معرفة ما لم يخبرونا به. اعتقدنا أننا كنّا أذكياء، لكن لم يكن لدينا أيّ فكرة بالتأكيد عمّا كان يحدث في الحقيقة. فقط بعد سنوات، علمنا بالقصة الحقيقية.

كيف تشكلت؟

  • هل شكلتك المعيشة في لندن، أم أنك كنت قد تشكلت فعلا عندما وصلت في عام 1949؟

- كنت قد تشكلت فعلا، عندما وصلت إلى لندن.

  • في رواية «ذهاب إلى البيت» (1957)، تقولين إنك صنعت وسط إفريقيا حيث عشت من عمر الخامسة إلى عمر الثلاثين. هل مازلت تحملين ذلك التقييم الذاتي؟

- قد يمكنني أن أقول الآن، إن هناك ثلاثة أشياء رئيسية شكلتني: وسط إفريقيا، وتراث الحرب العالمية الأولى، والأدب، وبخاصة الكاتبان الروسيان تولستوي وديستويفسكي.

  • عندما وصلت إلى لندن، شعرت بأنها مكان محبط. ثم أصبحت لاحقا، واحدا من ألطف الأماكن في العالم. كيف تبدو الآن؟

- لقد تغيّرت لندن بشكل هائل, وتغيّر الانجليز بالمثل، في العقد الماضي. أصبحوا مثل الأمريكيين أكثر، مثل الأوروبيين أكثر أيضا. إنهم يتناولون طعامهم خارج البيت دائما، ,حين يكونون في البيت لا يطبخون بالأسلوب نفسه الذي اعتادوه منذ عشر سنوات ماضية. إنهم يجلسون جميعا حول المقاهي، مثل الأوربيين، يشربون القهوة، ويدردشون، ويراقبون العالم وهو يمضي.

إذا خرجت ليلة الجمعة، ستجدين وسط لندن مكتظا بشباب يقضي وقتا طيبا. هذا أمر رائع. ويأتي الفرنسيون والهولنديون والبلجيكيون هنا، كي يقضوا وقتا طيبا، لأن لندن تتأرجح.

ترحال دائم

  • إنني مندهشة من كمية السفرات، التي قمت بها في العقد الأخير. لقد مضيت عبر جميع أنحاء لندن تقرئين للطلاب، وكنت في أفغانستان، الأرجنتين، النمسا، البرازيل، الصين، أيسلندا، ايطاليا، باكستان، الولايات المتحدة، وزيمبابوي.

- لقد قمت بالكثير، أليس كذلك؟ لكنني لن أقوم بكثير من السفر من الآن فصاعدا، وعلى أي حال، فأنا ذاهبة إلى كتالونيا، لأنني سأمنح جائزة أدبية كبيرة «بريم انترناشيونال كتالونيا». إنني ببساطة أعشق برشلونة. وكما تعرفين، إنّ كتالونيا تودّ أن تنفصل عن إسبانيا، لكن بدلا من الاندفاع إلى الشوارع بالرايات، أو تفجير الملك الإسباني، فإنهم اتبعوا أسلوبا مختلفا. خلقوا حركة ثقافية عظيمة على أعلى المستويات. وأنا معجبة بذلك، لأنها سياسة جيّدة وممتعة جدا أيضا.

  • هل سبق أن كتبت عن تجاربك في الصين؟

- لم يحدث، ومن المحتمل ألاّ يحدث، لأنّ لديّ كثيرا من انطباعات استندت في الأغلب إلى زيارة قصيرة. قبل أن أذهب إلى الصين أخبروني أن الصينيين لن يتحدثوا في السياسة، لكن ذلك لم يكن صحيحا. كنت هناك مع مارجريت درابل ومايكل هولرويد، ووجدنا أن الصينيين منفتحون تماما، جريئين على ما يبدو. تحدثوا منتقدين الثورة الثقافية. لم يكن هناك أيّ منهم ينظر من فوق كتفه أو كتفها، متوقعا اعتقاله.

في شنغهاي، رأيت متناقضات عظيمة. قد توجد في شارع محلات رائعة تبيع نسخا من أحدث صيحة في الأزياء الأوربية الفتانة، وقريبا من الركن في شارع خلفي توجد هناك أسر فقيرة حشرت في غرفة واحدة مع مصباح ضوء هزيل. وسمعت ذات مساء أسرة صينية تغني «Happy Birthday». كان ذلك غريبا. قد تعتقد أن لديهم أغنيتهم الخاصة بعيد الميلاد. لكنّ كلّ مجتمع مهيمن في العالم - سواء كان فرنسيا أو إنجليزيا أو أمريكيا - يفرض ثقافته على المجتمعات الأقل تقدما.

المساواة بين الجنسين

  • كل صديقاتي في الأكاديمية طلبن مني أن أسألك سؤالا حول المساواة بين الجنسين.

- مازلت أبتعد عن حديث مساواة الجنسين، أليس كذلك؟ ممّا لاحظت، وممّا أخبرني به الأصدقاء، فإن مساواة الجنسين تحوّلت إلي دين ذي عقائد وكنائس. أنا بالتأكيد، لا أحسد الرجال في الجامعات الأمريكية. لكن هذه المرحلة على وشك أن تنقضي. لا أستطيع الاستمرار أكثر من ذلك. يمكن لأمريكا أن تكون بلادا هستيرية جدا بشكل ثقافي ومتزمتة جدا أيضا. من المحتمل أن تتمتع بخصوصيتك، لكن يبدو أن بقية العالم تكره المرح، أن تكون كبيرا على جداول الأعمال وضعيف العفوية. تصبح الصورة التي تقدّمها واحدة من التزام مروع. تصبح محكوما بشرطة فكرية. هناك عدد من المؤمنين بمساواة الجنسين ممن يعملون في أجهزة الإعلام، وهم يعتقدون أن مساواة الجنسين مهمة. يحدث ذلك في حياتهم الخاصة، لكن في الغالب يكون لمساواة الجنسين تأثير بين النساء صاحبات الامتيازات في البلدان الغربية المتقدمة. بالنسبة إلى الجانب الأكبر، فإنّها لم تبدأ بمسّ حياة النساء الفقيرات والعاملات في دول العالم الثالث، وهو ما يحزنني.

  • عند ختام روايتك «مارا ودان»، هناك ملاحظة تجعل بطلتك مارا تبدو مثالا، حين تقولين «نعم، هذا صحيح، ولكن..». كم تبدين صريحة في هذا الكتاب؟

- إن الشيء الواضح، هو أنني عشقت طفل الأخ هاري.

  • ليس من الضروري أن تكون عبقريا كي تري أن مارا قد تكون أنت، وأن دان هو هاري. مثل كثير من كتبك الأخرى، تدور رواية «مارا ودان» حول رحلة.

- أكره أن أردد كليشهات، لكنني أرى الحياة فعلا كرحلة. كيف يمكن أن ترينها بخلاف ذلك؟

  • هل يمكن أن تكتبي امتدادا لرواية «مارا ودان»؟

- كم أحبّ أن أفعل ذلك، لأنني مسحورة بشخصية دان، لكن كلّ شخص في أمريكا يكره الكتاب، لذلك فأنا لا أدري. يجب أن أنتظر وأرى. إنّ وقتي ينفد.

 

إعداد وترجمة: حسين عيد 




دوريس ليسنج.. من الظلال الى أضواء نوبل





 





لقطة معبرة لدوريس ليسنج أمام منزلها في لندن لحظة معرفتها بحصولها على جائزة نوبل أمام وكالات الأنباء





بعد نوبل انقلب الهدوء الذي كانت تنعم به ليسنج الى ضوضاء متواصلة