الأزمة الاقتصادية العالمية وآثارها على الدول العربية

الأزمة الاقتصادية العالمية وآثارها على الدول العربية

عندما يثار الحديث عن العولمة الاقتصادية فإن هذا يحدث بمعنى يكاد يتعارض على نحو مع الوقائع اليومية التي نشهدها في حلبة الاقتصاد العالمي ، والمعنى الذي نقصده هو الحديث المبالغ فيه أحيانا عن تدويل عملية الإنتاج والاستهلاك بحيث تصبح جميع بلدان العالم وحدات ذرية في مجرة اقتصادية لا يملك أحد التأثير عليها. والواقع أنه برغم صحة الحديث نسبيا عن هذه العولمة من زاوية ضخامة حجم التعاملات وازدياد عدد الفاعلين الدوليين فإنه لا يلغي في رأينا حتى الوقت الراهن من توزيع التأثير والثقل النسبي للوحدات المكونة لما يطلق عليه العولمة الاقتصادية، أو بمعنى آخر فإن الحديث عن العولمة ينبغي أن يقترن دائما، إذا ما أريد أن يكون له فائدة تحليلية بأوزان نسبية محددة- بالمعنى الرياضي- للوحدات المتفاعلة في إطار هذا الاقتصاد الدولي، ولا يقتصر الحديث هنا عن أهمية بعض الأطراف من حيث ضخامة الحجم فقط مثل حجم الصادرات أو الواردات أو الاستثمارات، بل ينبغي في الواقع أن يقترن ذلك أيضا بالآثار التي يمكن أن تنجم عن السياسات الاقتصادية في أي بلد من البلدان، ومن هنا فإننا سنجد فروقا هائلة فيما تمارسه هذه السياسات من آثار سواء على المستويات المحلية أو الدولية باختلاف الطرف الفاعل ومنزلته في الاقتصاد الدولي.

وأيا ما كانت ستسفر عنه الأوضاع سواء كان في جانب التحول إلى ركود عالمي، أو مجرد التباطؤ في النمو الاقتصادي وهو ما نرجحه الآن، فالواقع أن هـناك ثلاث قنوات رئيسية من المحتمل أن تتأثر بها البلدان العربية بالأزمة الاقتصادية العالمية أيا كانت طبيعتها، وهذه القنوات هي: التجارة الدولية وحركة تحرك رُءُوس الأموال والاستثمارات الدولية، ثم تأثر العلاقات الاقتصادية البينية كانعكاس للتأثر بالأزمة العالمية.

العرب والتجارة العالمية

نظرًا لأن النفط مازال يلعب الدور الأكبر في مجال الصادرات العربية، فإن التوقعات المرتبطة به في المستقبل القريب من حيث حجم الصادرات ومستوى الأسعار تشكل لا جدال مجال التأثر الأول للدول العربية بالأزمة الاقتصادية العالمية حتى لو كانت هذه الأزمة هي في شكل انخفاض أو تباطؤ في وتيرة النمو ناهيك عن أزمة كساد عالمي شاملة.

وتفيد آخر التوقعات بأن معدل النمو في الطلب العالمي على النفط في عام 1998 لن تتجاوز 1% وفي أفضل الأحوال لن تتجاوز 1,2% خلال عام 1999. وذلك مقابل توقعات سابقة بتجاوز هذا المعدل 2% على أقل تقدير قبل وقوع الأزمة الآسيوية في عام 1997، لهذا ترى بعض الأوساط أن الطلب على نفط منظمة الأوبك لن يتجاوز 26,6 مليون برميل خلال العام 1999 مقابل 26,3 مليون برميل خلال عام 1998، هذا مع الأخذ في الاعتبار أن الأوبك كانت تنتج فعليا حتى بعد خطط خفض الإنتاج ما يزيد على 27 مليون برميل يوميا في الشهور الأخيرة من عام 1998. ويعني هذا أن دول الأوبك عليها أن تتمسك بخطط خفض الإنتاج لمدى زمني أطول من ناحية وأن الأسعار في أفضل الأحوال لن تزيد سوى زيادات هـامشية، هذا إن شهدت أي زيادة على الإطلاق.

ويهمنا في هذا المقام الإشارة إلى أمرين مهمين يتعلقان بموضوع النفط العربى تحديدا: أولهما أن أكثر الدول تأثرا بالأزمة العالمية حتى الآن، أي بلدان آسيا وبينها إليابان، هي السوق الرئيسي للنفط العربي خاصة الخليجي ومن ثم فإن مدى عمق الأزمة واستمرارها سيكون لا محالة ذا تأثير قوي سلبا أو إيجابا على الدول المصدرة للنفط لهذه المنطقة، ويكفي في هذا المجال الإشارة إلى أن بعض المصادر تقدر أن الطلب الياباني على النفط قد انخفض بنسبة 2%- 3% خلال عام 1998 وبمعدلات تقترب من 15% في كل من تايلند وكوريا الجنوبية، كما أن بعض البلدان التي شهدت نموا قويا في الطلب على النفط خلال عامي 1996 و 1997 من المنتظر أن تسجل مستويات نمو أقل خلال عامي 1996 و1997 1998 و1999 مع عودة النشاط الاقتصادي ليشهد بعض التباطؤ بآثار الأزمة الإقليمية والعالمية ويهمنا هنا تحديدا كل من الصين والهند.

أما الأمر الثاني فهو أن دائرة الدول العربية المتأثرة بانخفاض الصادرات النفطية لا تشمل الدول الخليجية فقط التي يتم التركيز عليها عادة. إذ نجد أن نسبة الصادرات النفطية إلى حجم الصادرات الإجمالي في الدول العربية تتوزع على 90%- 100% وتشمل ليبيا والكويت والسعودية بين 80-90 % مثل الجزائر واليمن، ودول تتراوح فيها هذه النسبة بين 40-60% مثل مصر وسوريا والإمارات والواقع أنها تزيد على ذلك كثيرا في حالة الإمارات إذا ما استبعدنا إعادة الصادرات من جملة صادرات هذا البلد. كما أن البحرين أيضا ستشملها هذه القائمة إذا ما تمت إضافة الصادرات من جملة صادرات هذا الصادرات من النفط الخام، وهناك أخيرًا بلدان مصدرة صافية للنفط وإن في حدود ضئيلة مثل تونس.

يمكننا القول إذن إن أغلبية الدول العربية ستتأثر مباشرة من انخفاض عائداتها النفطية. وهناك بعض الدول التي يمكنها أن تحقق بعض الاستفادة من انخفاض أسعار النفط وهي البلدان المستوردة مثل المغرب والأردن. ولكن نظرا لأنه من المنتظر أن تنخفض جميع أسعار المواد الأولية مع أزمة الركود العالمي أو تباطؤ حدة النشاط الاقتصادي، فإنه من المنتظر أن تتأثر حصيلة صادرات الدولتين الأخيرتين من الفوسفات وغيرها من المواد الأولية التي مازالت تشكل نسبة لا بأس بها من حصيلة صادرات هذين البلدين وغيرهما من البلدان العربية المصدرة للمواد الخام سواء من المصادر الزراعية أو المنجمية.

أما في مجال الصادرات غير النفطية فلا جدال في أن الدول العربية المصدرة ستشهد منافسة حادة من قبل عدد كبير من المنتجين الآخرين، ففي أجواء الأزمة ستحاول جميع البلدان ما وسعها الجهد المحافظة على أسواقها وحصصها السوقية، وفي هذا الإطار يكفي الإشارة إلى زيادة القدرات التنافسية لدى البلدان التي خفضت من قيمة عملاتها في جنوب شرق آسيا وغيرها من البلدان، وهو الأمر الذي تشهد عليه زيادة صادرات هذه البلدان إلى أوربا والولايات المتحدة الأميريكية ومنافستها للعديد من الصادرات العربية لاسيما من منتجات الغزل والمنسوجات وغيرها من المنتجات، ومن المتوقع أيضا في حالة التباطؤ الشديد في النمو في الأسواق الرئيسية المستوردة أن تقل كمية وارداتها وهو ما يعني أن تتضاعف أكثر حدة التنافس على الأسواق.

أما في مجال الواردات فإنه برغم أن الدول العربية يمكنها أن تحقق بعض الاستفادة من الانخفاض في الأسعار العالمية للعديد من السلع المصنعة، فإن الاستفادة هنا لن تعادل الانخفاض الحادث في حصيلة الصادرات. فنحو ربع حجم الواردات الإجمالية العربية هو من السلع الغذائية، ومن غير المنتظر أن تنخفض أسعار هذه المواد بشكل ملموس مع توقع انخفاض حجم الإنتاج من السلع الغذائية الرئيسية مثل الحبوب.

الأثر الصافي إذن لقناة التجارة الدولية على الدول العربية من المنتظر أن يكون سلبيا مع الوضع في الاعتبار الهيكل الحالي للتجارة الخارجية العربية.

حركة رءوس الأموال

كانت العديد من البلدان العربية لاسيما تلك التي قامت بتطبيق سياسات الإصلاح الهيكلي والخصخصة وإنعاش أسوق المال والبورصات أخيرًا تراهن على رأس المال الأجنبي سواء المباشر أو غير المباشر في العمل على تعزيز مسيرتها الاقتصادية ورفع معدلات النمو الاقتصادي بها إلى مستويات لا تستطيع المدخرات المحلية وحدها أن تحققها. والواقع أن عدم التأثر الكبير بالأزمة الآسيوية في أغلب أسواق المال العربية لا يعود إلى حصانة خاصة بهذه الأسواق وإنما لكون المنطقة العربية تعد تاريخيا من أقل مناطق العالم تلقيا للاستثمارات العالمية خاصة المباشرة أي التي يتم استثمارها مباشرة في إنتاج السلع والخدمات، كما يعود هذا الأمر إلى حداثة ومحدودية حجم وانفتاح الأسواق المالية في المنطقة على العالم. وبرغم ذلك لا يمكن إنكار أن بعض البورصات العربية كانت قد شهدت قبل الأزمة الآسيوية بعض التدفقات الرأسمالية غير المباشر للاستثمار في الأسهم والسندات، وكان هذا من أسرار بعض الانتعاش الذي شهدته بعض البورصات العربية مثل مصر والأردن والمغرب وتونس. ومن هنا فإن اتجاه مؤشرات الأسعار في بعض البورصات العربية كمصر في عام 1998 بعد جزئيا نتيجة لإحجام صناديق الاستثمار والمستثمرين الأجانب عموما عن الاستثمار في الأسواق الناشئة إجمالا كنوع عن التحوط بعد الخسائر التي تحققت في آسيا، ومع ذلك ونظرا لأننا هنا نتحدث عن وضع ابتدائي يتسم بتدني حجم التدفقات الرأسمالية الأجنبية فربما يكون هناك بعض النتائج الإيجابية المتعلقة بجذب حجم أعلى من رءوس الأموال هذه في حالة استمرار البلدان العربية المعنية في فتح المجال أمامها وإدارة سياسة الاقتصاد الكلي فيها على نحو رشيد يحاول تجنب المضاعفات السيئة للأزمة العالمية على اقتصاداتها ويزيد بالتالي من جاذبيتها أمام المستثمرين الأجانب.

ونظرا لمحدودية نسبة التجارة العربية البينية التي لا تتجاوز 8% من الحجم الإجمالي للتجارة العربية فإن حجم التأثر هنا سيكون بالضرورة محددا. وربما سيكون مصدر التأثير الأكبر هو ذلك الناجم عن السياسات الاقتصادية العربية في محاولتها التكيف مع مضاعفات الأزمة العالمية. ونرشح هنا السياسات المالية العربية في دول الخليج باعتبار أنها يمكن أن تكون أهم قناة سيتأثر بها المواطن العربي سواء في ذلك لخليجي أو غير الخليجي.

ربما يكون الملمح الأساسي في تطور السياسات الاقتصادية لدول مجلس التعاون الخليجي في أعقاب أزمة الغزو العراقي للكويت، هو التركيز على تطوير سياساتها المالية بعد استنزاف جزء كبير من احتياطاتها لتغطية تكاليف الحرب من ناحية، واستجابة للانخفاض المستمر غير المتوقع في أسعار النفط لاسيما خلال الفترة 1991- 1994. وهذا الأمر لا مندوحة عن اللجوء إليه مرة أخرى مع اتجاه أسعار النفط للانخفاض من جديد وتخفيض كميات الإنتاج من النفط حسب اتفاقي الرياض و أمستردام.

ومن المعروف أن السياسة المالية في هذه الدول هي المحدد الأساسي للسيولة المحلية والطلب الكلي وكذلك معدلات النمو في القطاعات غير البترولية. فحيث يعد النفط مصدر الثروة المحدود للقطاع الخاص في النشاطات الإنتاجية، بل إن توسع القطاع الخاص قد اعتمد بشكل أساسي على إنفاق الحكومة سواء في شكل دعم مباشر، أو الاستفادة من العمليات التي تمولها الموازنة العامة خاصة في قطاع التشييد والبناء. ولذلك فإن الدور المتزايد للقطاع العام والحكومي دفع إلى استمرار ارتفاع إنفاق الموازنة وخاصة مع تزايد الإنفاق على قطاعات الرفاهة العامة " الصحة- التعليم "، والدعم المباشر للعديد من الخدمات والسلع المنتجة محليا، فيما عرف باسم "دولة الرفاهة النفطية ". والواقع أنه لم تكن هناك مشكلة كبيرة في تمويل الموازنة مادامت أسعار النفط في السوق العالمية مرتفعة نسبيا، لكن الهبوط الكبير في أسعار النفط، وبالتالي إيرادات الموازنة منذ منتصف الثمانينيات، تطلب خفضا في الإنفاق والبحث عن مصادر لتمويل العجز داخلية أو خارجية، وكذلك محاولة زيادة وتنويع إيرادات الموازنة من المصادر الأخرى سواء كانت خارجية أو من القطاعات الأخرى غير النفطية.

ويتبين من تتبع الموازنات الحكومية الخليجية من حيث العجز والفائض كنسبة من الناتج المحلي الإجمالي في دول مجلس التعاون خلال الفترة من عام 1992- 1997 ارتفاع نسبة العجز في دول المجلس، حيث لم يتحقق فائض في أي بلد من بلدان المجلس إلا في الإمارات وعمان في عام 1996. وهو العام الذي ارتفعت فيه أسعار النفط إلى مستويات لم تحدث منذ عدة أعوام ولم تتكرر في العامين التاليين لها. ونلاحظ ثانيا ارتفاع نسبة العجز إلى مستويات بالغة الارتفاع في الكويت بتأثير عمليات إعادة الإعمار بعد التحرير. وثالثا فإن نسبة العجز قد مالت للانخفاض الواضح في عام 1995 مع بدء الإصلاح المالي في هذه البلدان ثم انخفاض هذا العجز مرة أخرى في عام 1996 مع استمرار بعض الترشيد في السياسة المالية في بعض البلدان والارتفاع الكبير في أسعار النفط في هذا العام، وهو ما انعكس في شكل زيادة الإيرادات عن المقدر في مشروع الموازنات.

ولكن الانهيار الذي حدث في الأسعار في عام 1998 والاحتمالات القوية لاستمرار الأسعار ضعيفة خلال عام 1999 على الأقل تعني أنه لابد من الاستمرار في جهود ترشيد الإنفاق الحكومي بما لذلك من آثار على المواطنين وعلى النشاط الاقتصادي في مجمله.

بل ربما نجازف بالقول إن هذه الآثار لن تكون مقصورة على مواطني تلك الدول فقط، حيث ستنعكس لا مفر على بقية المواطنين العرب العاملين في هذه البلدان، لاسيما من بلدان مثل مصر والسودان وسوريا ولبنان والأردن وغيرها. فهناك الآثار المباشرة التي ستتركها عملية ترشيد الإنفاق الحكومي من ضغط للإنفاق في الباب الأول الذي يشمل الأجور في الموازنة وضغط فرص العمل التي تتيحها الدوائر الحكومية والقطاع العام، وهناك الآثار غير المباشر التي ستتركها عملية إحلال العمالة الوطنية محل العمالة من الدول الأخرى في القطاع العام ودوائر الحكومة. ومع تقلص فرص العمل المتاحة في القطاع الخاص في البلدان الخليجية، سواء مع عدم النمو القوي لهذا القطاع في الظروف الراهنة، أو لإحجام القطاع الخاص عن توظيف مواطني بلدانهم أو إحلالهم محل العمالة الأجنبية نظرا للتكلفة الأعلى المرتبطة بهذه العمالة. وبذلك يمكن إن السياسة المالية الخليجية المقيدة لن تنعكس على مواطني هذه البلدان فقط، بل ستكون أوسع انتشارا لتؤثر على عدد أكبر من المواطنين العرب سواء كانوا العاملين فعلا في هذه البلدان، أو هؤلاء الذين كانوا يبحثون عن فرصة للعمل فيها.

 

 

مجدي صبحي

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات