العولمة وتعريب الترجمة

العولمة وتعريب الترجمة

نقصد بالعولمة ذلك النزوع الثقافي الذي يبدو في ظاهره جديدا ويسميه البعض النظام العالمي الجديد, أو يقال إن العالم بات قرية واحدة تهاوت معها الحدود القومية ليسود مركز عالمي علمي وتقني واقتصادي وثقافي, وتروج لهذا المفهوم الولايات المتحدة الأمريكية والشركات متعدية القوميات, وهذا هو الجديد, ونجد قرين ذلك نزوعا آخر يدعو إلى حوار البحر المتوسط أو حوار الشمال والجنوب بين أوربا وبلدان حوض البحر المتوسط (وهي عربية) وبلدان إفريقيا, ويأتي هذا تعبيرا عن صراع خفي بين العولمة بمفهومها الأمريكي وبين سعي أوربا بعامة, وفرنسا أو الرابطة الفرانكفونية لخلق مجال قوة مناهض, ونذكر بهذه المناسبة ندوة الترجمة المنعقدة في تاليدو أو طليطلة في اسبانيا عام 1995 بعنوان (تبادل الأفكار في حوض المتوسط: دورة الترجمة) وساهمت فيها البلدان العربية المطلة على البحر المتوسط, ويأتي ثالثا تحت عباءة شعار العولمة نزوع باسم الشرق أوسطية الذي يهدف إلى فتح الحدود الاقتصادية والثقافية... إلخ, بين جميع بلدان الشرق الأوسط وأولها إسرائيل, وغني عن البيان طبيعة العلاقة بين إسرائيل والولايات المتحدة, وانسجام الأدوار بينهما عسكريا واقتصاديا وثقافيا بل وبحثا علميـا, ونذكر هنا ما قاله شيمون بيريز من أنه لم يعد المال هو القوة الحاكمة والمحركة وأداة الهيمنة بل الفكر, وأن العالم العربي يملك المال ونحن- أي إسرائيل- نملك الفكر والعلم وتكنولوجيا الإنتاج, وهو قول صريح يفسر أشياء كثيرة على مستوى الشرق أوسطية أو (العولمة) الإقليمية, حيث تبدو إسرائيل في صورة مقاول الباطن لمصلحة العولمة الأوسع.

العولمة وعالمية المعرفة

وجدير بالذكر أن من مظاهر العولمة النزوع إلى عولمة الثقافة أو نظام هندسة التحكم الاجتماعي العالمي في سلوك المجتمعات وشيوع قيم لمصلحة القوة المهيمنة, ونحن نمايز بداية بين العولمة والعالمية في مجال الفكر العلمي والمنتج التقني العالمي القدرات والذي تجسده كمثال تكنولوجيا الاتصالات والحواسب والهندسة الوراثية والتشابك الاقتصادي... إلخ, ولكن العولمة كاسم فعل تعني فرض نهج بذاته ومصالح وقيم ثقافية بذاتها, وكل ما تراه القوة ذات الهيمنة أمرا نافعا وضروريا لها وفاء لمصالحها, إذ إن العالمية لاتنفي التنوع والتمايز والمنافسـة والتكامل, بل ولا تنفي صراع المصالح, ولكن العولمة محاولة للحفاظ على الأوضاع أو تثبيتها على نحو بذاته طبقا لمصالح مركز محدد له الغلبة والهيمنة في الإنتاج التقني والعلمي والثقافي.

نعم نحن نعرف ونؤمن بأن المعرفة العلمية أضحت نشاطا إنتاجيا وإبداعيا في صورة شبكة عالمية, وأن التحكم في هذه الشبكة منوط بأصحاب القدرة على الإسهام, كل حسب نصيبه في هذا النشاط الإنتاجي الإبداعي, ومن الأسف أن العرب, شأن بلدان العالم الثالث, خارج هذه الشبكة, وإنما القوة المتحكمة هي القوى الصناعية الأولى في العالم بجامعاتها ومراكز أبحاثها وإنتاجها التقني الذي تطور على مدى خمسة قرون, إنها الغرب بكل تناقضاته, ويمثل الغرب المركز, إنه مركز الإنتاج والتحكم, والتوظيف المعلوماتي, وهو منهل المعارف والمعلومات العلمية سواء في صورة كتب أو دوريات أو مراكز بحث وجامعات أو شبكة اتصالات عالمية إلكترونية أو وكالات أنباء... الى كل ما يسهم في صناعة العقول أو التلاعب بها.

وحري بنا ألا ننسى أن المعرفة سلطة, وأداة هيمنة, وأن من يملك المعرفة وأدوات توزيعها والقدرة على توظيفها يملك سلطة التحكم في العقول التابعة.

ولقد بدأت نشأة هذا المركز أساسا في أوربا ثم اتجه إلى الغرب البعيد حيث الولايات المتحدة الأمريكية مما يهيئ لها فرصة المزيد من التحكم على أساس منظور أيديولوجي قومي يعبر عن حلم أمريكي يزيد عمره على المائة عام.

هيمنة المركز

وثمة مسافة كبيرة تفصل بين المركز وبلدان المحيط أو الأطراف أو الحافة, أو سمها ما شئت, وانما هي بلدان عاطلة من القدرة على التحكم أو الإسهام بنصيب فاعل في هذا كله أو بدرجات متفاوتة, وهذه هي بلدان العالم الثالث, وإن تباين دورها ومستواها وتراتبها في موقعها عند الحافة, وهكذا أصبح للمركز الهيمنة في عصر المعلومات على بلدان الحافة, المركز له الهيمنة إنتاجا وإبداعا وتوزيعا حيث أكبر قدر من الجامعات ومراكز الأبحاث التي يقصدها أبناء بلدان الأطراف لتلقي العلم والثقافة, وحيث مراكز الإعلام والتوزيع والدوريات ووكالات الأنباء وبث المعلومات التي تصل مصاغة أيديولوجيا إلى أبناء بلدان الأطراف.

وهكذا يبدو العالم الثالث تابعا, ومن بينه بلدان العالم العربي التي تحتل مرتبة أدنى كثيرا مما هو شائع في رطاننا الاجتماعي, بل أقول إن ثروات العرب الضخمة, من دون إدارة صحيحة وتغيير جذري, لا يمكنها أن تنقله من موقع الحافة, نظرا لعدم أهليته, ليحتل موقعا متقدما ومتميزا على الحافة ويقربه نسبيا من المركز, إننا قد نشتري منتجا تقنيا متقدما ومعقدا, ولكن هذا ضرب من التظاهر الاستهلاكي لا ينقلنا حضاريا, إذ العبرة بالعقل المبدع والنشاط الإنتاجي والمناخ الاجتماعي للتنشئة والتعليم وإدارة المجتمع وحرية الفكر والإنسان, والعبرة بالهدف ودوره في الحراك الاجتماعي, الثروة الحقيقية ليست في امتلاك المال أو حيازة المنتج التقني بل هي في النشاط الإنتاجي الإبداعي للمعلومات وتوظيفها وفي القدرة على تشغيل وصيانة وتطوير المنتج, وهذه قدرة مجتمع, ودليلي على هذا أن عددا من بلدان الحافة الفقيرة جدا (مثل الهند) احتلت موقعا متقدما على الحافة لا تحتله البلدان العربية, وذلك بفضل تطوير التعليم والجامعات ومراكز البحث والاتصالات, وتوفير بنية أساسية للإبداع المعرفي وتوزيع وتوظيف هذا كله تخطيطيا, وهذا هو ما تفتقر إليه البلدان العربية على الرغم من وفرة المال, والطريق ليس ممهدا, فإن دول المركز ترى في هذا تناقضا مع مصالحه, إذن هي مسألة تحد وصراع.

وهكذا يبين بوضوح أن المعرفة كلها أو جلها, خاصة العلوم الأساسية والمدارس الفكرية يتم إنتاجها في الخارج, وعالمية المعرفة لاتنفي أبدا مركزية الإنتاح وتبعية الأطراف, وهي علاقة دينامية قابلة للتحول والتغير شريطة وعي بلدان الأطراف وتكثيف العمل العلمي المشترك في تكامل وتضافر من أجل التحول إلى قوى إنتاجية إبداعية للمعرفة وفقا للمقتضيات الحضارية لهذا النشاط.

الموقف الصواب

والحديث عن حرية انتقال المعلومات والتبادل الثقافي سيكون حديثا لا معنى له حين يكون أحد الأطراف خاوي الوفاض عاطلا من العطاء لا يملك إلا ثقافة اجتماعية مقطوعة الصلة بحضارة العصر, مما يجعله في موقع الضعف والاستهلاك, وحيثما تفاعلت ثقافتان وكانت إحداهما قوية والأخرى ضعيفة فإن الثقافة الأقوى تستوعب الأضعف وتمحوها مع الزمان, وينتفي التفاعل الذي شرطه الندية والكفاءة. وقوة الثقافة لا تأتي من استظهار الموروث بل تأتي من نشاط المجتمع نشاطا منتجا على مستوى المنافسة العصرية وتنظيم وإدارة المجتمع على نحو عصري علاوة على جذور العراقة والتاريخ, ليس الموقف الصواب انزواء اجتماعيا واغترابا في الزمان مع السلف, وليس ارتماء في أحضان الوافد القوي وإنما قبول التحدي والانتصار على أهواء الذات, تحدي ما هو متخلف في الموروث, وتحدي الوافد باستيعاب أسرار قوته ومواكبته والسعي لتجاوزه مع توفير شروط الانتماء إلى العصر, وهذا ما فعلته اليابان حين قررت في عصر الميجي الانفتاح على الغرب بعد أن جفت ينابيع التقليد ولم تعد هي مفتاح الدخول إلى حضارة العصر, قررت اليابان كما كان يقضي شعارها الاجتماعي القومي آنذاك والذي يلخص استراتيجيتها (أمة غنية وجيش قوي), واتخذ تحديها وصراعها البعد التالي:

1- مقرطة نظام الحكم.

2- رأسمالية صناعية إنتاجية.

3- التعليم إجباري للجميع.

4- جيش وطني قوي.

5- استيعاب العلوم الأساسية والتطبيقية.

لهذا فإن الاستجابة الصحيحة إزاء العولمة وإزاء وضعنا المتدنى عند الحافة أن نضع خطة لدعم الاستقلال والحرية في إطار النسق الدولي للمعرفة وبالتعاون والتخطيط مع بلدان العالم الثالث:

1- أن يكون للبلدان العربية بناء على تنسيق وتعاون حقيقيين إسهام واضح ومميز وقابل للتكامل مع النسق العالمي للمعرفة.

2- دعم التعاون الإقليمي العربي في هذا الاتجاه, وهو ما أشارت إليه اتفاقيات ثقافية وتعليمية وعلمية عربية عديدة لم تر النور.

3- تضافر الجهود مـع بلـدان العالم الثالث لمواجهـة الابتكـار العالمي لإنتـاج وتوزيع المعرفة وتوظيفها اجتماعيا وأن تنهض بذلك مؤسسات تشكل منظومة متكاملة.

4- الوعي على المستوى الاجتماعي بحقيقة التحديات مهما غلفها البعض بعبارات مثل العولمة, والشرق أوسطية, وأن نمايز بين عالمية الفكر والعلم وعالمية التحولات والإنجازات, وبين عالمية الهيمنة والادارة لمصلحة طرف بذاته, وهو ما يعنى الحاجة الماسة إلى عصر تنويري جديد يعبر عن مصالح الإنسانية بعامة دون تمييز ويكون محور استقطاب عالمي.

امتلاك الثقافة

إننا لن نستطيع أن نصوغ معنى الوجود الإنساني يقر في نفوسنا ونشعر بالانتماء نحوه اجتماعيا, ونجاهد وصولا إليه هدفا أسمى في إطار المنافسة العصرية, إلا إذا امتلكنا ثقافة هي نتاج نشاطنا الاجتماعي أي ثمرة فعاليتنا الإيجابية وتفاعلنا النشط على المستوى الحضاري, وهذا هو سبيلنا إلى صحوة حقيقية وليس الانزواء اجتماعيا, وردة إلى الماضي. وهكذا تكون أهدافنا نسقا من ابتكارنا, نسقا نحدده في ضوء الخطوات التي ينبغي أن نترسمها نحو أهدافنا التي تصون وجودنا تأسيسا على علم نشارك العالم في إبداعه وإنتاجه, وتقانة نسهم في إنتاجها إذ من دون ذلك سنظل مستهلكين تابعين.

ولهذا حري بنا أن تكون الترجمة هي إحدى خطواتنا الاجتماعية التي نخطوها في توافق مع نسق المعلومات والمعارف, وفي اتساق مع إنتاج فكري وعلمي ذاتي, في ضوء إستراتيجية تنموية عربية بحيث ترسخ في مجتمعاتنا ثقافة الإدارة والتغيير, الإنتاج المعرفي والتقني.

إن أزمة الانشطار الثقافي بين تقليد وتجديد, أو أصالة وحداثة إنما هي أزمة بطالة, أزمة مجتمع عاطل من الفعل الاجتماعي العلمي والتقني النشط, وحين يكون العلم والمعارف العلمية مجالا لممارسة نشاطنا فسوف يكون نشاطنا حضاريا متقدما أصيلا مجسدا في الفكر والعمل, وبهذا تزدهر وتتفتح ذاتيتنا أو هويتنا الاجتماعية, وتتدعم أصالتنا على مستوى العصر, ويبين زيف الانشطار الوهمي المزعوم, وسوف تسهم الترجمة في حسم هذه المشكلة, إذ تهيئ من خلال النشاط المؤسسي الفرصة للاختيار الواعي العقلاني, وأن يكون اختيارا جمعيا مخططا وفقا لما يتسق مع حركة نهضوية.

وتسهم الترجمة القائمة على التخطيط والاختيار الواعي العقلاني في دعم ديمقراطية المعرفة بإشاعة الثقافة العلمية فلا تكون حكرا على نخبة تتعامل مع اللغات الأجنبية مما يفضي إلى تهميش غيرهم, خاصة بعد شيوع تكنولوجيا سمعية وبصرية إلكترونية مصدرا للمعلومات وللمعايشة العالمية من شأنها أن ترسخ شعورا بالتميز والتمايز والنخبوية المنعزلة والمتعالية, هذا علاوة على أن التقدم العلمي في عصرنا لا يحقق ثمرته المرجوة إلا بفضل مناخ اجتماعي داعم يشمل الإنسان العام المنتحي والمشارك إيجابيا في إدارة المجتمع وشحذ طاقاته.

واختيار المعرفة

ومع تحدي العولمة والشرق أوسطية بات لزاما ألا نترك الإنسان العربي العام نهبا مستباحا لهذه الثقافة يختارها له الآخر أو يفرضها عليه وهو مهيض في خواء, وإنما تكون المعرفة اختيارنا نحن تعزيزا للمنعة الثقافية التي تحصنه على أساس علمي ضد الانهيار أو الاستسلام لرياح مغرضة تهب عليه باسم العولمة, إذ نلاحظ أن قسطا كبيرا من الترجمة في العالم العربي هي اقتراحات بقوائم تعرضها مكاتب ومراكز وبعثات أجنبية ديبلوماسية على الناشرين مثل مركز الكتاب الأمريكي ومؤسسة فولبرايت والبعثة الفرنسية... إلخ,ولهذا ندعو إلى تعريب الترجمة, الترجمة الواعية التي تحمي العقل من الانغلاق الفكري, وتحميه كذلك من التبعية المطلقة والذوبان في الآخر, وأن تكون هذه الترجمة المنتقاة عاملا نشطا في صياغة إطار فكري متبلور في اتـساق مع ثقافتنا ومشروعنا القومي, إنها الاختـيار المؤسسي الواعي بدلا من الرفض المطلق أو التسليم التام.

 

شوقي جلال

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات